-١-
أشهد أن الأستاذ توفيق الحكيم مؤلف متعب وكاتب ليس بالسهل ولا باليسير، وما عليك ان لم تلحق غباره أو تلم بجميع نواحيه، ويخيل الى أنه كقمة افرست الشامخة ترسل اليها البعثات من آن لآن، ويرتادها الرواد من شتى جنباتها يحاولون الوصول الى ذلك السمو وارتقاء ذلك الارتفاع الشاهق، ويهيئون لذلك الوسيلة ويأخذون للامر أهبته وعدته، ثم يعودون ليكتبوا عنها المجلدات الضخمة ويضعون فى وصفها الاسفار المسهبة. وما يزال اكثرها مجهولا فى طى الخفاء، بعيدا عن الثابت من اليقين الذى لا يقبل الشك، وتضيع كل الجهود أمام ذروة هذه القمة هباء
أثارت "أهل الكهف" للاستاذ المؤلف ما أثارت، وأوسع لها النقد الرحاب وهتف لها اكبر الكتاب وأئمة النقاد فى البلد، وارتفع توفيق الحكيم كالطود الشامخ فى مثل لمح من البرق خاطف، واصبح اسمه ملء الاسماع والابصار، ولما يقدم الا رواية واحدة أو قل كتابا واحدا من مجموعة ضخمة يخايل بها الناس ويضن عليهم بها.
ثم نشر قصته "عودة الروح" فدلت على ناحية جديدة من نواحى كفاية هذا الشاب المؤلف، وعلى معين جديد يغرف منه توفيق الحكيم فى حكمة ومهارة. ودقة واستنباط، لست تدرى كيف تصفها ولا كيف تصورها، صورتها الحق من الجمال والفن
و"أهل الكهف" و"عودة الروح" كتابان جد مختلفين، فالأول قصة قديمة، أو قل اقصوصة دينية صاغها المؤلف فى حذق ومهارة وأتى فيها بكل طريف مبتكر مما قدره النقد وجعله يرفع الكاتب لأول وهلة الى عليين. لانه لم يكن بد مما ليس منه بد، والثانى شد ما يختلف عن الأول كل الاختلاف ويفترق عنه فى جوهره ولبابه، وان شابهه فى تفصيله وحبكه، فعودة الروح قصة مصرية، عريقة فى مصريتها، كتبها توفيق الحكيم عن الأشخاص الذين تراهم كل يوم
أو تسمع بهم مطلع كل شمس، فقدمهم اليك فى صورتهم الحقة التى تعرفها، أو تحسها ولا تكاد تنكرها، بل ما تراها حتى تتعرف اليها وترى فيها الصورة الصادقة التى تتخيلها، وهى ليست الا اشخاصا من صميم المجتمع المصرى أدار المؤلف قصته حولهم، وقدمهم اليك فى لباقة ومهارة ونفث فيهم من روحه القوى المؤاتى. كما نفث فى أهل الكهف من قبل، واذا بهم أحياء يسعون ويتحركون، يتعاطون من الوان الحياة ويعانون من ضروبها ما يمر بالكائن الحى كل ساعة وكل يوم، فاذا هم ليسوا تصوير المخيلة ولا هم القريحة بل اناس من لحم ودم، محببين اليك، مقربين منك، لانك لا تجهلهم ولست بالغريب عنهم، بل لطالما رأيتهم وتحدثت اليهم وسمعت من أنبائهم واخبارهم الكثير، وكل ما هناك أن المؤلف انتزعهم من اللحم والدم وضمنهم كتابا من اسطر وكلمات، ولكن ما نزع منهم الروح ولا حرمهم الحياة، فانهم ليحيون حياة موفورة ناضجة، بل انهم استمتعوا بدنياهم مرتين، مرة فى الحياة الحقة ومرة بين جلدتى كتاب. وما ندرى أى الحياتين كانت عليهم أجدى ولذكرهم أخلد وأبعد أثرا.
على أن "عودة الروح" أثارت لغطا واثارت نقدا هجاها ونال أو حاول النيل منها. أو قل على الاصح أن لغة "عودة الروح" هى التى أثارت هذا اللغط واثارت هذا النقد، فما قرأنا حتى اليوم كلمة هجاء او قدح فى الرواية ذاتها، ولعلها فوق ان يتناولها الناقد بالذات، أو انها تسمو فى صميمها عن اللغط، فما كان بد لمن أراد ذلك ان يتناول المظهر ويترك الأصل والجوهر، فلا يطرق بابا يعلم انه لا يستطيع ان يلجه فى سهولة ولا فى عسر، مهما جهد أو وسعت له الحيلة
على أن هذا اللغط الذى اثارته القصة كان خليقا أن يثير مناحى من التفكير ليست فى الحق جديدة، وليست مما لم يتناوله الكتاب بأقلامهم قبل اليوم، ولكنها تعاد اليوم فى صورة رحبة فسيحة الجنبات، وتنتهز لها فرصة هى ولا شك أفشل الفرص وأقربها الى خيبة المسعى، وأدناها الى قطع الرجاء. وعندى ان انصار العامية- وما أعرف موقفى منهم على وجه الدقة - ما كانوا يرحبون بفرصة عارضة كهذه الفرصة السعيدة، تثار فيها قضية العامية والعربية من جديد ويكون مثار النزاع ومركز الشجار حول "عودة الروح"
قرأت هذه القصة منذ شهرين فما طلعت شمس يوم الا وفى نيتى ان أكتب عنها، وما دخل ليل الا وقد هيأت الورق والقلم، ولكن تمر الأيام والليالى وانا متهيب أو كالمتهيب أن آخذ فى حديث عن هذا الكنز فأغفل عن درة من درره، او تفوتنى جوهرة من جواهره، أو كأنى وقد شغلنى حديث - أبطال القصة - محسن وسنية وسليم وعبده وحنفى وزنوبة ومبروك طوال هذا الزمن. استطبت الحياة مع هؤلاء الأصدقاء الجدد. واستعذبت حديثهم واسترحت الى ما يعرضون على من قصتهم وحوادثهم، والوان شخصياتهم الطريفة البديعة، فنسيت معهم كل شئ. او حرصت على هذا النسيان ولم أشأ لنفسى ان أحرمها هذا الحلم الجميل، فطال وطال حتى لم يكن بد من يقظة ولو مؤخرة
وكان لزاما على ان احدث القراء حديث هؤلاء الابطال وما وقع لهم بالتمام والكمال ... ولكن هذا اللغط الذى أثار حول لغة الرواية لم يكن ليمر دون أن يثير - كما قلنا - كثيرا من التأمل وكثيرا من التفكير، وكان أولى ان يتقدم فيه القول قبل ان ندلى برأى او كلمة فى القصة نفسها، وانى لأسأل على دهش منى وعجب ليس بالقليل: أيهما احق بالالتفات والنقد ... ألمظهر أم الجوهر؟ ألثوب أم لابسه؟ القصة أم لغتها؟
أفهم ان يتناول كاتب قصة، ينقدها ما شاء له النقد، ويمدحها او يهجوها ما ساء له المدح او الهجاء. وما شاء له ذوقه الشخصى وكفاياته واطلاعه ومقاييسه الأدبية، أفهم هذا وأستسيغه، واذا ما انتهى الناقد من القصة ذاتها وشاء ان ينقد لغتها واسلوبها من حيث اللغة نفسها فلا جناح عليه، بل لعله المقصر إن لم يفعل إن كان من الخبيرين بهذه الناحية المشهود لهم بالاحسان فيها، اما أن أدع القصة جانبا فلا أتناولها بخير ولا بشر، ولا أقول فيها كلمة لينة أو عسيرة، ثم أقفز قفزة - يالها من قفزة - فآخذ بتلابيب المؤلف لانه كتب بالعامية ولم يكتب بالعربية، فهذا الذى لا يفهم ولا يستساغ ولا يكاد الانسان يلوكه فى فمه ويجد له طعما أو مذاقا
أيهما الأصل؟ القصة أم لغتها؟ وأعنى اللغة التى كتبت بها القصة كائن حى خارج عن دائرة اللغة لانها أى - القصة - موجودة لها كيانها وذاتيتها كتبت ام لم تكتب، وهذه الحياة التى احياها انا وأنت وغيرنا من خلق الله لا يستطيع انسان - على ما أظن - أن ينكرها، وليست هذه الحياة الا قصة من مئات الملايين من القصص، لا ينقص وجودها ولا يقل من ذاتيتها كتابتها باللغة العامية أو العربية أو الفرنسية أو الانجليزية أو أية لغة
من لغات العالم ولا استثنى الهيروغليفية، فقصة "عودة الروح" ليست الا احدى قصص هذه الحياة التى تزخر بالملايين من شبيهاتها فهل نمحوها من الوجود وننكر الاعتراف بوجودها لانها لم تلبس لنا ثوب اللغة الفصيحة
وما قيمة هذه الحياة - هذه الحياة التى تتمثل فى اقصوصة - اذا كنا لا نتعرف اليها ولا نعترف بها الا فى اسموكنج أو الفراك؟! فاذا طالعتنا فى زيها الحق، فى ذلك الجلباب الفضفاض والسروال العريض انكرناها ومررنا بها سراعا غير آبهين أو ملقين النظر؟ ان فى حوانيت الحائكين آلافا من هذه البذلات الانيقة الموشاة بالحرير والدمقس ولكن يعيينا أن نلمس فى طياتها حياة أو فى أردانها قصة ؟! وما علينا بالله لو عنينا بالقصة فى ذاتها فهى ليست مما يستطيعه كل انسان وتركنا هذه البذلة وهى مما فى مقدور كل حائك؟!
ما الأصل ... القصة أم لغتها؟ وندور لنعود الى سؤالنا الأول. القصة هى الموهبة وهى الخلق، أعنى انها نتاج الموهبة وهى الثمرة أى الخلق الذى ينتهى اليه الفنان الموهوب، واللغة اكتساب وتحصيل وأنت واصل بالدرس والمران الى هذه اللغة ولو طالت الشقة، ولكنك لن توجد من العدم موهبة ولن تخلق من العظام الرميم حياة ولن تهشم رأس انسان لترفع عقلا سقيما وتضع مكانه عقلا خالقا ولو جهدت ولو استعديت كل قوى البشر، افما كان الاجدر بك والامر كما ترى أن تنظر الى الموهبة لتقدرها قدرها أولا ثم تنظر بعد ذلك فى الاكتساب والتحصيل؟! وهل تحرم على هذا العامى الجاهل يأتيك من عرض الطريق بمحض الفطرة والعقل الخالق بما لا يستطيعه العالم الجهبذ بعد الجهد والاعياء؟! نقول هل تحرم على الاول الخلق لمجرد انه جاءك فى ثوبه الطبعى ولم يحاول ان ينمقه بيد الصناعة؟! وهل تأخذ عليه انه ينبيك الخبر كما وقع ويحدثك بالامر على لسان أهله كما تحدثوا به؟
لست اتحدث هنا عن مذاهب الفن المتعددة فيما نحن بصدده، وقد أعلم ان الاستاذ توفيق الحكيم قد يحتج بانه ينقل الحياة كما هى ويرد عليه بان الفن ليس فى نقل الصور نقلا فوتغرافيا وان يكن لهذا جماله ووقعه، وقد يحتج الاستاذ المؤلف بان أشخاص قصته لم يكن لهم ليتحدثوا غير هذه اللغة التى أراد الحوار عليها لانها لغتهم الطبيعية، بل ولأن هذه هى اللغة التى تحدثوا بها بالفعل لا أكثر ولا أقل، ويكون من العسير أن تناقش المؤلف فى هذا القول، لندع كل هذا الآن ولنحصر الجدل فى قضية واحدة فاننا اذا تفرعنا بالقول هنا وهناك ذهب الاصل، واشتبكنا فى فروع وفروع
للفروع لا نهاية ولا آخر لها، وضعنا وضاع الحق بيننا. وهذه الدائرة التى نريد ان نحصر فيها القول يجمعها هذا السؤال ولنكرره للمرة الثالثة ولو اعدناه للمرة الثالثة بعد المليون ما ضجرنا
أيهما الأصل ... القصة؟ أم لغتها؟ ان كانت القصة هى الاصل وهى الجوهر وهى مدار الحديث وجب أن تكون عناية النقد موجهة اليها، وان كانت القصة القشور واللغة الجوهر فهذه مسألة أخرى
ولنفرض يا سيدى ان لغة "عودة الروح" كانت هى الانجليزية أو الفرنسية أو الفارسية، فماذا؟ ماذا بالله يا أبا السود الدؤلى؟ هل أخذت "احتكارا" باللغة العربية فما يكتب انسان الا بها ولا يدور حوار ما بين القطبين الا على أوزانها وضروبها ونحوها وصرفها؟ ولنفرض ان العامية من العربية كالفرنسية أو الانجليزية منها أفلو أن توفيق الحكيم كتب "عودة الروح" بأية لغة من لغات العالم كنا نرفضها ونأبى ان نعترف لكاتبها بجهد أو فضل لمجرد انه كتب قصته بهذه اللغة أو بتلك؟ افلا نقرأ القصص فى لغات العالم فنعجب بها وهى ليست باللغة العربية؟ لست اسأل هازلا أو متندرا بل انى لجاد كل الجد، فأذا كنا نفعل ذلك فما بالنا نقف من قصة بالعامية هذا الموقف؟ ولنفرض يا سيدى ان توفيق الحكيم لا يعرف اللغة العربية أفنكسر هذا القلم الذهبى ونخرس هذا اللسان الحكيم ونقبر هذا العقل الخلاق لمثل هذا السبب؟ بل ولألف سبب مثل هذا السبب؟! واى أديب سلمت لغته من الشوائب وها هو أحد أئمة النقد يصم اسلوب احد أئمة الكتاب بانه لا يسلم من الابتذال وكاتب آخر ينال من كاتب معروف ويقول فيه ما لم يقل عشر معشاره فى توفيق الحكيم؟!
وأيهما اجدى على الدنيا وأجدى على الادب، كاتب ذخيرته الفاظ وكلمات ام كاتب ملء اهابه الحياة وملء جعبته الدنيا يخرج لنا منها عقله الموهوب زادا دسما وطعاما لنا فيه شبع ورى؟ لو اجتمع الكاتبان لكانا أمل الدنيا وأنشودة العالم فاذا لم تشأ حكمة ازلية الا أن تفرق بينهما فأيهما نأخذ وأيهما ندع؟
ان الأدب غاية، واللغة وسيلة، وحرام ان نهدم الغاية من أجل الوسيلة، ونغالى من قدر هذه الوسيلة حتى ليتعذر عليا بلوغ هذه الغاية
"الرسالة": - كلام الاستاذ أشبه شىء بالدعابة، فان أكثره لا يجرى على قواعد الادب ولا أصول الفن، ولعمرى كيف نستطيع أن نفصل المعنى عن اللفظ أو القصة عن اللغة أو الموضوع عن الشكل وليس لأحد منهما وجود فنى فى ذاته؟ فالقصة قبل أن تلبس اللغة لا تسمى قصة، والألفاظ قبل أن تؤدى المعانى لا تسمى لغة.
