الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 93الرجوع إلى "الرسالة"

على هامش السيرة، من معجزات الهجرة

Share

قال: -  هل لك يا سُراقةُ في مائة من الإبل؟ -  قال سُراقةُ: ما أحوجني إلى عشرين! فكيف السبيل إلى  مائة؟ -  قال: ترد على قريش صاحبها، فقد خرج من مكة حين  مكرت به قريش وأجمعت على قتله، مهاجراً إلى المدينة، فبثت  قريش عيونها في سبل مكة وشعابها، وبعث رسلها فنفضوا  الصحراء نفضاً فما وقعوا له على أثر، فعادوا إلى قريش بالاياس  منه، فأذنت قريش في العرب، أن من رد علينا محمداً فله مائة من  الإبل، وقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علي آنفاً، وإني لأراهم  طلبة قريش. . . فهل لك أن نلحق بهم فنردهم إلى مكة ونأخذ  مائة الناقة فنقسمها بيننا؟

فرقص قلب سراقة فرحاً، ولعب به الطمع؛ وكان سراقة  ابن مالك الجعشمي رجلاً متعفرتاً متشيطناً، فعقد النية على أن  يستأثر وحده بالغنيمة حتى تكون خالصة له، فقال لصاحبه:

-  ما هؤلاء من تريد، هؤلاء بنو فلان ينشدون ضالة لهم. فصدق الرجل وانصرف، وذهب سراقة فجلس في نَدِىّ  قومه كما كان يجلس كل عشية فما اطمأن به مجلس، وما وعى  من أحاديث القوم شيئاً، وإنما كان يخيلُ إليه أنه يرى قطاراً  طويلاً من الإبل يمر أمامه، ويدور من حوله، فيخفق لمرآه قلبه،  وتتحلب أشادقه. . . ثم طمي به الطمع، فبرح النادي إلى بيته،  يلوص بعينيه آفاق المستقبل، ويقلب أوجه الممكن ويفكر في مائة الناقة.

أيملكها حتى تكون طوع أمره يصرفها كما يشاء فتلد،  وتتكاثر فينحر منها، ويطعم الجائع، ويقري الضيف، ويرفد  الوافد فيسير ذكره في العرب، وتنتجعه الشعراء، وتمسي  بمدائحه الركبان؟ أم هو لا ينالها، ولا يفيد من سفره إلا لذع  الشمس، وبرح العطش، وطول التعب؟. . .

وامتد به التفكير حتى ما يكاد يخرج منه، ولا يكاد يستقر  على الرأي لحظة حتى ينتقل إلى غيره: لم لا أذهب؟ إني سأجدهم  فأردهم على قريش. ولكن ألم تعجز رسل قريش عن أن  تهتدي اليهم؟ فكيف أجدهم أنا؟. . . بل سأجدهم، إني سالك  كل طريق تؤدي إلى المدينة. . . ولكن يا للسخف! ألم تسلك  رسل قريش هذه الطرق كلها؟

ولما أضناه التردد أزمع أن يستفتي الحظ، ويهتدي  بالمصادفة - فأخرج أزلامه فاستقسم بها، وحاول أن يشتف  الغيب من خلالها: إن خرج الزلم الذي أكره   (لا يضره)  لم  تكن النياق لي. وإن خرج الذي أحب   (يضره)  كانت لي،  إن الحكم للأزلام. . .

وضرب بيده فخرج الزلم الذي يكره، فتألم واشتد ذلك  عليه، لأنه إنما عمد إلى الأزلام ليستمد منها العزم على الذهاب  لا الرغبة في القعود، ثم قال:

إنها أول مرة، وهي للشيطان! وإني ضارب الثانية، إن  الثانية لآلهتنا، وضرب الثانية فخرج الزلم الذي يكره. فقال  لنفسه: ما لي؟ وهل يقنع امرؤ بمرتين؟ إن المعول على الثالثة.  وضرب الثالثة فخرج الزلم الذي يكره. . . فتصبب على جبينه  العرق البارد، فألقى الأزلام حنقاً، وأمر غلامه أن يسرج فرسه  ويقوده إلى بطن الوادي!

وتريث سراقة حتى إذا تصرم الليل، أسحر سالكاً طريق  المدينة فسار فيه إلى الصباح فلم يقع من القوم على أثر. فعاد  أدراجه يتبع طريق الساحل فلا يلقى فيه أحداً، حتى زالت  الشمس؛ وحميت الظهيرة، وتسعرت الأرض، وأحرق جوفه  العطش، وكان ينهزُه الطمع فيعدو فرسه عدواً شديداً، حتى  يرى الآكام هي التي تسير عن يمينه وشماله، يأخذ بعضها بسفوح  بعض. . . ثم يدركه القنوط فيدع الفرس يمشي متباطئاً متخاذلاً. . .  حتى إذا بلغ منه التعب والعطش والجوع واليأس نظر فإذا  عند الغار من جبل ثور محمد وصاحبه. . . فصبت القوة في  عضلاته، وعادت إليه الحمية والنشاط، فصاح في الفرس، فانطلق  نحو الغار كالسهم المرسل؟

قال أبو بكر رضي الله عنه: .  . . فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت فقال: ما يبكيك؟ قلت: ما والله على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك

فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم اكفناه  بما شئت، فساخت فرسه في الأرض إلى بطنها. . .

فلما رأى سراقة ما رأى، وثب عن الفرس، وقد طار  الخوف بلبه، وأبرأه الفزع من داء الطمع، وصاح:

-  يا محمد! قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني  مما أنا فيه، فو الله لأعمين على من ورائي من الطلب. فدعا له  رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنقذه الله. . . وكلمه فكان  من قوله له:

-  كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟

ورجع سراقة، وقد اجتمعت عليه منذ اليوم المتناقضات  من الأفكار والعواطف، وهاج نفسه الطمع والخوف، والأمل  واليأس، فجعل يقهقه في هذه البادية، ويصرخ كمن به جنة،  ولم لا يجن؟ وقد كان يأمل أن ينال الغنى ففاته ما كان يأمل،  وقد فتحت فاها لتبلعه الأرض فنجا، ولم يصدر بعد هذا كله  إلا بوعد دونه خرط القتاد، وخرق النار، وخوض البحار. . .

-  ماذا؟ أيعدني محمد سواري كسرى، كسرى شاهنشاه  ملك الملوك. . . وهو يقطع الصحراء هارباً من قومه، مختفياً في غار. -  ليس معه إلا رجل واحد - أيبتلع هذا الغار ملك كسرى  وجبروته وجلاله؟ أتنتصر هذه الصحراء على ملك كسر وجنانه

وأنهاره؟ أيغلب هذان المهاجران كسرى على خزائنه وجنوده  وبلاده؟ ولو أن العرب اجتمعت كلها، ورمت عن قوس واحدة،  ما نالت من كسرى منالاً، على أنها لن تجتمع العرب قط، ومن  ذا الذي يجمع مضر بن نزار وقحطان. . . وبكراً وتغلب. . .  وعبساً وذبيان. . . وأين يذهب ما بينها من دماء؟

أما إن قريشاً كانت أدرى بصاحبها حين قالت عنه ما قالت  فما أراه يعجبه أن ينجو من قريش، ويفلت من أذاها حتى يكون  له ملك كسرى. . . إنه والله ما يريد إلا أن يتركنا   (نحن  أيضاً)  مجانين!

وانطلق يقهقه ويصرخ: ويحٌ لك يا سراقة! ستلبس سواري كسر. . . كسرى  شاهنشاه ملك الملوك

والفرس ينفر من صراخه، فيطير على وجهه حتى اختفى  وراء الآكام. . .

ومرت السنون وكان يوم صائف متوقد، ففر سراقة من حره إلى حائط  له، فما استقر فيه حتى سمع منادياً ينادي:

-  يا سراقة بن مالك الجعْشُمي. . . . يا سراقة. . . . فصاح: أن لبيك، وانطلق يؤم الصوت، فإذا رسول عمر  يدعوه أن أجب أمير المؤمنين

وإذا الشمس بين يدي عمر تأخذ الأبصار ببريقها ولمعانها،  وإذا بين يديه تاج كسر ومِنْطَقَتع. . .

قال عمر: هلم يا سراقة، أتذكر خبر الغار، وسواري كسرى شاهنشاه  ملك الملوك؟. . .

-  قال: نعم -  قال. قد أذهب الله بالإسلام ملك كسرى، فلا كسرى بعد اليوم. . هات يديك

فألبسه السوارين، وقال ارفعهما فقل: -  الله أكبر! الحمد الله الذي سلبهما كسرى بن هرمز،  وألبسهما سراقة بن مالك، أعرابياً من بني مدلج.

يا سراقة لقد انتصر المهاجرون على كسرى وقيصر، وكان  لهما ملك الأرض! يا سراقة! لقد أضاء النور الذي انبثق من  بطن مكة الدنيا جميعاً! يا سراقة! لقد ظفر الغار بالعراق  والشام، وغلبت الصحراء العالم!

يا سراقة! لقد ملك كسرى وقيصر كبيراً قوياً،  ولكن الله مع الذين آمنوا، والله أقوى. . . والله أكبر!

اشترك في نشرتنا البريدية