الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 93الرجوع إلى "الرسالة"

على هامش السيرة، نزيل حمص

Share

قال عمير بن عبد الله  السلمي لمحمد بن نصر  الكلابي: إن الله فيما  يأتي من الأمر لحكمة  بالغة يفهمها الناس  حيناص ويقصرون عن  فهمها في كثير من  الأحيان. وإن الرجل  الرشيد خليق أن يتعظ  بما يفهم، وألا يلح في  تأويل ما لم يفهم، وأن يطمئن قلبه إلى أن حكمة الله بالغة، وإلى  أن قضاءه منته إلى الخير دائماً.

قال محمد بن نصر لصاحبه: هو ذاك، وما أظن أن أحداً منا  ينكر ذلك أو يماري فيه فما تحدثك به؟ وما هذا التفكير العميق  الذي أرى آثاره بادية في وجهك؟ وكانا هذان الرجلان من  فتيان قيس، شديدي البأس، قد ملأ قلبهما إيمان قوي بالله،  وحفاظ قوي للعرب، واعتزاز قوي بالنفس، وحب قوي  للجهاد. وكانا قد مضيا مع الصائفة غازيين حتى بلغا ثغراً من  ثغور الروم، فأمعنا في الغزو ولقيا فيه من الجهد والشدة،  واحتملا فيه من المشقة والبلاء شيئاً عظيما، لم يزدهما إلا إيماناً  على إيمان، وحفاظاً إلى حفاظ، وحباً للجهاد إلى حبهم القديم  للجهاد، وكان الله عز وجل قد قضى لهما أن يعودا من هذه  الغزوة موفورين، فلما بلغا مأمنهما مع الجيش في بلاد المسلمين  نذرا لئن مد الله في حياتهما حتى ينقضي الشتاء، وتستأنف  الصائفة من قبل غارتها على بلاد الروم ليكونن لهما في هذه  الغارة بلاء، وليضعن كل واحد منهما نفسه في مقدمة الجيش  

المغير، وكانا قد أزمعا من أجل ذلك ألا يبعدا في الرجوع إلى  موطنهما، وأن ينفقا فصل الشتاء في مدينة من مدن المسلمين هذه  المنبثة في الشام، والتي ترابط فيها الجنود، قد قسمت بينها  تقسيماً، ووزعت عليها توزيعاً، ولم يكونا من أصحاب الديوان في  جند من أجناد الشام، وإنما كانا رجلين قد باعا أنفسهما من الله  وتطوعا في الجهاد، وأقبلا يبتغيان المثوبة، فلحقا بالصائفة فيمن  يلحق بها من المتطوعين؛ ولم يصرفهما عن حمص أنها لم تكن  للمضرية داراً، وما يريدان إلى المضرية أو إلى اليمنية، وهما إنما  يمران بهذه المدينة مروراً ينتظران أن ينقضي فصل من فصول  العام ويقبل فصل آخر ليستأنفا نشاطهما وليقبلا على ما يبتغيان  من ثواب الله مجاهدين؟

فلما استقر بهما المقام في حمص أياماً وأسابيع أخذا يدوران  فيها ويتعرفان بعض أمرها، ويسمعان إلى ما كان يجري على ألسنة  أهلها من بعض الحديث. وقلما كان أحدهما يخرج منفرداً،  إنما كانا أكثر أوقاتهما متلازمين كأن ما دفعها إلى الهجرة  من أوطانهما قد جمع بين نفسيهما في الجهد والبأس، كما جمع بين  نفسيهما في الرخاء واللين. فقلما كانا يفتقران أثناء الغارة على  اختلاف الظرف وتباين الخطوب التي كانت تعرض للجيشين  وتلم بالمغيرين. وهما الآن لا يفترقان أو لا يكادان يفتقران، وقد  أظلهما الأمن وضمنتهما سلم لا يخافان معها شدة ولا بأساً ولا  فراقاً. ولكنهما في هذا اليوم لم يكادا ينفتلان من صلاة الغداة  حتى فرقت بينهما حركة الناس وازدحامهم مسرعين كأن هناك  أمراً ذا بال يروعهم ويدعوهم إلى الازدحام ويدفعهم إلى أن  يشهدوا مشهداً يجب أن يشهده الناس. وقد دفع محمد بن نصر  مع المزدحمين وأسرع مع المسرعين، لم يكن له في ذلك رأي أول  الأمر، ولكنه لم يلبث أن حمد ما أدركه من ذلك، فمضى مع الماضين  مختاراً لا كارهاً، وحرص على أن ينتهي إلى حيث كانوا يريدون  أن ينتهوا. وقد سمع في أثناء ذلك ما سمع، ورأى ما رأى، وامتلأ  قلبه بالعظات والعبر، وشغل عقله بالتفكير المتصل العميق، حتى إذا  تفرق الناس وكلهم يملأ نفسه العجب عاد إلى صاحبه يحدثه بما سمع  ويحدثه بما رأى، ويبدأ حديثه بهذا الكلام الذي أوجزته لك آنفا

فلما سأله صاحبه عما به قال: لقد شهدت اليوم أمرا عظيما:  شهدت جنازة رجلا ملأ قلوب الناس حبا وبغضا، ورضى وسخطا،

وأثار في نفوسهم كثيرا من الحفيظة، بل حفيظة لا تنتهي، وأثار  في نفوس الناس كذلك إعجاباً وإكباراً، وأطلق ألسنة الناس  بالذم الشنيع، وأطلق ألسنة الناس بالثناء الكثير، ورسم على  وجوه الناس آثار الموجدة المنكرة، ورسم على وجوه الناس كذلك  آثار الاعتراف بالجميل، ورسم على وجوههم بين ذلك ابتسامات  فيها سخرية وازدراء، وفيها عطف وإشفاق؛ ثم رأيت الناس  يعودون من تشييعه إلى قبره، وإن الحيرة لتملأ قلوبهم، وإن الشك  ليضطرب في نفوس كثير منهم، وإنهم على هذت كله ليقولون  فيما بينهم مثل ما كنت أقوله لك منذ حين، وانهم على هذا كله  ليظهرون الثقة بحكمة الله البالغة والاطمئنان إلى عفوه الذي ينال  به من يشاء.

قال عمير بن عبد الله: ما رأيت كاليوم رجلا يؤثر التلميح على  التصريح، ويقصد إلى الغموض دون الوضوح، فحدثني بحديثك  لا أبا لك ولا تطل، فما تعودت منك إطالة ولا إملالاً. قال محمد بن  نصر: فالله يعلم ما آثرت تلميحاً، ولا اجتنبت تصريحاً، ولا قصدت  إلى غموض، ولا تنكبت وضوحاً، وإنما أصور لك نفسي كما  أجدها، وما أدري كيف أتحدث إليك بهذا الحديث، وما أعرف  من أين آخذه. آخذه من مبتدئه أم آخذه من منتهاه، أم آخذه  مما بين ذلك، فإن كل موضوع منه تملؤه العبرة والعظة، وتظهر  فيه هذه الروعة التي تتأثر لها القلوب، وتفكر فيها العقول. إنه  رجل لم يعرف الناس من أول أمره إلا أنه كان عبد حبشياً لسيد  من سادات قريش في مكة، هو جبير بن مطعم، وكانوا يرونه  فتى شديد البأس عظيم الأيد شجاعاً جريئاً، يعمل لسيده فيما  يعمل فيه الرقيق، ولو أن الرق لم يعرض له لكان خليقاً أن  يسود في بلده وبين قومه هؤلاء السود. ولكن الرق عرض له  كما عرض لكثير من أشراف الروم والفرس فألقاه إلى هذا الحي  من قريش، وفرض عليه ما يفرض على الأرقاء، من الخنوع،  والخضوع، ومن الذلة والهوان، ومن العمل فيما لا يعمل فيه  أصحاب النجدة والمروءة من الناس. وكان هذا الفتى ضيقا بحياته  أشد الضيق، منكراً لها أعظم الإنكار، جامحاً حين يتاح له الجموح،  شامساً حين يتهيأ له الشموس، لا يخفي بغضه للرق وطمعه في  الحرية مهما يكلفه ذلك من غضب سادته وزجرهم، ومن إعناتهم  له وإلحاحهم عليه بالإعنات. وكانت قريش قد لقيت من النبي

صلى الله عليه وسلم وأصحابه جهدا شديداً يوم بدر، وفقدت جماعة  من سادتها وأشرافها، وذاقت الهزيمة المنكرة، وذاقت فقد  الأحياء، وذاقت هذا الذل الذي يكره العرب أن يذوقوه، ذل الموتور  الذي لم يدرك وتره؛ وكانت قريش تتجهز لإدراك الوتر والأخذ  بالثأر، وشفاء حزازات النفوس، وإرضاء قتلاها من أهل الحفير؛  وكان جبير بن مطعم قد فقد عمه طعيم بن عدي يوم بدر، وكان  حريصا على أن يثأر به وينتقم له من قاتله. ولم يكن قاتله إلا حمزة  ابن عبد المطلب عم النبي، وأسد الله، وشجاع قريش، وحامل  لواء المسلمين لأول ما عقد اللواء. قال عمير بن عبد الله: فإنك إنما  تتحدث عن وحشي، فما خطبه وما الصلة بينه وبين هذا الرجل  الذي شهدت جنازته اليوم؟ قال محمد بن نصر: فان هذا الرجل  الذي شهدت جنازته منذ اليوم هو وحشي نفسه. قال عمير: ليتني  عرفت مكانه من هذه المدينة حين أقبلت إليها إذن لسعيت إليه،  ولسمعت منه، ولسألته عن بلائه ذلك المنكر. قال محمد بن نصر:  وكذلك قلت لنفسي أنا منذ حين، ولكني رأيت من رآه، وسمعت  ممن سمع منه، ولقد رأى من رآه رجلا كان خليقاً أن يرى، وأن  الذين سمعوا ليتحدثون من أمره بالأعاجيب. قال له سيده حين  أجمعت قريش أمرها: إني أرى شوقاً إلى الحرية وكلفك بها،  وإسرافك في الجموح، وامتناعك عما لا ينبغي لمثلك أن يمتنع عنه  من الطاعة والإذعان لمواليه، وإني أعرض عليك هذه الحرية  التي تهواها، فان شئت فأد ثمنها، وما أظنك تفعل. قال العبد:  فقد شئت أن أؤدي إليك ثمن هذه الحرية لو أني أستطيع أن  أبلغه في جو السماء أو أقصى الأرض. قال جبير: فإنه أدنى  إليك من ذلك، إنه في يثرب، فاذهب مع قريش في حربها هذه  التي تتجهز لها، ثم عد إلي بمقتل حمزة وأنت بعد ذلك طليق.

قال العبد: أما إني ذاهب مع قريش فعائد إليك بمقتل  صاحبك أو لاق من دون ذلك الموت فهو أهون على وآثر عندي  من حياة الرقيق.

ولقد سمع الناس منه حديثه عن ذلك البلاء المنكر الذي أبلاه  يوم أحد، وما أرى أنك تعرف كما أعرفه، فقد أخذ يرقب  حمزة، وهو يقوم من المسلمين مقام الأسد يذود عن أشباله، يهز  الجيش بسيفه هزاً، والناس يرونه من بعيد كأنه الجمل الأورق،  فتمتلئ قلوبهم لمنظره رعباً، وينصرفون عن موقفه انصرافاً،

وهو يتحداهم ويدعو فرسانهم ومغاويرهم. والعبد قائم قد استتر  عنه بشجرة ينظر إليه ويرتقب غفلته، وحمزة لا يراه ولا يحس  بمكانه. فلما أمكنته الفرصة هز حربته حتى رضي عنها، ولم  يكن له بغير الحربة من السلاح علم، فلما تهيأت له الرمية رمي،  وإذا الحربة تصيب حمزة في مقتل فيخر صريعاً، والعبد قائم  مكانه لا يريم، يرقب أسد الله صريعاً بعد أن كان يرقبه جائلاً  في الميدان؛ فلما استوثق من أن صريعه قد قضي عليه أقبل يسعى إليه،  فانتزع حربته ثم عاد إلى المعسكر فأقام فيه. لم يصنع قبل مقتل  حمزة شيئاً، ولم يصنع بعد مقتل حمزة شيئا ، وما يعنيه من أمر  هذه الحرب بين قريش والأنصار، وإنما أقبل يشتري حريته  بمقتل هذا الرجل العظيم، وقد ظفربما أراد، فانتظر قفول قريش  إلى مكة، ولم يشهد ما كان تمثيل هند وصاحباتها بعم النبي، ولم  يشهد ما كان من حزن النبي حين رأى عمه في منظر لم ير   (صلى  الله عليه وسلم)  قط منظرا أوجع له وأثقل عليه منه. ولم يسمع  العبد نذير النبي حين أقسم لأن أظفره الله على قريش ليمثلن منهم  بسبعين مثله لم تعرفها العرب قط، ولم يعلم العبد أن النبي قد رد  عن ذلك رداً، وأن الله قد أنزل في ذلك قرآنا، وإن النبي قد  تلا قول الله عز وجل (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به،  ولئن صبرتم لهو خير للصابرين. واصبر وما صبرك إلا بالله، ولا  تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون. إن الله مع الذين اتقوا  والذين هم محسنون).

ولم يعلم العبد أن النبي فد اضطر إلى أن يكفر عن يمينه، ثم  لم يعلم العبد أن النبي قد عاد إلى المدينة محزوناً أسفاً، فلما سمع نساء  بني الأشهل يبكين قتلاهن قال: ولكن حمزة لا بواكي له!  وسمع ذلك منه الأنصار، فأرسلوا نساءهم يبكين حمزة عند بيت  النبي، وخرج نساء النبي فبكين معهن حتى ردهن النبي داعياً  لهن، ثم أصبح فنهى عن البكاء.

لم يعلم العبد من هذا شيئاً، وماذا يعنيه من هذا، إنما كان  يريد حريته وقد بلغها، وماذا صنع البائس بحريته؟ لم يعد إلى  بلده، وكيف سبيل العودة إليها؟ ولم يسد في مكة، وكيف السبيل  إلى السيادة فيها؟ إنما عاش بين قريش حراً كالعبد، وطليقا  كالأسير. نعم لم يعد العبد بشيء من هذا، ولكنه علم ذات يوم  أن جيوش المسلمين مقبلة على مكة، ورأى ذات صباح جيوش

المسلمين تدخل مكة، واستيقن العبد أنه مقتول إن ظفر به  المسلمون، ففر وانطلق في الأرض يلتمس لنفسه مأمناً فلا يجده.  هؤلاء المسلمون ينتصرون على العرب يوم حنين، وهذه أرض  العرب كلها تذعن للنبي، فأين الملجأ من الله؟ لقد آوى  العبد إلى الطائف يتهيأ للسفر إلى المدينة، وما هي إلا أيام حتى تذعن  الطائف لما أذعنت له مكة. والآن يفكر العبد في مهاجرة البلاد  العربية كلها. ولكن كيف السبيل إلى الهجرة؟ لقد أُخذت  عليه سبيل الحبشة، وأُخذت عليه سبيل الروم، وانبسط  سلطان النبي على الشمال والجنوب. لقد كانت الهجرة ميسورة  قبل الآن. فأما الآن فقد تقطعت من دونها الأسباب.

هنالك يلقي بعض الناس في نفس العبد أن النبي لم يقتل قط  رجلاً جاء مسلماً؛ وأن النبي ذات يوم لجالس بين أصحابه، وإذا  رجل قائم على رأسه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول  الله؛ وينظر النبي فيرى العبد فيعرفه، ولكن الله قد عصم دمه  بالإسلام، وما قتل النبي قط رجلا جاءه مسلماً، وان كان قد قتل  عمه حمزة. فيأمر النبي ذلك العبد أن يجلس ويحدثه كيف قتل  عمه؛ وهذا العبد قد جلس وهو يعيد على النبي بلاءه المنكر،  وحديثه يملأ قلب النبي حزناً ولوعة وأسى؛ والعبد بين يديه،  لو أراد لأرضى حزنه ولوعته بمصرعه، ولكن أنّى له ذلك وقد  أعتصم العبد بالإسلام؟

وقد آثر النبي أن يعفو، وآثر أن يصبر. أليس قد عفا عن هند  وقد مثلت بعمه ولاكت كبده، وجدعت أنفه وأذنيه؟ فما له  لا يعفو عن عبد مأمور؟ ولكنه قال للعبد: غيب وجهك عني،  فجعل العبد لا يرى رسول الله إلا تنكب طريقه واجتنب لقاءه.

وعاش وحشي في المدينة حراً كالعبد، وطليقا كالأسير،  وجعل الندم يحز في قلبه حزاً، ويمزق فؤاده تمزيقا، يؤرقه إذا  دنا الليل، ويعذبه إذا أقبل النهار.

ولكن العرب يرتدون، ويذهب خالد بن الوليد لقتال  مسيلمة، وهذا العبد يذهب معه ليقاتل في سبيل الله بعد أن كان  يصد عن سبيل الله.

وهذا العبد يهز حربته ذات يوم كما هزها يوم أُحد،  ويتهيأ ليرميها كما تهيأ يوم أُحد، وإذا

هي تصيب رجلا فتصرعه، وإذا الحربة التي قتلت حمزة قد شاركت  في قتل مسيلمة، وإذا وحشي قد قتل خير الناس، وقتل شر  الناس. وقد عفا النبي عن قاتل عمه، وعفا الناس عن قاتل أسد  الإسلام، ولكن نفس وحشي لم تعف عن وحشي، ولكن دم  مسيلمة لم يغسل من نفسه دم حمزة. وهذا العبد الحر يمضي مع  جيوش المسلمين غازياً فيقاتل الروم وينتصر مع المنتصرين، ويستقر  مع المستقرين في مدينة حمص هذه. ولكن بلاءه أيام الردة  وبلاءه أيام الفتح، وما أحتمل هذا كله من جهد، وما ناضل في  هذا كله عن الإسلام، لم تغسل عن نفسه دم حمزة، ولم تبرئ  نفسه من الندم لمقتل حمزة؛ ولم يبلغ الإسلام من قلب هذا الرجل  ما بلغ من قلوب كثير من الناس فيمحو من قلبه ما قدم في  جاهليته، وإذا هو يستعين على الندم بالخمر، وإذا هو يشرب  ويسرف في الشرب، وإذا هو يضرب في الشراب فلا يمنعه  الحد من معاودة الشراب، وإذا هو معروف في أهل حمص بما  قدم من خير وشر، وإذا هو معروف في أهل حمص بسكره إذا  سكر، وبصحوه إذا صحا، وإذا هو يسكر حتى يصبح مخوفاً على  من يدنو منه، حتى يصبح عاقلاً حلو الحديث. والندم  يلح عليه حتى يبغضه إلى نفسه تبغيضاً، ويصرفه عن الصحو  صرفاً، وكلما مضت الأيام ازداد إمعاناً في الشراب،  والسن تتقدم به، وجسمه يضعف شيئاً فشيئاً، وعقله يذهب  قليلاً قليلاً، والندم ماثل مع ذلك في نفسه، ملم بداره، يأخذه من  كل وجه، وهو لا يجد سبيلاً إلى الفرار منه إلا إلى الشراب،  وهو يُضرب في الشراب، وقد ضعف وفني فلا يحتمل الضرب  فيموت. ونشهد جنازته اليوم.

أرأيت أني لم أكن ملمحاً ولا مؤثراً للغموض حين كنت  أحدثك بما كنت أحدثك به من هذّه العواطف المختلفة التي  كانت تثيرها جنازته في نفوس الناس. قال عمير: أشهد أن  حكمة الله بالغة، وأن الرجل الرشيد خليق أن يتعظ بما فهم من  قضاء الله، وأن يطمئن إلى عدل الله وعفوه إذا أشكلت عليه الأمور.  قال محمد بن نصر: فإني لا أعرف شيئا يغسل عن النفس إثمها وينقيها  من السيئات كهذا الذي نحن فيه من جهاد عدو الله ما وجدنا  إلى هذا الجهاد سبيلاً.

اشترك في نشرتنا البريدية