الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثانيالرجوع إلى "الرسالة"

عدد، صديق

Share

لي صديق، اصطلحت عليه الأضداد، والتقت فيه المتناقضات،  سواء فى ذلك خلقه وخلقه وعلمه.

حبى خجول، يغشي المجلس فيتعثر فى مشيته، ويضطرب فى  حركته، ويصادف أول مقعد فيرمى نفسه فيه، ويجلس وقد لف  الحياء رأسه، وغض الخجل طرفه، وتقدم له القهوة فترتعش يده،  وترتجف أعصابه، وقد يداري ذلك فيتظاهر أن ليس له فيها رغبة،  ولا به إليها حاجة، وقد يشعل لفافته فيحمله خجله أن ينفضها كل  حين، وهى لا تحترق بهذا القدر كل حين، وقد يهرب من هذا كله  فيتحدث الى جليسه لينسى نفسه وخجله، ولكن سرعان ما تعاوده  الفكرة فيعاود الهرب، وهكذا دواليك حتى يحين موعد الانصراف،  فيخرج كما دخل، ويتنفس الصعداء حامدا الله على أنه لم يخر صعقا،  ولم يدركه حينه كربا وقلقا.

من أجل هذا أكره شيء عنده أن يشترك في عزاء أو هناء.  أو يدعى الى وليمة أو يدعو إليها، يشعر أنه عبء ثقيل على الناس  وأنهم عبء عليه، يحب العزلة لا كرها للناس ولكن سترا لنفسه،  ويأنس بالوحدة وهى تضنيه وتبريه.

ثم هو - مع هذا - جرىء الى الوقاحة، يخطب فلا يهاب،  ويتكلم فى مسألة علمية فلا ينضب ماؤه، ولا يندى جبينه، ويعرض  عليه الأمر فى جمع حافل فيدلى برأيه فى غير هيبة ولا وجل، وقد  تبلغ به الجرأة أن يجرح حسهم، ويدمى شعورهم فلا يأبه لذلك،  ويرسل نفسه على سجيتها فلا يتحفظ ولا يتحرز.

يحكم من يراه فى حالته الأولى أنه أحيا من مخدرة، ومن يراه  فى الثانية أنه أوقح من ذئب وأصلب من صخر، ومن يراه فيهما  أنه شجاع القلب، جبان الوجه.

وهو طموح قنوع، نابه خامل، يرمي بهمته الى أبعد مرمى،  وتنزع نفسه الى أسنى المراتب، وتحفزه إلى أبعد المدارك، فيوفر على  ذلك همه، ويجمع له نفسه، ويتحمل فيه أشق العناء، وأكبر البلاء،  ولا يسأم ولا يضجر. وكلما نال منزلة ملها، وطلب أسمى منها. وبينما هو  فى جده وكده، وحزمه وعزمه إذ طاف به طائف من التصوف، فاحتقر  الدنيا وشؤونها، والنعيم والبؤس والشقاء والهناء وسمع قول المتنبي: ولا تحسبن المجد زقا وقينة ... فما المجد الا السيف والطعنة البكر وتركك فى الدنيا دويا كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر

فهزيء به وسخر منه، واستوطأ مهاد الخمول ورضي من زمانه  بما قسم له، وبينا يأمل أن يكون أشهر من قمر، ومن نار على علم،  يسافر فى الشرق والغرب ذكره، ويطوى المراحل اسمه اذا به يخجل  يوم ينشر اسمه فى صحيفة، ويذوب حين يشار اليه فى حفل ويردد  مع الصوفية قولهم "دفن وجودك فى أرض الخمول فما نبت مما لم  يدفن لا يتم نتاجه" يعجب من يراه مجدا خاملا، ومعرفة نكرة، وعاملا معمورا.

وأغرب ما فيه أنه متكبر يتجاوز قدره، ويعدو طوره. ومتواضع  ينخفض جناحه، وتتضاءل نفسه. يتكبر حيث يصغر الكبراء.  ويتصاغر حيث يكبر الصغراء. يتأله على العظماء حتى تظن أنه نسل  الأكاسرة ووارث الجبابرة ويجلس الى الفقير المسكين يؤاكله ويستذل له،  هو نسر أمام الأغنياء، وبغاث لدى الفقراء لا تلين قناته لكبير، ويخزم  أنفه الصغير.

يحب الناس جملة، ويكرههم جملة. يدعوه الحب أن يندمج  فيهم، ويدعوه الكره أن يفر منهم فحار فى أمره، فامتزج الحب  بالكره، فاستهان بهم فى غير احتقار.

صحيح الجسم مريضه. ليس فيه موضع ضعف ولكن كذلك  ليس فيه موضع قوة. يشكو المرض فيحار في شأنه الطبيب فيحنق  على الأطباء ويرميهم بالعجز، وما العاجز إلا جسمه لم يستطع أن  ينوء بنفسه.

كذلك كان رأسه. مضطرب. مرتبك. كأنه مخزن مهوش، أو  دكان مبعثر وضع فيه النعل القديم بجانب الحجر الكريم، يؤمن بقول  الفقهاء: القديم على قدمه، ثم يدعو الى التجديد. ويتلاقى فيه مذهب  أهل السنة بمذهب أهل النشوء والارتقاء، ومذهب الاختيار بمذهب  الجبر، وحب الغني بمذهب أبي ذر وتجتمع فى مكتبته كتب خطية قديمة  قد أكلتها الأرضة، ونسج الزمان علها خيوطه، وأحدث الكتب  الأوربية فكرا وطبعا وتجليدا. ولكل من هذين ظل فى عقله، وأثر  فى رأسه. يسره تأبط شرا فى بداوته وصعلكته "وجوته" فى حضارته  وامارته ويؤمن لشاعرية هذا وذاك. يسمع إلى الملحدين فيصغى إليهم،  وإلى المؤمنين فيحن شوقا لذكراهم، يهمل فى صلاته ويحافظ على صومه.  ان ألحد فكره لم تطاوعه طبيعته، وان كفر عقله آمن قلبه. ومن أصدقائه  السكير والزاهد، والفاجر الداعر والعابد. وكلهم على اختلاف مذاهبهم  يصفه بأنه يجيد الاصغاء كما يجيد البليغ الكلام.

سرت معه سيرة من جنسه، فأحببته وكرهته، ونقمت منه  ورحمته، وكنت آنس به وأستوحش منه، يبعد عني فأتوق إليه،  ويطول مقامى معه فأتبرم به.

وأخيرا، لم يقو جسمه على هذه الأضداد مؤتلفة، والمتناقضات  مجتمعة. فعاجله الشيب في شبابه، وتقوس ظهره في ربيع عمره،

( بقية المنشور على الصفحة السابقة ) وأصبح مترهل العضل, منسرق القوى, يظنه من رآه أنه بلغ أرذل العمر, ولداته فى رونق الشباب وميعة النشاط .

بلغني مرضه، فلم أدركه الا جنازة فشيعته إلى أن أنزل حفرته  وأجن فى رمسه ونفضت من ترابه الأيدي!

وعدت موجع القلب باكيا، ضيق الصدر، مكروب النفس،  أخذني من الحزن عليه ما تنقض منه الجوانح، وتنشق له المرائر، فعلمت  أن حبي له كان أعمق من كرهي إياه، وأن نقمتي عليه لم تكن الا  مظهرا من عطفى عليه، وأني كنت أقسو عليه رحمة به!

رحمة الله عليه فقد حطم بعضه بعضا، ومضى قتيل روحه  شهيد نفسه!

اشترك في نشرتنا البريدية