- ١٩ -
الحب دنيا خاصة طليقة
في الاستعراض السريع الذي قمت به فى أوائل الحديث عن (غزل العقاد) عرضت رأيه فى (الحب) بالعدد ٢٦٦ من الرسالة؛ وقلت: إنه يراه (رفعة للنفس ونقلة إلى عالم النجوم، وأنه قدرة قادرة تهب أصحابها مشابه من الألوهة ومقابس من النبوة)
فمن كمال هذا الرأي أن أذكر اليوم أن من خصائص غزل العقاد، شعوره بأن الحب يطلقه من قيود الزمان والمكان وضرورات الفناء، ويمنحه دنيا خاصة طليقة من كل قيد معهود.
ولا يكون الشعور بالحب هكذا، حتى يكون صاحبه ذا نفس محلقة، وذا طبيعة ناضجة، وذا إحساس مترف. فأما النفس المحلقة فهى لازمة له ليتخلص من قيود الزمان والمكان والضرورات عامة؛ وأما الطبيعة الناضجة، فهي ضرورية له ليخلص من اللهفة والوله إلى التأمل والترفع، وأما الإحساس المترف، فليغني به عن المتع الرخيصة إلى الانتقاء والاختيار
وفي هذا المجال أذكر مقطوعتين: الأولى بعنوان (عهد بين عامين) يقول منها:
(سعاد) ويا حسن هذا النداء ... إذا ما وجدتك لى صاغية
نسيت التواريخ إلا التى ... تعود بذكرك لى رواية
فأنت الزمان وأنت المكان ... وأنت غنى النفس يا غانية
ولست أعد حساب السنين ... بالشمس ظالعة غافية
ولكن بوجهك لي مقبلاً ... ونظرتك الحلوة الساجية
فيوم الرضا عالم حافل ... من الحب والذكرة الباقية
ويوم النوى عالم مظلم ... تضل الشموس به هاوية
والثانية بعنوان (سنة جديدة) وفيها يقول: أدركنا موكب السنين ... فى موكب الحب سائرين
والحب من يغش ركبه ... يساير النجم كل حين
راجع حساب السنين يا ... نجم، فما نحن حاسبين
أبا لألوف احتسبتها؟ ... أم لم تزل تجمع المئين؟
يا سنة أقبلت لنا ... أقبلت ميمونة الجبين
وداعنا فليكن غداً ... كما التقينا ... أتسمعين
فى موكب الحب نلتقى ... وفيه نمضى مودعين
وفى هذه القطعة يتضح المعنى الذي نحن بصدده، فهو يفرض أن الدنيا كلها تسير في موكب السنين العادية، وهما يسيران فى موكب وحدهما، وقد تقابل الموكبان صدفة، ثم يدع للنجم أن يعدّ سنيه ويراجع حسابه لنفسه، فما هما بحاجة لهذا الحساب، ولكنه يطلب فقط من هذه السنة التى صادفتهما سائرين فى موكب الحب أن تودعهما وهما فى هذا الموكب نفسه، وهى كناية طريفة عن الرغبة فى دوام الحب واستمراره
وغير هاتين القطعتين كثير متفرق مما يطرق هذا المعنى ويعبر عن هذا الاحساس الذى هو إحدى خصائص غزل العقاد
الحب مطلوب لشوكه كزهره
والحب عند الكثيرين متعة ولذة أو جوى وحرقة، أما هو عند العقاد فقوة من قوى الطبيعة، والشوك فيه كالزهر، والشر كالخير، كلاهما مطلوب لذاته، والألم فيه مقبول لأنه كاللذة عنصر فيه أصيل
ولن ينظر إنسان إلى الحب هذه النظرة حتى يخلص به إلى مرتبة (التجريد) بعد أن يسمو به عن الإحساس القريب المحدود
ففى قصيدة (القربان الضائع) يقول:
إله عرش الجمال ما بي ... يقصر عن وصفه خطابى
ما لضحاياي لا أراها ... لديك بالموضع المجاب
ألوم؟ أم لا يلام رب ... يكافئ الحب بالعذاب؟
وكم تجافى إله قوم ... عن سنة العدل فى الحساب
يأبى القرابين غاليات ... ويرفع البخس غير آب
فانبذ كثيري فكل حب ... فيه عطاء بلا ثواب
وكن كما كان كل رب ... جلَّ عن الصغو والجواب
إنى أشبَّ الهيامَ عمرى ... فى قبلة القلب كالشهاب
فارمقه أو غض عنه لكن ... دعه على الدهر فى التهاب
ولا تخل برده سلاماً ... فالنار خير من التراب
حبك أن أخل منه يوماً ... خلوت فى عالم الخراب
فهنا محب لا تقبل ضحاياه، ولكنه يريد هذا الحب مشبوباً، ولا يريده برداً ولا سلاماً إذا كان هذا السلام يطفئ شعلته ويخبى أواره فيتركه فى عالم الخراب
وهو فى قطعة عنوانها (فى البعد والقرب) يبدأ بالتشكى من اختلاف حال البعد والقرب من حبيبه، فيريد ألا يكون فى البعد ناراً. ثم يستدرك فيطلب إليه أن يكون عذاباً كما كان نعيماً لأن الحب لا يكمل إلا حين يكون هذا وذاك:
لن يطيب البعد يوماً لن يطيبا ... هن على اليوم إن كنت حبيباً
لا تكن ناراً من الشوق ولا ... دمعة حرى ولا قلباً كئيبا
لا تكن صحراء في البعد وقد ... كنت لي فى القرب بستاناً رطيبا
إن تغب شمسنا فأوص النوم بى ... قبل أن تعرض عنى أو تغيبا
يا حبيبي بل فكن ما كنت لى ... صانك الله بعيداً وقريبا
وأجعل الأنس نصيبي فإذا ... غبت عني فاجعل السهد نصيبا
كن نعيماً وعذاباً، ومنى ... تملا النفس، وحرماناً مذيبا
هكذا الحب دواليك فمن ... لم يكنه لم يكن قط حبيبا
ولن يقول الانسان هكذا إلا وهو مؤمن بالحب أشد الإيمان متقبل منه كل ما يأتى به كما يتقبل المؤمن الصوفى كل ما يأتي به الإله فى خشوع ورضا واطمئنان
ولا يقف هذا الإحساس فى العقاد عند هذا الحد، فقد يكون بعض الشعراء جاش في نفسه مثله، فإنما هو فى قطعة ثالثة يتلهف على شوك الحب لهفته على زهره، لأن هذا الشوك دليل عنده على قوة الحب ونمائه وفورته، فحبذا هذا الشوك إذن في دلالته، ولا حبذا العشب المريع من عتيد الحب، ولو استنام له الآخرون واستروحوه واستلانوه؛ وذلك في قصيدة فريدة بعنوان (يومنا) وفيها يقول:
سنة كانت ربيعا كلها ... بين روض يتغنى ويضوع
زهر ناهيك من زهر فأن ... أنبتت شوكاً يكن شوك ربيع
حبذا الشوك من الحب ولا ... حبذا من غيره العشب المريع
فإذا وجدنا من المحبين من يقول: سأقبل الشوك من الحب تضحية واحتمالاً، فلن تجد فيهم من يجد فى طلبه ويمدحه لأنه شوك ربيع، فهو دليل حياة ونماء فى هذا الحب المطلوب المرقوب
وهذه - كتلك - إحدى خصائص غزل العقاد
التمتع الفنى بالحب فى كل حالة
وإذا كانت هذه نظرة العقاد إلى الحب، فكل حالة من حالاته إذن مقبولة ما دامت حية نامية، وهو إنما يرتقى به عن المتاع الحسى إلى المتاع الفني، فى رفاهية وترف وطرافة ... اسمعه يحدثك عن (شوق إلى ظمأٌ) والعنوان نفسه يوحى بما وراءه:
ضِني بيومك إن بدا لك، واتركى ... لى من رضاك غدا علالة طامع
ليس ابتعادك عن هواى بمبعد ... عنى هواك، وليس منعك مانعى
إنى لألتذ الصدى وأطيله ... شوقاً إلى برد الشراب الناقع
وقد نعرف شاعراً يصبر على البعد، ويستعيض بالذكرى والحنين، عن اللقاء والاجتماع؛ أما أن يطلب الشاعر أن تضن عليه حبيبته بيومها حين يبدو لها، لأنه يلتذ الصدى ويطيله ليلتذ برد الشراب، فهذا هو الطريف، وهو وليد الطلاقة الفنية، والثقة الهانئة !
وكذلك هو فى قطعة (سحر السراب) :
هذا سرابك جنة تغرى ... يا فاتنى بالقرب والذكر
صحراء بعدك ما خلت أبدا ... من كوثر فى أفقها يجرى
لكنه يغرى وليس به ... رى، وعندك لجة النهر
وإذا الشراب خلت كواثره ... من مائها لم تخل من سحر
فافتن بذاك وذاك يصف لنا ... أمن المقيم ولهفة السفر
فهو مستمتع بكل حالة، وإذا فاته رى النهر، فلن يفوته سحر السراب، وهذا إنما هو فتنة الشاعر، إذا كان ذلك فتنة الانسان، والعقاد إنسان وشاعر وكلاهما فيه متفتح يقظ ممتاز
و (قبلة بغير تقبيل) ومن يستطيعها حتى يكون من دقة
الحس وقوة التشخيص ما كان العقاد، وهو يقول:
بعد شهر: أنلتقي بعد شهر ... بين جيش من النواظر مَجْر!
لم يحولوا - وحقهم - بين روحينا ... وأن ألزموهما طول صبر
تمت القبلة التي تشتهيها ... كلها غير ضم ثغر لثغر
ثم منها شوق، ورفُّ شفاه ... وهوى نية، وخفقة صدر
وهكذا يحلل القبلة الواحدة إلى عناصر وأحاسيس، كل منها وحدة تكون جزءاً، ثم ينظر ما تحقق من (وحدات) القبلة، فإذا هو كل عنصر روحى فيها، فلم يبق إلا مظهرها الحسى وهو (ضم ثغر لثغر) وهذا غير ذى غناء لدى محب فنان !
ومن آثر ما يروى فى هذا المجال، أبياته فى (عابر سبيل) بعنوان متاع جديد، وهى فن وحدها، ولكنه ذو علاقة بمبحثنا هذا. وإنما هى امرأة فى الأربعين فى محياها ثنايا وغضون كما يكون فى بنت الأربعين، ولكن بث الغرام أحيا قلبها، ففاض بالجمال على وجهها، وسوى غضونه وثناياه، فكانت بذلك خريفاً أحاله الغرام ربيعاً، وكانت بذلك متاعاً طريفاً لما فيه من معنى عودة الماضى، وهو المستحيل فى دورة الأيام:
من جديد المتاع يوم خريف ... تحت وهج السماء عاد ربيعا ومحيَّا فى الأربعين وديع ... تحت بث الغرام شب سريعا نضح القلبُ بالجمال فسوَّي ... من ثنايا الغضون وجهاً بديعا ذاك أحلى من الشباب شبابا ... ومن النفس ما يعز رجوعا
يعجبني في هذه الأبيات - أولاً - صدق ملاحظة الواقع، فالمرأة فى هذه السن أشد ما تكون استجابة لوهج الغرام، وهذا أسرع ما يكون فى إفاضة الحيوية عليها، حتى لتصنع المعجزات في سيماها، وكأنما تخلق خلقاً جديداً. و - ثانياً - تعبيره: (نضح القلب بالجمال) فالقلب هنا هو الذى نضح بهذه الحيوية، فتسوى ما شوهته الأيام. و - ثالثاً - استطرافه لهذا الجمال العائد المفلت من قيود الزمان بقدرة الحب الفنان. و - رابعاً - حسن استمتاعه بهذه الحالة، وهو ما سقنا لأجله هنا هذا المثال
وهذه الثالثة من خصائص غزل العقاد
نضوج وفهم للأنوثة
ولقد كنت تحدثت عن مظاهر النضوج النفسى والفنى فى غزل العقاد، وفى (سارة) بوجه خاص. فالآن أكمل هذا الحديث، حينما يطلع الناقد على فهم العقاد الكامل للمرأة، وخبرته بمسارب الأنوثة فيها ومطالبها لديها. وهذه لا تكون إلا حيث يكون نضوج الشخصية، وكمال التجربة، ووفرة الملاحظة
فيبدو لمن يقنعون بظواهر الأشياء أن المرأة حينما تحب تريد أن (تأخذ) من حبيبها، وتنتظر هداياه ومواهبه ومنحه،
وإنما هى فى الواقع - حينذاك - تتأهب لأن (تعطى) كل شئ، بل هى تتأهب لأن (تؤخذ) أخذ المشتهى المنتهب، فتحس حينئذ أنها ذات قيمة تستحق من أجلها الأخذ والحيازة!
(قال الشاعر الفرنسى (دوجيرل) لحبيبته: (لو كنت إلها لأعطيتك الأرض والهواء، وما على الأرض من بحار، ولأعطيتك الملائك والشياطين الحانية بين يدى قدرتى وقضائى، ولأعطيتك الميولى وما فى أحشائها من رحم خصيب، بل لأعطيتك الأبد والفضاء والسماوات والعالمين - ابتغاء قبلة - واحدة)
وسئل العقاد: (وماذا تعطينى أنت لو كنت إلها؟) فقال:
أعطيك؟! كيف وما العطاء بخير ما ... تبدى القلوب من الغرام الصادق!
بل لو غدوت كما اشتهيت وأشتهى ... ربَّا وأخذتك أنت أخذ الواثق
فترين أنك حين فزت بحظوتى ... أحلى وأكمل من جميع خلائقى
وتسيطرين على الصروف وفوقها ... نبضات قلبى المستهام الوامق
إن كان رب الكون عندك قلبه ... أهون لديك بأنجم وصواعق !
وبكل شمس في السماء وضيئة ... وبكل بحر فى البسيطة دافق !
ويبدو هذا الفهم في كل غزل العقاد، ولكن هذه القطعة أوضح مثال على هذا المذهب فيما بين الرجال والنساء، في الحب الناضج الطبيعى الصحيح
عنيت أن أطرق هذه النواحي في غزل العقاد، وأختار هذه الأمثلة بالذات، لأوسع الأفق أمام من يهمهم مذاهب الإحساس والتعبير، ولا سيما في الغزل الذى هو أرحب مجال للأدب النفسى الإنساني، وما من شك أن هذه آفاق جديدة لم يطرقها الشعر العربى إلا لماما، فهي ثروة تضيفها المدرسة الحديثة، لا للأدب العربي وحده، ولكن للأدب الإنسانى كله. وما بقليل أن يكون لنا شاعر مصري يضيف إلى آداب الانسانية نماذج فى الذروة من هذه الآداب
وقد بقيت لي كلمة أخيرة فى (غزل العقاد) فإلى اللقاء

