تنشأ خلال عملية التطور العظيمة تنوعات جديدة لا يخلد منها إلا القليل، لان التناحر على البقاء يعمل على انتقاء أصلح التنوعات الجديدة. ويظهر أن هذه هى الطريقة الأساسية فى التطور العضوي. وأهم ما يجب أن نبحث عنه الآن هو: هل التغيرات الطارئة على حياة الفرد كنتيجة مباشرة لمميزات خاصة فى البيئة أو الغذاء أو العادات يمكن أن تنتقل بدرجة ما إلى الأحقاب التالية؟ إذ لو لم تكن قابلة للانتقال والتسلسل ولو بدرجة ضئيلة على الأقل إذن لما كان لها آية أهمية من الوجهة السلالية. فالوراثة إذن هى إحدى صفات التطور. إنها (منخل) آخر. ويمكننا أن نقول عندئذ إن عملية التطور العضوي ما هى إلا عملية انتخاب وتثبيت الصالح وإهمال الطالح.
من أعقد مشاكل علم الحياة معرفة كيفية نشوء التنوعات الجديدة. ففي القرن السابع عشر ظهرت فى إحدى حدائق مدينة هيدلبرج ( Heidelberg ) نبتة جديدة ذات أوراق غريبة مبتورة الشكل سميت (Greater Celandine) ودعيت تنوع - Variety - الـ Laciniatum من النوع - Species - الـ Chelidonium majus ومن خصائص هذه النبتة أنها أصلية ( Bred - true ) وظلت كذلك منذ ذلك العهد. هذا مثال من التنوعات الجديدة التي دامت.
ولكن المهم هو كيفية نشوء هذه النبتة.
وحدث فى زمن شارل الأول I Charles ملك إنكلترا إن رجلا فرنسيا يدعى (جيان نوكاري Jear Nrugant كان مصابا بعاهة (العمى الليلي) ، - أي عدم القدرة على الرؤية فى الضياء الضعيف. وترجع أسباب هذه العاهة إلى نقص فى شبكية العين - وقد حفظ سجل عائلة هذا الرجل إلى الآن ودرس بإمعان فعرف إن فى كل جيل وراثي كان بعض الأفراد من عائلته مصابين بتلك العاهة. وعندما يتزوج أحد أفراد نسله المبرئين من المرض بامرأة من عائلة أخرى أو بالعكس كانت العاهة تنقطع لأن جميع أفراد النسل يسلمون منها. ولكن عندما يتزوج فرد مصاب من عائلته بفرد سليم من عائلة أخرى كان يستمر هذا المرض فى عدد معين من النسل الجديد. أن ميزة العمى الليلي هذه توضح لنا ما يسمى بالوراثة المندلية Mendelian Inherstaner ولكننا قد نتساءل أولا كيف ابتدأ (العمى الليلي) .
لماذا يختلف أفراد العائلة عن بعضهم؟ كيف نستطيع تعليل بعض الحوادث العرضية كالقطط العديمة الأذناب والعجول العديمة القرون والعصافير البيضاء والصبير العديم الشوك والبرتقال العديم البذور. الخ. كيف تنشأ كل هذه الشواذ؟
تتمثل الميزات الوراثية فى البويضة والحيوان المنوي بطريقة لا نفهمها فمن الجرثومة الأولى تظهر الميزات التي تختص بها الكائنات وتميزها عن بعضها؛ وفيها العناصر التي تكون الوراثة الطبيعية للنوع. ولكن هذه العناصر قد تتحول نحو جهة معينة أثناء النمو. والواقع إننا نعلم فى بعض الحالات وخاصة فى الحيوانات الدنيا كالأسماك الفقريات - إن نمو بعض الخصائص يتوقف على انتقالات المخلوق الحي وبيئاته. وبكلام آخر أن العناصر أو العوامل الوراثية هى بذور حية يجب الاعتناء بزرعها. فما الجسم النامي إلا بذرة الأولين،
والآن نعلم انه عند نضوج الحجيرات الجرثومية (التناسلية) وتلقيح البويضة من قبل الحيوان المنوي (وهذه هى بداية حياة الفرد) توجد فرص عديدة واحتمالات شتى لاختلاط الميزات الوراثية. ومن المؤكد إن التبادلات والتوافقات Combinations & Permutations التي تنشأ بهذه الطريقة تخلق التنوعات الكثيرة خلال النمو.
إذا أمعنا النظر فى أشكال الحيوانات وصورها لا نقع على اثنين يتشابهان تشابها تاما، وهذا يذكرنا بالكاليدوسكوب الذى يعطينا مختلف الصور والأشكال بتحريك القطع الزجاجية الملونة فيه، وربما كانت الجرثومة كاليدوسكوبا حيا فقد تتأثر أحيانا بعوامل الغذاء والمحيط وعادات الوالدين وقد يؤثر عليها تغيير المناخ، أو قد تتغير من نفسها محدثة ترتيبات جديدة لعناصرها. ولما كانت الجرثومة حية فهي جسم عضوي مضمر أو بعبارة أخرى (هي مخلوق حي كامن فى حجيرة واحدة) وقد أشرنا فيما سبق إلى تعدد الفرص فى امتزاج العناصر الوراثية عند نضوج حجيرات التناسل وتلقيحها.
كثيرا ما يكون الطفل شديد الشبه بأحد والديه فى بعض الأوجه على الأقل. وقد يرث بعض الخصائص عن أبيه والبعض الآخر عن أمه وهذا ما دعا دارون إلى اعتبار تلك التغايرات كمواد أولية للتطور. وقد عثر على مجموعات من الأحافير تظهر التغير من شكل إلى آخر وتوحي لنا بفكرة (التقدم بعلاوات تدريجية) progress By Gradual Increments أو التقدم (بالاختزالات) Reductions وهناك احتمال حدوث تغير خاص فى جهة معينة الأمر الذى يجعل هذه التطورات كالفصول المتابعة فى النمو الفردي
بيد أن هناك نوعا آخر من التغير اكثر تعقيدا وهو (النشوء الفجائي) ( Mutation ) كالشعر المجعد والشعر الآنقري والنبوغ الموسيقي والرياضي والصفصاف الباكي والديك الطويل الذنب والفيل الأبيض. وقد قارن السر فرنسيس غالتون ( Sir Francis Galton ) التغايرات الصغيرة بذبذبات جسم كثير الأوجه مرتكز على أحد سطوحه والنشوء الفجائي بانقلاب الجسم كله على سطح جديد. ومن أبرز خصائص النشوءات الفجائية أنها تتوارث وتظهر بوضوح فى النسل المولود من أبوين فيهما نفس تلك الخصائص. فإذا تزوج النابغ بنابغة كان النسل حاويا لنوابغ عديدين، ولكن فى حالات كثير يجب أن يلاحظ إن النشوء الفجائي يظهر غالبا بشكل نقص فى التركيب - أي عدم وجود ميزة معينة فى النباتات، أو قرون فى الأبقار، أو أذناب فى القطط. ويقال عنه فى مثل هذه الحالات انه نشوء فجائي سلبي (Negative Mutations) بينما قد تظهر الميزة الشاذة بشكل إيجابي ( Positive ) أي بإضافة ميزة جديدة لم تكن موجودة فى الوالدين ولا فى أسلافهما.
إن أساس نظرية التطور الداروينية هو: (انتقاء الأصلح من النشوءات الجديدة بعد التجربة والاختبار) . وقد أجرى العالم الطبيعي الإيطالي (سسنولا Cesnola ) تجارب على الجراد المصلي أو فرس النبي ( Praying mantis ) وهى حشرة غريبة توجد على ضربين ( Variety ) أخضر وأسمر كل منهما ملائم للمحيط الذى يعيش فيه. ربط (سسنولا) الضرب الأسمر بخيط حريري على نبتة ذابلة فتخلصت الحشرة من أعدائها، وكذلك ربط الضرب الأخضر على نبتة خضراء فسلمت من الأعداء أيضا. ولكن عندما ربط الحشرات السمراء على نبتة خضراء والخضراء على نبتة ذابلة، سرعان ما اجتاحتها الطيور عن آخرها. فلو أصبحت إيطاليا مثلا بقعة جرداء إذن لانقرض الجراد الأخضر فيها عن آخره، ولبقى الجراد الأسمر فقط، والعكس بالعكس. هذا مثال لما نسميه بالانتخاب الطبيعي أو ما نعبر عنه بغربلة الطبيعة
رأى دارون أن يستعمل تعبير (الانتخاب الطبيعي) تمييزا له عن الانتخاب الصناعي الذى يقوم به الإنسان فإذا أعجب المربي
بضرب جديد ( New Variety ) أزوجه بآخر يشابهه على قدر المستطاع، ويبادر إلى النسل فيغربله منتزعا الضروب التي لا يريدها ومحافظا على الضروب التي يريدها. وهكذا نستطيع أن نميز عمليتين مزدوجتين فى الانتخاب الصناعي وهما: (١) تزاوج الأفراد المتشابهة المرغوب فيها (٢) إقصاء الأفراد غير المرغوب فيهم
ولكن ترى من يقوم مقام المربي المنتخب فى حقل الطبيعة، للإجابة على هذا السؤال يمكننا أن نستعين بالفكرة التي أدخلها (دارون) و (ولس) ( Wallace ) فى نظرية التطور وهى فكرة الانتخاب الطبيعي التي تعني غربلة الطبيعة للنشآت الجديدة خلال التناحر على البقاء.
لقد استعمل دارون هذا التعبير بمعنى واسعي ومجازي فشمل اتكال البعض على الآخر، وعلى الأخص نزوع الفرد إلى الحياة وتكثير ذريته. فلكي نفهم فكرة دارون يجب أن نشاركه فى نظريته الواسعة لأنه عنى بالتناحر على البقاء أكثر من نضال مستميت فى سبيل الغذاء.
تميل المخلوقات الحية إلى التكاثر، ولكثير منها نزعة شديدة للحياة لا تقف مطامعها عند حد فهي عاصية متمردة تستنكر التغيرات المقيدة لحريتها فى البيئة التي تعيش فيها. وفى وسط هذه الميول والنزعات يجري التناحر على البقاء - أو التصادم بين العضويات الحية وحواجز بيئاتها. على أن ذلك النزاع المستمر قد يؤدي إلى فناء البعض، ولكنه قد يؤدي أيضا إلى التعاون بين أفراد البعض الأخر، وقد يكون لأجل التوطن والحصول على الغذاء ولكنه قد يؤول أيضا إلى التنعم والترف، وقد يكون لأجل التمتع الفردي أو لتكوين رابطة عائلية يقوي الحب أواصرها، وقد يؤدي إلى استعمال الأسنان والمخالب ويؤول إلى النفع العام، وأخيرا يسقط فى ساحة ذلك النضال المستميت ضعاف المخلوقات ومهازيلها فيثبت القوي ويفنى الضعيف والطبيعة خالدة فوق الجميع.
لكي نهيئ مرجا صالحا يجب أن نقتلع منه الدغل ونبقى العشب
الأخضر فقط. كذلك تنتقي الطبيعة الصالح وتقضي على الطالح. على أننا نحتاج إلى نوع من السماد يغذى العشب ويقويه دون أن يفيد الدغل الضار وهكذا يتغلب العشب على تلك الأدغال. إن هذا يشبه ما نسميه فى الطبيعة بالانتخاب الجنسي لأن كثيرا من المخلوقات لا تنجح فى الحياة لقوتها ومهارتها بل لكثرتها غالبا - وقد تكون القوة والمهارة مرافقتين للكثرة أيضا.
لقد علق دارون أهمية كبرى على الانتخاب الجنسي، أي ذلك التناسل الذى يصحبه تفضيل الأنثى للذكر الذى يروق فى عينيها أكثر من غيره: إما لجماله أو لرشاقته أو لقوته، أو لجمال صوته أو لغير ذلك من الصفات المستملحة. وكان رأي دارون أن شغف الأنثى بتلك الصفات حملها على محاولة استهواء الذكر بما اكتسبته أثناء التطور من جمال قد ورقة صوت، تلك الميزات التي يهتم بها الذكر هياما عظيما.
