الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد السادس عشرالرجوع إلى "الرسالة"

عكاظ والمربد

Share

تتمة

وكان لكل شاعر من شعراء المربد حلقة ينشد فيها شعره  وحوله الناس يسمعون منه؛ جاء فى الأغانى "وكان لراعى الابل  والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة" (١)

وكان الناس يخرجون كل يوم الى المربد، يعرف كل فريق  مكانه فيجلس فيه ينتظر شاعره، فقد روى الأغانى أيضا أن جريرا  بات يشرب باطية من نبيذ ويهمهم بالشعر فى هجاء الفرزدق  والراعى، فما زال كذلك حتى كان السحر وقد قالها ثمانين بيتا  فى بنى نمير فلما ختمها بقوله: فغض الطرف انك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا

كبر ثم أصبح حتى اذا عرف أن الناس قد جلسوا فى مجالسهم  بالمربد، وكان يعرف مجلسه ومجلس الفرزدق دعا فادهن ولف  رأسه ودعا غلامه فأسرج له حصانا وقصد مجلسهم وأنشدها  فنكس الفرزدق وراعى الابل. (٢)

ونرى بجانب هؤلاء الفحول أعنى جريرا والفرزدق والأخطل  طائفة أخرى من كبار الرجاز يقصدون المربد وينشدون رجزهم،  فالعجاج الراجز يخرج الى المربد عليه جبة خز وعمامة خز على  ناقة له قد أجاد رحلها ويقف بالمربد على الناس مجتمعين، ويقول  رجزه المشهور:  "قد جبر الدين الأله فجبر"

ويهجو ربيعة فيأتى رجل من بكر بن وائل الى أبى النجم  ويستحثه على الرد عليه فيخرج أبو النجم الى المربد ويقول رجزه:  "تذكر القلب وجهلا ما ذكر" ورؤية الرجاز ينشد رجزه:

"وقاتم الأعماق خاوى المخترق"  ويجتمع حوله فتيان من تميم فيرد عليه أبو النجم فى رجزه: "اذا اصطبحت أربعا عرفتنى" (٣)  كذلك نرى ذا الرمة يقف بالمربد وعليه جماعة مجتمعة وهو  قائم وعليه برد قيمته مائتا دينار؛ وينشد دموعه تجرى على لحيته:  "ما بال عينيك منها الماء ينسكب" (٤)

وينشد كذلك بعض قصائده فيقف خياط فينقد شعره نقدا  شديدا ويسخف بعض تشبيهاته، فيمتنع ذو الرمة عن الذهاب الى  المربد حتى يموت الخياط. (٥)

والأمراء والولاة قد يتدخلون فيسكتون بعض الشعراء. وقد  يهجون بعضهم على بعض خدمة لأغراض حزبية أو سياسية فعبد الملك  ابن مروان يأمر أبا النجم بالمفاخرة مع الفرزدق. وعباد بن حصين  - وكان على أحداث البصرة - يعين جريرا على الفرزدق  ويعير جريرا الدرع والفرس والسلاح. (٦)

وهكذا كان المربد فى العهد الأموى معهدا كبيرا أنتج أدبا  غزيرا من جنس خاص. وكاد هذا الشعر يكون امتدادا للشعر  الجاهلى. لاتحاد الأسباب والبواعث، فأما الشعر الغزلى كشعر  عمر بن أبى ربيعة وأمثاله فليس له كبير أثر فى المربد لأنه فوق  النزال والمهاجاة والمفاخرة. فليس مجاله حياة المربد التى وصفناها.

المربد فى العصر العباسى:

بقى المربد فى العصر العباسى. ولكنه كان يؤدى غرضاً آخر  غير الذى  كان يؤديه فى العهد الأموى. ذلك أن العصبية القبلية  ضعفت فى العصر العباسى بمهاجمة الفرس للعرب. وأحس العرب بما  هم فيه جميعا من خطر من حيث هم أمة لا فرق بين عدنانيهم  وقحطانيهم، فقوى نفوذ الفرس وغلبوا العرب على أمرهم. وبدأ  الناس فى المدن كالبصرة يحيون حياة اجتماعية هى أقرب الى حياة  الفرس من حياة العرب؛ وانصرف الخلفاء والأمراء عن مثل النزاع  الذى كان يتنازعه جرير والفرزدق والاخطل وظهرت العلوم

تزاحم الأدب والشعر ؛ وفشا اللحن بين الموالى الذين دخلوا فى الاسلام ؛ وأفسدوا حتى على العرب الخالصة لغتهم فتحول المربد يؤدى غرضا يتفق وهذه الحياة الجديدة

أصبح المربد غرضا يقصده الشعراء لا ليتهاجوا؛ ولكن  ليأخذوا عن أعراب المربد الملكة الشعرية، يحتذونهم ويسيرون  على منوالهم؛ فيخرج الى المربد بشار وأبو نواس وأمثالهما،  ويخرج الى المربد اللغويون يأخذون اللغة عن أهله ويدونون  ما يسمعون، روى القالى فى الأمالى عن الأصمعى، قال: "جئت  الى أبى عمرو بن العلاء فقال لى من أين أقبلت يا أصمعى؟ قال جئت من المربد؛ قال هات ما معك، فقرأت عليه ما كتبت فى ألواحى؛  فمرت به ستة أحرف لم يعرفها، فخرج يعدو فى الدرجة وقال: - شمرت فى الغريب - أى غلبتنى " (١) .

والنحويون يخرجون الى المربد يستمعون من أهله ما يصحح  قواعدهم ويؤيد مذاهبهم، فقد اشتد الخلف بين مدرسة البصرة  ومدرسة الكوفة فى النحو وتعصب كل لمذهبه؛ وكان أهم مدد  لمدرسة البصرة هو المربد؛ وفى تراجم النحاة تجد كثيرا منهم من  كان يذهب الى المربد يأخذ عن أهله، ويخرج الأباء الى المربد  يأخذون الأب من جمل بليغة وشعر بليغ وأمثال وحكم، مما  خلفه عرب البادية وتوارثوه عن آبائهم؛ كما فعل الجاحظ؛ يقول  ياقوت: ان الجاحظ أخذ النحو عن الأخفش وأخذ الكلام عن  النظام وتلقف الفصاحة من العرب شفاها بالمربد. (٢)

وبذلك كان المربد مدرسة من نوع آخر تغير برنامجها فى العصر  العباسى عن برنامجها فى العهد الأموى وأدت رساله فى هذا العصر تخالف رسالتها فى العصر السابق.

آخر الأخبار عن المربد :

فى ثورة الزنج التى  ظهرت فى فرات البصرة والتى بدأت سنة ٢٥٥ هـ حدث قتال بالمربد بين الزنج وجيش الخليفة، فاحترق  المربد؛ روى الطبرى قال: يقول ابن سمعان: فانى يومئذ لفى  المسجد الجامع اذ ارتفعت نيران ثلاث من ثلاثة أوجه: زهران  والمربد وبنى حمان فى وقت واحد، كأن موقديها كانوا على ميعاد،  وجل الخطب وأيقن أهل البصرة بالهلاك. (٣)

وتوالت فيه الحرائق وعوتب شاعر البصرة أبو الحصين بن

المثنى على أنه لم يقل شيئا فى حريق المربد؛ مع أن المربد من أجل  شوارعها، وسوقه من أجل أسواقها، فقال ارتجالا فى آخر حريق لها: أتتكم شهود الهوى تشهد ... فما تستطيعون أن تجحدوا فيا مربديون ناشدتكم ... على أننى منكم مجهد جرى نفسى صاعدا نحوكم ... فمن أجله احترق المربد وهاجت رياح حنينى لكم ... وظلت به ناركم توقد ولولا دموعى جرت لم يكن ... حريقكم أبداً يخمد (٤)

ويذكر ابن الأثير فى حوادث سنة ٤٩٩ أن سيف الدولة  صدقة بن مزيد تقاتل مع اسماعيل فنهبت البصرة وغنم من معه من  عرب البر. . . ولم يسلم منهم الا المحلة المجاورة لقبر طلحة والمربد.  فان العباسيين دخلوا المدرسة النظامية وامتنعوا بها وحموا المربد  وعمت المصيبة بأهل البلد سوى من ذكرنا (٥) .

ويقول ياقوت "ان المربد كان سوقا للابل، ثم صار محلة  عظيمة سكنها الناس وهو الآن: (عاش ياقوت حتى سنة 626 هـ) -  بائن عن البصرة؛ بينهما نحو ثلاثة أميال، وكان ما بين ذلك كله  عامرا وهو الآن خراب، فصار المربد كالبلدة المفردة فى وسط  البرية".

ثم عفا أثر المربد، ولم نعد نجد له ذكرا ذا قيمة، وأخنى عليه  الذى أخنى على عكاظ؛ ومات بموته معهدان أدبيان اتصلت حياة  الثانى منهما بحياة الأول فقاما نحو ستة قرون يخرجان شعراً  وأدبا ونقدا كان من خير تراث العرب.

اشترك في نشرتنا البريدية