الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد السادس عشرالرجوع إلى "الرسالة"

على الشاطئ . . .!

Share

الشاطئ شاطئ استانلى! واليوم يوم الأحد! والطرقات الجميلة الصاعدة إلى هذا الخليج البهيج تصب فيه أنماطاً من الناس فى  أنماط من اللباس، وكلهم فى سن أهل الجنة! وكنت فى هذا  التيار الحار المتدفق كأننى السمكة الغريبة تفقد الاختيار وتخشى  كل شىء!

هبطت مع الهابطين الى هذا الشاطئ على سلم من سلالمه ثم ارسلت فيه عينى فاذا هو مستدير على صدر الماء، استدارة  الهلال البازغ على صدر السماء، واذا النجوم الزواهر من الانس تختلج فى قلب هذا الهلال اختلاج العواطف الرقيقة، تتماس فى رفق ثم تتفرج عليه فى سهولة!!

أخذت أخطو وئيدا بين العذارى المتجردات على استحياء  وارتباك! فلما لم أجد فيهن حتى من تتقى النظر باليد كما فعلت "متجردة النابغة" حين تسقط نصفيها ولم ترد اسقاطه، ارسلت نفسى على طبيعتها فى هذا الحى المباح، وذكرت الاستاذ "الثعالبى" وهو يقول لى بالامس فى لهجة جازعة: "اذهب بربك الى (استانلى) ثم صف لى ما تراه).

هاتان عيناى يا صديقى مفتوحتين، وهاتان أذناى مرهفتين! فماذا أرى وماذا أسمع؟؟

أكشاك أنيقة الصنع والوضع ، تدرجت طبقاتها الثلاث على حضن الشاطىء ! ومظلات شتى الالوان قد ركزت هنا وهناك فى منحدر الساحل ، وجمع حاشد عار كسوق الرقيق فى ألف ليلة وليلة

قد بعثر أمام الأكشاك وتحت المظلات وفوق الرمال وبين المياه،.  وصراع لذيذ عنيف بين أفواج البر وأمواج البحر تتخلله صيحات  وضحكات كرنين الفضة المصفاة وأحاديث كهمس الأوتار تطير  من بين الشفاه البواسم؛ كما تطير أنفاس الصبى الحالم، ولكنها  لا تصعد إلى حيث يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح! وبيئة  أجنبية ناسها غير ناسنا واحساسها غير احساسنا ولغتها لغة  فرنسا لا لغة مصر، وسمرتها سمرة الشمس لا سمرة الجنس!!

فعلام إذن هذا الجزع الباكى، والقوم انما يجرون على أعراقهم،  ويعملون على مقتضى أخلاقهم، وبين فتياتنا وفتياتهم من العرف  الاسلامى حجاب، ومن الحياء الطبيعى وازع؟!

كنت ألقى على نفسى هذا السؤال حين جرجر البحر إحدى موجاته الضخام إلى أعلى الساحل، فجريت إلى فوق أتقى هذا المدَّ المفاجئ فإذا بى واقف ازاء ظلة جميلة منعزلة، قد انبطحت تحتها فتاة ناهد لم تقع العين منذ الصباح على أكمل منها صورة! وكان ذعر السائرين من هجمة البحر قد لفتها لتنظر فلما وقع بصرها على نهضت نهضة الظبى الفزع تحيى بالعربية أستاذها القديم !

- أوه ! فلانة !؟ - نعم ! ويسرنى أن أراك بعد خمس سنين - هل أنت وحدك هنا ؟ - كلا بل معى أخى ... وقد أتعبه صراع الأمواج الثائرة فذهب الى ( الكابين ) - وكيف حال البك ؟

- الحمد لله خير حال ! وما اكثر سؤاله عنك وأشد شوقه اليك ! لقد كان جالسا بالكازينو ثم انصرف الى البيت منذ قليل

قالت ذلك تلميذتى الأرستقراطية المسلمة وهى تنصب كرسياً  طويلا من القماش دعتنى إلى الجلوس عليه، ثم جلست هى على كرسي  آخر، وكانت كأمها حواء لا يستر جسمها العارى الا "ورقتان"  خصفتهما عليه، من أمام ومن خلف! فسرعان ما ذكرت ذلك  المكتب الفخم الذى  كانت تجلس قُبالتى عليه لتستعد لامتحان  البكالوريا وهى ملففة بثوبها الأزرق الأنيق المسبل، وعيناها  الساجيتان لا تفارقان الصحيفة حياء وخفرا، وثغرها الحَيى الدقيق  لا يرسل سهل الكلام الا فى تلعثم وبطء!!

لم تدعنى الآنسة فى ذكراى الا ريثما ردت التحية على فتاة فى مثل حالها وجمالها، كانت تسير فى رفقة شاب شديد السمرة غطى كتفيه شعر كثيف، كصوف الخروف

- هذه ابنة فلان وهذا الذى  معها أخوها، وهذه ابنة فلان  وهذا ابن عمها، وهذه المضطجعة فى الشمس بنت فلان ومحادثها  صديق من أصدقاء أخيها. . . . . - لولا علمك يا آنسة لحسبت هؤلاء جميعا أجانب!

- وما الذى  يحملك على هذا الحسبان؟ - هيف القد واكتناز اللحم واتساع الحرية - ذلك من أثر الرقص والرياضة، ستكتب ولا شك عن  استانلى شيئا فى الرسالة! - وهل قرأت ما كتب عنه؟

- قرأته ولم أسغه، لانه شديد المبالغة سطحى النظر، وأى بأس فى أن تمتع المصرية جسمها كله بأشعة الشمس وماء البحر  كالغربية؟؟ - لا بأس وأظنها تدرك ذلك كله فى شاطئ خاص وفى  لباس مناسب

- ان شمس الشواطئ كما تعلم انما تقصد لخصائص أشعتها،  وكلما تعرض أكثر الجسم لها، كان أكثر انتفاعا بها، والامر فى الشواطئ كالامر فى المراقص والمرايض، يهيمن على الحياة  فيها روح رياضية عالية، تُغنى كل انسان بشأنه عن شأن غيره،  فالراقص لا يفكر الا فى الرقص، والمرتاض لا يفكر الا فى الحركة  والمستحم كذلك لا يفكر الا فى الامواج والاشعة

- ابدئى بالمثال قبل القاعدة يا آنسة. اين تجدين الروح الرياضية فى هذه المرأة التى  علت صدر هذا الرجل لتتعلم فوقه السباحة؟ وأين تجدين الروح الرياضية فى هذين الجسمين الراقدين  على الرمل يتلامسان بشهوة، ويتناجيان بنشوة، وقد انمحى من حولهما البحر والشاطئ والناس؟؟

أرى يا آنسة أن المرأة تسىء الى نفسها بهذا التبذل - حتى من الجهة النسوية الخالصة - فانها متى فقدت سحر المحجوب، وجاذبية المجهول، أصبحت كسائر الأناث من سائر الحيوان

عفوا يا آنسة اذا اصطنعت فى خطابك لهجة الأستاذية، فانها لا تزال  أقوى الصلات التى أمت بها اليك

ألا تلاحظين أننا فى الجد نتطور ببطء موئس، وفى الهزل  نتطور بسرعة جامحة!؟ لقد كنا بالامس نتجادل فى السفور، وها  نحن أولاء اليوم نتجادل فى العرى!! أستودعك الله يا آنستى! وأسلم على أبيك وأخيك

ثم أخذت طريقى على الشاطئ الشهوان وفى نفسى كلام حبسته! على أن من الظلم الموروث أن الرجل يشارك المرأة فى الذنب  ثم يفردها بالعقوبة! فالأب يقود ابنته عارية الى الشاطئ، والزوج  يجلس مع زوجه عارية على المقصف؛ والأخ يتعرى مع أخته فى  الكشك والبحر، ثم يندلع لسان النقد على المرأة وحدها فيتهمها  بخنق الفضيلة ويرميها بذبح الخلق!!

يا قوم، لقد فتشتم فى الشواطئ كثيراً عن حياة المرأة، ففتشوا  فيها ولو قليلا عن نخوة الرجل!! الاسكندرية

اشترك في نشرتنا البريدية