الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد السادس عشرالرجوع إلى "الرسالة"

عبد الحق حامد

Share

نشرت فى "الرسالة" الماضية ترجمة المقدمة المنثورة التى   كتبها شاعر الترك الأكبر للمرثية الكبرى التى رثى بها زوجه  فاطمة وسماها "المقبر" ووعدت أن أنشر فى هذا العدد مثالا  من شعر هذه المرثية.

ولا أكتم القارئ أنى حين وضعت الكتاب أمامى - وهو  زهاء ألف بيت تدفق بها قلب الشاعر الحزين على غير ترتيب -  لم أدر كيف أختار: الرسالة لا تتسع للأسهاب، والايجاز لا يفى  بالأبانة. ولولا وعد لقراء الرسالة سبق ما كلفت نفسى هذا الشطط.

عبرت الكتاب أنتقى من صفحاته، أبدأ ترجمة الفكرة  ثم يضطرنى إطناب الشاعر إلى الوقوف دون غايتها. وأجد البيت  الفرد البديع مكملا أبياتا كثيرة فلا أستطيع أن أترجمه وحده،  ولا أن أترجم كل ما اتصل به، على أن فى بعض الأبيات إبهاما  وغموضا وفى بعضها اضطرابا. وقد وصف الشاعر كتابه فى المقدمة  التى يذكرها القارىء، وقد ترجمت عجلان حين ضاق الوقت،  حتى أرسلت المقال بالبريد على قطعات، من خوف "الزيات":

أواه لم يبق الحبيب ولا الدار، وبقى قلبى ملؤه الأحزان  والأكدار. كانت هنا الآن فصفرت منها اليد؛ جاءت من الأزل  وذهبت الى الأبد.

ذهبتُ وبقيت هى ترابا، وحلت رفاتها قفرا يبابا. أواه  انما بقى من أنس القلب الكريم، قبر فى بيروت مقيم.

أين أين أفتش عن هذا الحبيب؟ ومَن أسائل عن هذا الغريب. ياربَّ! أين أين هي: فى الأرض أم السماء؟ ربّ! من قذف بى فى هذا الشقاء؟

يقولون: انس خِلّ الوفاء، فقد سلك طريق البقاء. هل

يسع الخيال هذه الحقيقة ، وهل ترى العين هذه الفجيعة ؟

ما أسرع ما انقلبت بى الحال ! انقلاب لا يصدقه الفكر والخيال .أرى شيئا ،أراه يشبه القبر ! و يشبه الحبيب حين أنعم النظر .

تمضي بى على الشك الليالى، ويزيد على مرّها حزنى ووبالى.  إنها صدمة انقلاب قتّال، فليت شعرى هل حُم لي الزوال؟ هلمّ فاطمة أصعدى من اللحد، وارجعى سيرتك التى  أعهد. لاتكتمي عنى هذا السّر. وأفصحى بكلمة. اواه إنما أريد كلمة منك. ابتسمى ابتسام الورد، وداوى جرح القلب. وأتمى أيام  حياتى بنظرة معسولة، أو بسمة ساحرة. أقبر هذا؟ ما هذا الذى أرى؟ أمكان الحبيبة هذا الثرى؟  إنها لمحنة، انها لحيلة، انها لفنائى وسيلة.

أنظر أنظر كيف حال الياسمين المنوّر، وانظر إلى الوجه الوردى كيف اغبرّ: تعسا لك تعسا أيها الجَدّ الأعسر، وياويلتا إلى يوم المحشر.

ربّ ما غاية هذا العيش الأغبر؟ وما غَدُ هذا البشر؟ أبلغ فكري روحها، أو سيِّر روحي إلى ترابها. . . . . ربّ ما هذا الصفر فى الحساب، لكل الأرقام إليه انقلاب. أهو عدم ذو وجود أو قبر فى اضطراب؟. . . . . . . لقد تولاّها السقام، وملأت صدرها الآلام، تضحك وضميرها فى عذاب، تخفي بضحكتها خفى الأوصاب. وكم حسبها الناس فى سرور، وما سرورها إلا الحزن المكتوم، حتى ملأت باليأس نفسى، وأثارت الفتنة فى قلبى. القبر منتهى هذه الدقائق، وسر عجيب من أسرار الخالق.

نور كلما مال للغياب، هبط إلى كومة من التراب. هذا أعلى الشواهق، وهذا أروع الحقائق، أيها الشقى تلك حقيقة لا تدرك. هذا شأنك، وهذه فى الدنيا حالك. . . . . . . . لقد كانت شعرا بليغا مهما، كان فكرها شاعرا ملهما. (صحراء وتزر وأشبر) (1) من وحيها وما كنت الا واسطتها. . . . . . . . .

كنت أفهم هذا الوجه الشاحب، الذى  منح شعرى اللون المعجب. تأبى أفكارى أن يكتب ويُفهَم، وهل تنحت الجبال بقلم؟

اجتمعت ضروب الآلام فى صدرها، والناس فى غفلة عن أمرها؛ كان كل من رآها يشفق عليها ويحبها، ولا يدرى لماذا؟. وكانت ملكة الخلق الكريم، والفكر السديد. تشعر بخطرات نفسى وتقرأ أسارير وجهى.

وكانت وإن لم تكثر الكتابة ملهمة لاتخطىء الإصابة، وكم فتنت منها بالكلم الدقاق والذكاء العجيب، قد عمر بها شعرى الخراب، وتلألأ فيه صنعها العجاب. كانت نجى الأفكار فى نفسى خبيرة بالكلمات التى  تندّ عنّى.

تذبل الوردة الناضرة فتخلفها وردة أخرى تضىء مكانها وتفترّ، كأن الأولى لم تتغيّر. وتغرب الشمس المنيرة فإذا هى فى الصباح مشرقة. ولكن شجرة الورد هذه لن تزدهر، ولكن هذا النجم فى غروب مستمّر. سلكتْ بى الفِكَرُ ألف سبيل وراءك أيها القمرَ فعى العقلُ دونك وأقصر. صاعقة ولكن لا يسمع صوتها، ونور يسقط ولكن لا يبين ضياؤه.

يا رب أين أين الحقيقة؟ أجعلت الغم سر هذه الخليقة؟ مهما طال بي الأنين واستمر، فما هو الا كأنين الشجر. . . . . . لاريب أن حياتي سم أتجرعه، فيدنيني من الموت الذى  أرتقبه، شرِّح هذا الوجود فهو عدم، وقلِّب هذا السرور فهو ألم، ليت شعري أفي الموت نجاتي؟ ليت شعري ماذا يحبب إلى حياتي؟ قد أنهدمت خليقتك عليَّ يا رب فكيف تحتها ثباتي؟ حسبي حسبي سموم هذا القهر، حسبي حسبي طغيان هذا النهر. أليس لهذه السيول تناهي؟ حسبي جرعة واحدة يا الهي. ما بقائي فى الدنيا! أعضو أنا فى جسم الدهر؟ أأنا يا رب مرآة جلالك أم أنا شعاع من جمالك؟. . . . .

أمامي مسجد التوحيد الوضاء، وفى عقلى الشك وفى قلبى الرجاء. وفوقى لقاء السرمدية وتحتى فناء الآدمية. أرجو من الخالق خلودا، فيبدو لي التراب والحجر وعيداً(1) وأقول ان الانسان لا مرية، إلى الفناء، فتصيح روحى: كلا إنه للبقاء.

إن لم يكن للبشر مزية فى الوجود، فلماذا توحي إليه المشيئة الخلود؟ أيها القبر إنما هذا السكوت، خطاب الحي الذى  لا يموت. (يستمر الشاعر يقيم الحجج على خلود الإنسان ثم يرجع إلى خطاب حبيبته ثم يخاطب الله بين الاعتراض والتسليم إلى أن يقول) رب كيف لا أشكو؟ ألا يصيح الجريح؟ ما هذا القبر الذى  أمامي؟ وضعت فيه حبيبا جميلاً، وجعلت التراب حدود عقلي، وحبست إدراكي على هذا الحجر. واعتصمت بك فهويت عليَّ. إن لم يكن للبكاء جدوى فكيف يسكت القلب اللجوج عن الشكوى؟ لماذا تئن الطيور فى الأوكار؟ أليس لقلبي أغنية كهذه الأطيار؟

قالت لى يوما فى اضطراب: جئت إلى الهند لأموت فى اغتراب. فضحكت من قولها وتكلفت الثبات، ولكني أحسست أن قلبي قد مات. ثم ودعنا الهند بين الموت والحياة.

جاوزنا القناة فى غم وكرب، وليس القوت الا دم القلب. كلما سألت أجاب السعال الظالم. ذلك الجواب المظلم.

حتى إذا لم يبق الا رمق، لاحت بيروت فى الأفق. ومر يوم ولم أدر بما كان وسألتها فإذا النعش عِيَان.

النعش هذا الدليل دليل المقبر، النعش ذلك الهيكل الأغبر، النعش ذلك الخطيب الأصم الأبكم، النعش ذلك الهمود المجسَّم، النعش هذه السكتة المحيرة، النعش تلك المصيبة المكررة، النعش ذلك الانقلاب الصموت. ذلك الحدِّ المتحرك للعقل المبهوت. النعش خرابة الأمل الخامد، النعش ذلك الاغبرار الخالد. النعش ظل المحشر على الأكتاف، النعش ذلك الموت المتموج ألتفَّت على هذه الروح ألواحه ففتحت ذراعيَّ للموت. . .

أيها التراب المضيء، تراب الحبيب الصامت! أيها النور الأسود الثابت! إن قلبي ليتحطم من جمودك، وان روحي لتموت من خمودك.

لا لا، ليس ترابا انه موت نابت. لا لا، ليس موتا انه جؤار صامت. لتحرس الملائكة هذا القبر ولتضيء عليه الثوابت.

ليس تراباً كله قبر الحبيب، أن له قبرا آخر من النسيان الرهيب. النسيان أسفل المقابر، النسيان مقتل الأكابر. وقبر آخر ذلك القلب الهباء فهو والتراب سواء. فالحبيب ذلك الملك المسافر، طائر بين هذه المقابر. . .

يارب ما أعظم محبتك التى أرى وما أعظم رحمتك التى

تفيض بها الارجاء كلها ! ألا يفنى فى هذا كله الفراق المنبعث من القبر .....؟

هذه الأنجم ضياء وحدتك , وروحى كذلك أحد كواكبك ، والحبيبة التي كانت ملكا - طارت لا ريب - الى جنتك كلماذ كرتك اتسع خيالى , وصارت فجرا منيرا هذه الليالى . ما اعظم اسمك أنسا للروح , انه يسير اليك فى صيحات الفؤاد المجروح ؛

أقول " الله " فينفسح المجال , أقول " الله " فيفارقنى الزوال . بحركة هذا الصوت الأعظم , يطير جناحى وان حطمه الغم أنت أقرب الى الله يا محمد , أيها العقل المعظم المؤبد ، أنت الذى سلكت بنا السبيل , وكنت الى الله الدليل

ليصمت بعد هذا النواح ، فلا تضيق به الأرواح , هذه الآهة التى تفيض من الروح , لن يسمعها بعد الاقلبى المجروح سأكون فى الدنيا قبرها , تطوف فوقى روحها , سأصمت عن هذا النحيب , لأفرغ للتفكر فى الحبيب . اهـ

اشترك في نشرتنا البريدية