سمعت أستاذنا الجليل أحمد لطفى السيد بك يقول مرة ما معناه: أننا الآن فى دور النقل والتعريب من حياتنا العلمية. وهو قول لا غبار عليه، فان زمن الاقتصار على تراثنا العلمى والأدبى القديم قد انقضى منذ عهد بعيد، وزمن الابتكار فى العلم والأدب لم يأت بعد، وينبغي أن يتقدمه زمن نتوفر فيه على نقل أصول العلوم والفنون والآداب الغربية إلى لغتنا العربية إقتداء بما فعل السلف الصالح فى صدر الدولة العباسية.
أننا بهذا التوفر نبث فى حياتنا العلمية روحا جديدا، ونكسبها مادة جديدة وأسلوبا فى البحث والعرض العلمى جديدا، ونكون قد مهدنا للحياة العلمية المستقلة، وأعددنا لها أساسا قويا راسخا لا يخشى عليه من تطاول البنيان ومرور الزمان، ونكون قد أدينا واجب العلم والوطن والإنسانية جميعا.
لكن الترجمة الصحيحة عبء ثقيل مضن يقتضى كثيراً من الجهد والتضحية. فهي من ناحية المترجم تتطلب غزارة علم وأدب، وأنكارا شديدا للذات، يستعذب معه المترجم أن يكون أسيرا للمؤلف الذى ينقله، وقليل من الناس من يصبر على مثل هذا العناء. ثم هى تقتضى من ناحية الناشر، وبخاصة فى بلدنا هذا، أن يوطن نفسه على الخسارة المادية تصيبه مما ينشر، فإذا استطاع أن يخرج من الأمر كفافا لا له ولا عليه فحسبه ذلك.
والناشر يعد تاجر يقيس قيمة الكتب بالفائدة المادية المرجوة منها، فماذا يحمله على أن يعرض ماله للضياع؟
من أجل ذلك كسدت سوق الترجمة فى بلدنا، وتأثرت حياتنا الأدبية بهذا الكساد تأثرا شديدا، حتى أصبحت لا شرقية ولا غربية، ولا قديمة ولا حديثة، ولكن الحمد لله، فقد أخذت هذه الحال تؤذن بالتحول والزوال. وآية ذلك ما نسمعه عن التفكير فى وضع قاموس عربي جديد يجمع شتات اللغة التي أصبحت إلى حد بعيد سماعية غير مدونة. ومن آيته أيضا ما ترجم فى السنوات الأخيرة من غرر أدب الغرب وعلمه. نذكر من هذه الغرر على سبيل المثال: كتاب الجمهورية لأفلاطون، وكتاب الأخلاق، وكتاب الكون والفساد، ونظام الأثينيين لأرسطو، وآلام فرتر لجوته، وفاوست له أيضا، والشاهنامه للفردوسي، وأصل الأنواع لدارون، ثم كتاب فتح العرب لمصر، وهو الذى سقنا هذه المقدمة تمهيدا للتعريف به أصلا وترجمة.
ألف كتاب (فتح العرب لمصر) منذ ثلاثين سنة بحاثة إنجليزى هو الدكتور الفرد. ج. بتلر، ونقله إلى العربية منذ عام صديقنا الأستاذ محمد فريد أبو حديد، ثم نشرته فى هذه الأيام لجنتنا المباركة لجنة التأليف والترجمة والنشر. والكتاب يقع فى قرابة ستمائة صفحة مكسورة على ثلاثين فصلا وبضعة ملحقات. فى الفصول الأربعة الأولى يعرض المؤلف الحال السياسية العامة للدولة الرومانية فى أوائل القرن السابع الميلادي ويتكلم عن الثورة التي انتهت بأن أصبح هرقل عاهل الدولة المذكورة، وفي الفصل الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع يتكلم عن غزو الفرس الشام ومصر، فنهضة هرقل واسترداده الإقليمين المذكورين وعقده مع الفرس صلحا أعاد إلى الروم شرفهم العسكرى، فالحال الأدبية للإسكندرية خاصة لذلك العهد. وفى الفصل العاشر والحادى عشر والثانى عشر والثالث عشر يتكلم عن ظهور الإسلام، وفتح العرب الشام ومصر، واضطهاد قيرس البطريرك الملكاني للأقباط فى السنوات العشر السابقة على الفتح. ومن الفصل الرابع عشر إلى الثالث والعشرين يفصل المؤلف الكلام عن حوادث الفتح العربي لمصر، فيتكلم عن زحف عمرو بن العاص على مصر وبلوغه مدينة مصر، فغزوة الفيوم، فواقعة عين شمس، فحصار حصن نابليون
وأخذه، فالزحف على الإسكندرية والاستيلاء عليها، فاخذ المدن الساحلية الشمالية، فانتهاء السيادة الرومانية على مصر. ومن الفصل الرابع والعشرين إلى الثلاثين يتكلم المؤلف كلاما ممتعا موضوعه حال الإسكندرية وقت الفتح، ومكتبتها المشهورة، وحريق هذه المكتبة المنسوب إلى عمرو، وغزو عمر لبرقة وطرابلس، والنظام الإداري الإسلامي الذى وضع لمصر عقب الفتح. ثم يتبع المؤلف هذه الفصول بملحقات حقق فيها، بصفة خاصة، شخصية المقوقس، والترتيب الزمني لحوادث الفتح العربي. والكتاب إلى جانب ذلك كله مزود بخرائط ورسوم تعين على فهم موضوعه.
من هذا العرض العام يتبين القارئ أن المؤلف قد أحاط بموضوع الفتح العربي لمصر أتم الإحاطة، واستوعب وقائعه كل الاستيعاب، والحق أن الدكتور بتلر قد جلا موضوعا من أوعر موضوعات التاريخ الإسلامي، وحل كثيرا من ألغازه: أوضح شخصية المقوقس وكانت غامضة، ورتب حوادث الفتح ترتيبا أدنى إلى الصحة منه فى أي مصدر قديم، وأتى بالقول الفصل فى حريق مكتبة الإسكندرية، وبين وجه الخلاف القديم فى فتح مصر، أصلحا كان أم عنوة؟ على أن الكتاب يؤخذ بنقص جوهرى واحد: ذلك أن المؤلف عنى بالجانب السياسى والدينى فقط من حال مصر قبيل الفتح وأغفل شئونها الإدارية والاقتصادية على ما كان لها من أثر قوي فى سهولة انتقال مصر من حكم الروم إلى حكم العرب. ولقد ظهر فى هذا الموضوع فى العشرين سنة الأخيرة بحوث قيمة كنا نود لو أن الكتاب طبع طبعة ثانية تضمن نتائجها. من هذه البحوث: "النظام العسكري لمصر البيزنطية" لجان ماسبرو، و "الإدارة المدنية لمصر البيزنطية" لجرمين رويارد.
ثم أننا لا نوافق المؤلف على تصويره لغارة عمرو على الفيوم، فهو يرى أن عمرا عندما بلغ رأس الدلتا ورأى قلة من معه من الجند، وحرج موقفه بين جنود الروم جنوبا وشمالا، أرسل إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستمده، ورأى فى الوقت نفسه أن يشغل جنده ويستنقذهم من الخطر ريثما يصل المدد، فتكلف عبور النيل إلى شاطئه الغربى ، وأغار على الفيوم ثم عاد فعبر النيل ثانية، فوجد المدد قد قدم من المدينة. لا شك أن هذه طريقة غريبة جدا فى الخلاص من المواقف العسكرية الحرجة، ثم هى لا تأتلف بحال مع ما عرف عن عمرو من شدة الدهاء وبعد المكيدة. يضاف إلى ذلك أن المصادر العربية من حيث هذه الغزوة نوعان: فنوع لا يعرفها بالمرة، ونوع يعرفها، ولكنه يوردها على صورة تجعلها أقرب إلى المعقول من الصورة المذكورة؛ ومع ذلك لم يعتمد عليها المؤلف واكتفى بمتابعة يوحنا النقيوسى بحجة إنه أقدم عهدا من كل المصادر
العربية. ولكن القدم وحده لا يكون دائما دليلا على صحة المصادر التاريخية. كذلك يؤخذ على المؤلف حكمه فى الفصل الحادى عشر بأن غزوة تبوك المشهورة كانت فشلا، لأنها لم تؤدى إلى ما كان الرسول يرمي إليه بها من مصادمة الروم. والحق أنها أدت إلى ما كان النبى "صلى الله عليه وسلم" يرمى إليه من شد سلطانه السياسي على شمال الحجاز. بقيت ملاحظة يسيرة: لقد توهم المؤلف أن مسيلمة المتنبئ ظهر باليمن (ص١٣١) والصحيح أنه ظهر باليمامة.
ومع ذلك فهذه الملاحظات لا تنقص من قيمة الكتاب العلمية، وحسب القارئ أن يعلم أن الدكتور بتلر قد أقام فى كتابه، تاريخ الفتح العربى لمصر على أساس علمى متين، وأنه إلى الآن لم يظهر فى ذلك الموضوع كتاب آخر يدانيه، فضلا عن أن يفوقه.
أما الترجمة العربية لكتاب فتح العرب لمصر فأحب قبل كل شىء أن أهنئ صديقي فريدا على توفيقه فيها أخلص التهنئة. فقد جاءت صورة صادقة للأصل مطابقة له فقرة فقرة وجملة جملة. هذا مع سهولة العبارة وسلاستها ووضوحها، مما يشهد للأستاذ فريد بالبراعة فى صناعة الترجمة. ولكن ليت شعري أي مترجم، ولو كان الأستاذ فريد نفسه، يترجم زهاء الستمائة صفحة ثم لا يهفو قلمه ولا ينحرف عن الأصل الذى ينقل عنه يمنة أو يسرة؟ على هذا الاعتبار أهدى إلى الأستاذ فريد هذه الملاحظات اليسيرة.
جاء فى صفحة ٢٥ هذه العبارة (النذر اليسير) وصوابها (النزر) بالزاى المعجمة. وفى صفحة ٢٧ عرب اسم المستشرق المشهورDe goeje بـ (دى جويجة) وصوابه (ده غويه) ووردت فى صفحة ٢٧ أيضا كلمة (المونوفيسية) وأحسن منها أن يقال (المذهب اليعقوبى) . وجاء فى صفحة ١٢٣ (هزيمة تبوك) بدلا من (فشل غزوة تبوك) وهو المقابل للأصل، وفى صفحة ٨٣ ترجمت Theology(بالفقه) وصوابها (اللاهوت) ، وجاء فى صفحة ٢١٨ (تسور الزبير إلى الحصن) والصواب أن يحذف حرف الجر، وفى صفحة ٢٢٨ ترجمت Drawbridges بـ (قناطر) وأصح من ذلك (جسور) لأن العرف جرى بإطلاق اللفظ الأول على البناء الثابت الذى يعقد فوق الأنهار وهو غير المراد من اللفظ الإنجليزى. وجاء فى صفحة ٢٥٥ (وكانت مسلحة المدينة) بدلا من (وكانت حامية المدينة) . وفى صفح ٤٠٦ (وقال عنه النواوى) وصوابه (النووى) بدون ألف المد.
على أن هذه الملاحظات أيضا لا تضر الترجمة شيئا. وإذا كان الكتاب مثالا محتذى من حيث دقة البحث العلمى، فترجمته العربية مثال ينسج على منواله من حيث أمانة النقل وصحة التعريب.
