الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الخامس عشرالرجوع إلى "الرسالة"

عمر بن عبد العزيز، ٦٢ - ١٠١ ه

Share

تتمة

لم يكن عمر بن عبد العزيز صاحب حق فى الخلافة بمقتضى  نظام الخلافة الأموية. ولكن ذيوع فضله وسموه الروحى على  سائر بنى أمية لفت اليه نظر أولى الحل والعقد من صلحاء الشام  أمثال رجاء بن حيوة الكندى وابن شهاب الزهرى ومكحول  الشامي، فلما مرض سليمان بن عبد الملك بدابق مرضه الذى مات  فيه ولم يكن له ولد بالغ يعهد اليه، لم يزل به رجاء بن حيوة  وأصحابه حتى كتب عهده لعمر بن عبد العزيز، ثم من بعده ليزيد  ابن عبد الملك. ثم أمر فأخذت البيعة من بنى أمية لمن سمى فى  عهده دون أن يعينه لهم، فلما قبض سليمان وأعلن الأمر الى  بنى أمية جددوا البيعة لعمر على كره منهم ( ٢٠ صفر سنة ٩٩ )

شرع عمر فى تنفيذ برنامجه الاصلاحى منذ تم له الامر، ولقد  كان له من زهده، ومناصرة العلماء له، ومؤاتاة أهل بيته: زوجه  فاطمة، وابنه عبد الملك، وأخيه سهل، ومولاه مزاحم، أقوى  عون على ما أراد. بدأ عمر بمنصب الخلافة ممثلا فيه فجرده من  كل مظاهر الأبهة ورده الى بساطته القديمة؛ ولا أدل على ذلك من  كلام ابن عبد الحكم قال: (ولما دفن سليمان وقام عمر بن  عبد العزيز قربت اليه المراكب؛ فقال ما هذه؟ فقالوا مراكب  لم تركب قط يركبها الخليفة أول ما يلي. فتركها وخرج يلتمس  بغلته؛ وقال يا مزاحم ضم هذه الى بيت مال المسلمين. ونصبت له  سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط كانت تضرب للخلفاء أول  ما يلون، فقال ما هذه؟ فقالوا سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد  قط يجلس فيها الخليفة أول ما يلي، قال يا مزاحم ضم هذه الى أموال  المسلمين، ثم ركب بغلته وانصرف الى الفرش والوطاء الذى لم  يجلس عليه أحد قط، يفرش للخلفاء أول ما يلون، فجعل يدفع ذلك  برجله حتى يفضى الى الحصير، ثم قال يا مزاحم ضم هذه لأموال  المسلمين.

(وبات عيال سليمان يفرغون الأدهان والطيب من هذه القارورة  الى هذه القارورة، ويلبسون ما لم يلبس من الثياب حتى تتكسر.

وكان الخليفة اذا مات فما لبس من الثياب أ مس من الطيب كان لولده، وما لم يمس من الثياب وما لم يمس من الطيب فهو للخليفة بعده. فلما أصبح عمر قال له أهل سليمان هذا لك وهذا لنا . قال ، وما هذا، وما هذا؟. . . ما هذا لى ولا لسليمان ولا لكم  ولكن يا مزاحم ضم هذا الى بيت مال المسلمين. ففعل ، فتآمر  الوزراء فيما بينهم فقالوا: أما المراكب والسرادقات والحجر  والشوار والوطار فيه رجاء بعد أن كان منه فيه ما قد علمتم ،  وبقيت خصلة وهى الجوارى نعرضهن، فعسى أن يكون ما تريدون  فيهن، فان كان والا فلا طمع لكم عنده. فأتى بالجوارى فعرضن  عليه كأمثال الدمى، فلما نظر اليهن جعل يسألهن واحدة واحدة  من أنت؟ ولمن جئت؟ ومن بعثك؟ فتخبره الجارية بأصلها ولمن كانت  وكيف أخذت فيأمر بردهن الى أهلهن ويحملهن الى بلادهن حتى  فرغ منهن. فلما رأوا ذلك أيسوا منه وعلموا أنه سيحمل الناس  على الحق)

ثم عمد الى النظام الأقليمى فأصلحه بأن عزل العمال المتشبعين  بروح الحجاج، عزل يزيد بن المهلب وحبسه فى مال كان للدولة  فى ذمته، ونفى نفرا من بنى عقيل أسرة الحجاج، وولى عمالا جددا  لم يحفل فى تخيرهم بعصبياتهم ولا بقدرتهم على جمع الأموال كما  كانت الحال من قبل، ولكن بحسن سيرتهم وطهارة ذمتهم، فكان  من عماله عدى بن أرطاة الفزارى والى البصرة، وعبد الحميد بن عبد  الرحمن القرشى والى الكوفة، وعبد الرحمن بن نعيم القشيرى أمير  خراسان، وأبو بكر بن حزم أمير المدينة، والسمح بن مالك الخولانى  أمير الأندلس. وقد شد أزر الولاة بقضاة عدول، فجعل الحسن  البصرى على قضاء البصرة، وعامرا الشعبى على قضاء الكوفة كما  جعل أبا الزناد كاتبا لأمير الكوفة. ولم يكتف عمر بذلك فى أصلاح  الادارة الاقليمية بل تقدم الى العمال فى أمر العقوبات ألا يأمروا  بقطع أو صلب قبل مراجعته هو أولا .

ثم ثنى عمر بالمسائل المالية فرد المظالم، والمراد بالمظالم الأموال  التى استولى عليها بنو أمية بغير حق، وقد بدأ فى ذلك بنفسه فخرج  لبيت المال عن كل مال لم يرض سبب تملكه، حتى لم يبق له الا  عقار يسير ببلاد العرب يغل عليه غلة يسيرة فوق عطائه الذى كان  يبلغ مائتى دينار فى العام، ثم أخذ يتتبع أموال بنى أمية يرد منها  ما ليس مشروع الملكية الى مستحقه، وقد هاج ذلك سخط بنى  أمية عليه، وذهبوا ينعون عليه أخذه أموالهم باسم (المظالم)؛ فلم  تلن لغامزهم قناته، وأراهم أنه لا يحجم عن بلوغ الغاية فى التنكيل  بهم اذا اقتضى الأمر ذلك. يروى ابن عبد الحكم " ان رجلا من

أهل حمص أتاه يخاصم روح بن الوليد بن عبد الملك فى حوانيت  بحمص كان أبوه الوليد أقطعه اياها، فقال له عمر أردد عليهم  حوانيتهم؛ قال له روح: هذا معى بسجل الوليد، قال وما يغنى عنك  سجل الوليد والحوانيت حوانيتهم، قد قامت لهم البينة عليها؟ خل  لهم حوانيتهم. فقام روح والحمصى منصرفين، فتوعد روح الحمصي،  فرجع الحمصى الى عمر، فقال هو والله متوعدى يا أمير المؤمنين !  فقال عمر لكعب بن حامد وهو على حرسه: أخرج الى روح  يا كعب، فان سلم اليه حوانيته فذلك، وان لم يفعل فأتنى برأسه!  فخرج بعض من سمع ذلك ممن يعنيه أمر روح بن الوليد فذكر  له الذى أمر به عمر، فخلع فؤاده. وخرج اليه كعب وقد سل من  السيف شبرا، فقال له: قم فخل له حوانيته! قال نعم! نعم! وخلى  له حوانيته)

وسار عمر فى اصلاح الشئون المالية على الأساس الشرعي،  فالأموال ينبغى أن تجبى من وجوهها وتنفق فى مصارفها الشرعية،  فمن أسلم من أهل الذمة سقطت عنه الجزية، وقد اسقط الجزية فعلا عن  كثير من موالى خراسان وأهل مصر، وقال مقالته المشهورة (ان  الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا) ونهى عن أن تصير الأرض  الخراجية أرضا عشرية ابتداء من سنة 100 هـ مع عدم التعرض  للحقوق التى اكتسبت من قبل، وألغى وظيفة مالية وظفها أخو  الحجاج بن يوسف على اليمن فوق الزكاة، ونهى العمال عن اقتضاء  أطلاق مالية لم يرد بها الشرع، وقد جمعها فى كتابه الى عامله على  الكوفة فقال (ولا تحمل خرابا على عامر، ولا عامرا على خراب،  أنظر الى الخراب فخذ منه ما أطاق وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ  من العامر الا وظيفة الخراج فى رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا  تأخذن فى الخراج. . . أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان،  ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت، ولا دراهم  النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض)

وقد وسع عدل عمر أهل الذمة من هذه الناحية كما وسع المسلمين،  فانه لما شكا اليه أهل نجرانية الكوفة تناقص عددهم الى العشر مع  بقاء جزيتهم على حالها، أمر برد جزيتهم الى العشر (البلاذري  ص ٦٧ ) كذلك رد جزية قبرس الى ما كانت عليه وقت الفتح  وألغى ما زاده عليها عبد الملك بن مروان (البلاذرى ١٥٤)  ويروى البلاذرى أيضا (ص ٤٢٢) انه (وفد عليه قوم من أهل  سمرقند فرفعوا اليه، أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على  غدر، فكتب عمر الى عامله يأمره أن ينصب لهم قاضيا ينظر فيما  ذكروا، فان قضى باخراج المسلمين أخرجوا، فنصب لهم جميع بن

حاضر الناجي، فحكم باخراج المسلمين على أن ينابذوهم  على سواء. فكره أهل سمرقند الحرب وأقروا المسلمين) وأبلغ  من ذلك فى الدلالة على تحرى عمر العدل المطلق ما رواه البلاذرى  (ص ١٢٤) قال (قال ضمرة عن على بن أبى حملة، خاصمنا عجم  أهل دمشق فى كنيسة كان فلان قطعها لبنى نصر بدمشق، فأخرجنا  عمر منها وردها الى النصارى) ويروى البلاذرى أيضا (ص ١٢٥)  أن الوليد بن عبد الملك قد أدخل كنيسة يوحنا فى مسجد دمشق  بغير رضا النصارى (فلما استخلف عمر بن عبد العزيز شكا النصارى  اليه ما فعل الوليد بهم فى كنيستهم، فكتب الى عامله يأمره برد  ما زاده فى المسجد عليهم. فكره أهل دمشق ذلك وقالوا نهدم  مسجدنا بعد أن أذنا فيه وصلينا ويرد بيعة، وفيهم يومئذ سليمان  ابن حبيب المحاربى وغيره من الفقهاء، وأقبلوا على النصارى فسألوهم  أن يعطوا جميع كنائس الغوطة التى أخذت عنوة وصارت فى  أيدى المسلمين، على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عن  المطالبة بها، فرضوا بذلك وأعجبهم. فكتب به الى عمر فسره  وأمضاه) ذلك موقف عمر بن عبد العزيز من أهل الذمة. أما  ما ينسب اليه فى بعض كتب الفقه من تحامل عليهم، وانه كتب الى  عماله بعزلهم عن أعمال الدولة وأخذهم بألوان من الاضطهاد  والتضييق عليهم (الخراج لأبى يوسف ٧٣) فغير مؤتلف مع  المستيقن من سيرته على فرض صحته، وقد يكون نوعا من العقاب كان  يعاقب به ذميو الحدود الاسلامية اذا هموا بمظاهرة العدو على المسلمين.

وكما كان عمر حريصا على جباية الأموال العامة من  مصادرها الصحيحة. فقد كان كذلك حريصاً على أن تنفق فى  مصارفها الشرعية. فمن حيث الفيء، قد فرض لذرية المقاتلة  وعيالهم عملاً بسنة عمر بن الخطاب التى ترك بنو أمية العمل بها، وكتب  الى عامله فى الكوفة (وانظر من أراد من الذرية الحج فعجل له  مائة يحج بها). وفرض لعشرين ألفا من الموالى كانوا يغزون  بخراسان بغير عطاء. وأظهر استعداده لان يحمل من بيت المال  الى خراسان أموالا اذا كان خراجها لا يفى بعطاء أهلها. ومن حيث  أموال الزكاة، فكانت صدقات كل اقليم تقسم على عهده فى فقراء  أهله، وقد قسم فى فقراء البصرة كل انسان ثلاثة دراهم وأعطى الزمنى  خمسين خمسين، وفرض للفقيرات من عوانس النساء، وأعتق كثيرا  من الرقاب. وقد كتب الى أحد عماله (ان اعمل خانات فى بلادك،  فمن مر بك من المسلمين فاقروهم يوما وليلة، وتعهدوا دوابهم،  فمن كانت به علة فأقروه يومين وليلتين. فان كان منقطعا به فقووه  بما يصل به الى بلده) وأمر عماله بقضاء الديون عن الغارمين فكتب

اليه بعضهم (أنا نجد الرجل له المسكن والخادم وله الفرس والأثاث  فى بيته) فكتب عمر (لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوى  اليه رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث  فى بيته، فهو غارم فاقضوا عنه) ولما رأى عمر أن ليس للشعراء  حق فى بيت المال جعل يجزهم من عطائه وماله الخاص على قلته،  بالدراهم والدنانير المعدودة، وقد أدرك الشعراء سبب تحرجه هذا  فكانوا يقبلون منه العطاء اليسير أو الرد أحيانا بغير عطاء، ولم  يقصروا فى مدحه وقدره.

على ان أهم ميزة تميز عمر بن عبد العزيز من غيره من خلفاء  الاسلام ورؤساء الدول طراً فيما نعلم انما هى رغبته الصادقة فى  نشر لواء السلم، لا على بلاده وحدها ولكن على العالم بأسره. ولبيان  ذلك نقول انه عمد فى داخل الدولة الاسلامية الى الأحزاب التى  ناوأت الأمويين منذ قام ملكهم فترضاها وحملها على ما يريد من  ايثار السلم والعافية. فالشيعة استجلب مودتهم بان منع سب على بن  أبى طالب على المنابر، وبأن رد على العلويين (فدكا) التى رآها حقا قديما  لهم قد غصبوه. والخوارج قد كبح جماحهم من طريق المجادلة  بالحسنى والاقناع بالحجة والبرهان. فعندما ظهر شوذب الخارجى  بأرض فارس أمر عمر ألا يقاتلوا حتى يسفكوا دما أو يفسدوا  فى الأرض، وكتب فى الوقت نفسه الى شوذب يطلب اليه المناظرة  فى دعواه، فأنفذ اليه الخارجى اثنين من فقهاء الخوارج ليناظراه. وقد  استطاع عمر أن يهدم كل حجة أورداها الا ما احتجا به من اقراره  يزيد بن عبد الملك على ولاية العهد مع ما يعلم من قبح سيرته، وكان  من وراء هذه المناظرة الطريفة أن انضم أحد الخارجيين الى عمر، وأما  الآخر فعاد الى أصحابه وأنهى اليهم على ما يظهر من سيرة الخليفة ما  حملهم على السكون طوال عهده. أما الموالى فقد قطع أسباب  شكواهم، بأن أسقط الجزية كما رأينا عنهم، وبأن فرض لمقاتلتهم عطاء.  وأما العصبية القبلية من يمنية ومضرية وربعية فقد هدأ من حدتها،  بأن ردع الشعراء الذين كانوا يذكون نارها، وبأن اختار ولاته  بالنظر الى كفايتهم دون قبائلهم.

أما من حيث العلاقات الخارجية، فقد سلك عمر بن عبد العزيز  فى الأمر مسلكا بدعا لم يسبق اليه ولم يلحق فيه. ذلك أنه أقفل  جميع الجيوش الاسلامية التى كانت تغزو وراء الحدود، أقفل مسلمة  ابن عبد الملك وكان مرابطا حول أسوار قسطنطينية وأعانه على القفول  بأموال بعث بها اليه. وأقفل الغزاة بما وراء النهر على كره منهم كما  أقفل من كانوا يغزون بالسند. على أن عمر لم يقف فى هذا الأمر الخطير  عند هذا الحد، بل اتبع العدول عن سياسة العنف بالدعوة السلمية الى

الاسلام. يروى البلاذرى أنه لما أقفل الجيوش التى كانت تغزو بما وراء  النهر كتب الى ملوك تلك الجبهة من الترك يدعوهم الى الاسلام  فأسلم بعضهم. ولما انتقض ملوك السند كتب اليهم يدعوهم الى  الاسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم،  قال البلاذرى (وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه فأسلم جيشبة  والملوك وتسموا بأسماء العرب) كذلك كانت سياسته بازاء بربر  المغرب الذين أشجوا الجيوش العربية زهاء ثمانين عاما. يقول البلاذرى  (ثم لما كانت خلافة عمر بن عبد العزيز ولى المغرب  اسماعيل بن عبد الله بن أبى المهاجر مولى بنى مخزوم، فسار أحسن  سيرة ودعا البربر الى الاسلام، وكتب اليهم عمر كتبا يدعوهم  بعد الى ذلك، فقرأها اسماعيل عليهم فى النواحى فغلب الاسلام  على المغرب. ويذكر المؤرخ اليونانى تيوفان أن عمر كتب أيضا  الى الأمبراطور البيزنطى يدعوه الى الاسلام.

وكأن عمر بن عبد العزيز قد اطلع بلحظ الغيب على نظمنا  الحديثة التى تفرض على الدولة الأشراف على التعليم والعمل على  نشره بين أبنائها. فقد أراد تعليم الناس كما يؤخذ من قوله فى رواية  ابن عبد الحكم (ان للاسلام حدودا وشرائع وسننا. . . . . فان  أعش أعلمكموها وأحملكم عليها) بل لقد أخذ فى ذلك بالفعل فبعث  يزيد بن أبى مالك الدمشقى والحارث بن محمد الأشعرى الى البادية  ليفقها الناس وأجرى عليهما رزقا. ثم هو أول خليفة أمر بجمع  أحاديث رسول الله وتدوينها. نقل السيوطى (ان عمر بن عبد العزيز  كتب الى أبى بكر محمد بن خزم أن انظر ما كان من حديث  رسول الله (أو سننه فاكتبه، فانى خفت دروس العلم وذهاب  العلماء. وأخرج أبو نعيم فى تاريخ أصبهان عن عمر بن عبد العزيز  انه كتب الى الآفاق ان أنظروا الى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه  قال فى فتح البارى يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوى "

وبعد، فماذا كان اثر تلك الجهود كلها؟ لقد أدت الى الغاية  التى كان يرمى أليها عمر. فقد طاف بالأمة الاسلامية اذ ذاك طائف  الزهد والورع والتدين اقتداء بخليفتها، والناس على دين ملوكهم  كما قالوا قديما. يروى الطبرى (وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ  مصانع وضياع، وكان الناس يلتقون فى زمانه، فانما يسأل بعضهم  بعضا عن البناء والمصانه، فولى سليمان فكان صاحب نكاح وطعام،  فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري، فلما ولى  عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل، ما وردك  الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ وما تصوم من الشهر؟

وأصبح الناس وقد شملتهم نعمتا الرضا واليسر. قال (كثير) يخاطب  عمر ويمدحه:

تكلمت بالحق المبين وانما تبين آيات الهدى بالتكلم وصدقت موعود الذى قلت بالذى  فعلت فأمسى راضيا كل مسلم

وروى ابن عبد الحكم قال (قال يحيى بن سعيد: بعثنى  عمر بن عبد العزيز على صدقات أفريقية فاقتضيتها وطلبت فقراء  نعطيها فلم نجد بها فقيرا، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى  عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقابا فأعتقتهم وولاؤهم  للمسلمين)

نعم، لقد أغنى عمر الناس جميعا الا نفسه وأهله. فلم ير ولى  قوم أعف عن مالهم منه، ولم ير أهل بيت أصبر على الطعام  الخشن والثوب المرقوع والبيت المتهدم منه ومن أهل بيته. ولقد  أراح عمر الناس ولكنه أتعب نفسه، فكان حركة دائمة يعمل ليل  نهار حتى ذهبت نضرته واحترق جسمه. وزاده هما فقدانه فى  آجال متقاربة من عهده القصير أحبابه وأعوانه: ابنه عبد الملك،  وأخاه سهلا، ومولاه مزاحما، فلم يقو جسمه على احتمال العمل  والألم، فاسلم الروح بخناصرة فى ٢٥ رجب سنة ١٠١ ولما يعد  التاسعة والثلاثين من عمره. وقد دفن بدير سمعان قريبا من دمشق.

لا ندرى ماذا كان عمر صانعا لو مد له فى حياته؟ أغلب  الظن انه كان يتلافى موضع الضعف من اصلاحه فيقيم هذا الاصلاح  على أساس ثابت لا يتزعزع بمجرد موته. ومهما يكن من شىء فقد

فاز عمر بن عبد العزيز بتقدير أنصاره وخصومه على السواء. فهو  عند أهل السنة مجدد المائة الأولى وآخر الخلفاء الراشدين، وقد  رضى عنه العلويون وأهدى الى روحه فى أواخر القرن الرابع  شاعرهم الشريف الرضى أبياتا من الشعر حارة جميلة، بل ان  العباسيين عندما قامت دولتهم احترموا قبره فلم ينبشوه كما نبشوا  قبور غيره من بنى أمية، على أن أبلغ من وصفه وابنه رجل كان بحكم  الظروف السياسية خصمه العنيد بل عدوه اللدود، ذلك ملك الروم  أليون الثالث. أخرج ابن الجوزى عن محمد بن معبد قال (أرسل  عمر بن عبد العزيز بأسارى من أسارى الروم ففادى بهم أسارى  من المسلمين. قال فدخلت على ملك الروم يوما فاذا هو جالس  على الأرض مكتئبا حزينا. فقلت ما شأن الملك؟ فقال أو ما تدرى  ما حدث؟ قلت ما حدث؟ قال مات الرجل الصالح! قلت من؟ قال  عمر بن عبد العزيز، ثم قال ملك الروم: لأحسب انه لو كان أحد  يحيى الموتى بعد عيسى بن مريم لأحياهم عمر بن عبد العزيز. ثم  قال انى لست أعجب من الراهب أن أغلق بابه ورفض الدنيا  وترهب وتعبد، ولكنى أعجب ممن كانت الدنيا تحت قدميه  فرفضها وترهب)

أما نحن فنلحظ فيه خير نزعاته واشرف عواطفه: نلحظ  فيه حبه للسلام وسعيه فى توفيره فى العالم، فهو بحق داعية السلام  فى القرن الأول الهجرى والثامن الميلادي، وكفى بذلك  مفخرة فى الدنيا، وقربة فى الآخرة.

اشترك في نشرتنا البريدية