الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الخامس عشرالرجوع إلى "الرسالة"

فلسفة سبينوزا

Share

- ٢ -

شرحنا فى المقال السابق فلسفة سبينوزا الميتافيزيقية التى تتلخص فى أن فى الكون حقيقة واحدة خالدة، هى عبارة عن قانون عام شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبر عن نفسه ويفصح عن حقيقته الا بواسطة الأجسام المادية، فاتخذ من تلك المادة التى تملأ جوانب الكون، قوالب وأشكالا لكى يبرز عن طريقها الى عالم الواقع المحسوس، وهذه الصور والأشكال المادية التى تتخذ وسيلة للتعبير عن ذلك القانون الخالد، لا تظل على هيئة خاصة معينة، فهى متغيرة متبدلة أبدا، بل قد تزول وتفنى، ولكن تلك الحقيقة نفسها باقية خالدة لا تفنى ولا تزول، بل لا تنقص ولا تزيد، وهى لا تفتأ تلبس هذا الثوب المادى وتخلع ذاك الى أبد الآبدين. وذكرنا أن ذلك القانون الأعلى وهذه الطبيعة شيء واحد لا يقبل التجزئة.

ونزيد فى هذا المقال أن نتناول بالشرح الموجز فلسفته الاخلاقية  والسياسية إتماما للبحث :

١ - الذكاء والأخلاق

للأخلاق فلسفة متضاربة متناقضة، فهذا الفيلسوف يدعو الى نظام أخلاقى معين، وذاك يروج لنقيضه، وثالث يقف بين بين، يأخذ من هذا وذاك بمقدار. فهذه المسيحية تبشر بفضائل الاستكانة والتواضع، وتدعو الناس الى العطف والرحمة والايثار، وتعلم الناس أنهم جميعا سواسية لا يمتاز رجل على رجل، ترد الشر بالخير، وتميل فى السياسة الى الديمقراطية المطلقة من كل القيود، وهى تعتبر المحبة أساس الفضيلة. . وذانكم مكيافلى ونيتشه يدعوان الناس الى التخلق بأخلاق الرجولة القوية الصحيحة، وينكران المساواة بين الناس، فمنهم الضعيف ومنهم القوي، وفيهم العبقرى الفيلسوف وفيهم الغبى الأبله، ويحفزان الناس الى نبذ السلم والمغامرة فى معمعان العراك والقتال ليحرز النصر من هو جدير بالنصر، وليتربع على الحكم من يستحق الحكم والسلطان، والفضيلة عندهما هى القوة، ويميلان فى السياسة الى الاستبداد والأرستقراطية الوراثية، فمكيافلى يصرح فى كتابه (الأمير) بكل جرأة: (أن الأمير الذى يريد حفظ كيان دولته، لابد له فى كثير من الأحيان أن يخالف الذمة

والمروءة والانسانية والدين) كما يحبذ نيتشه سياسة بسمارك التى تنتصر بالحديد والدم.

وبين هذين النقيضين يقوم نظام أخلاقى وسط بين حب المسيح وقوة نيتشه، دعا اليه أرسطو، ومؤداه المزج بين أخلاق الضعف وأخلاق القوة، ويريد أن يلقى بزمام الأمر الى العقل المثقف الحكيم، فهو وحده الذى يصح أن يؤتمن على اختيار الأخلاق الملائمة للمواقف المختلفة، فهو يعرف متى يلبس لبوس الحنان والعطف، ومتى يتنمر ليفترس، ومعنى ذلك أن الفضيلة عند أرسطو هى الذكاء، ويميل فى السياسة الى مزيج من الأرستقراطية والديمقراطية

ثم جاء سبينوزا فأخذ ينسج من هذه الصور وحدة خلقية متناسقة. وهو فى هذا يسير سيرا منطقيا دقيقا حتى ينتهى الى نتائجه التى يقدمها، فهو يبدأ بتقريره أن السعادة هى الغرض المقصود من الأخلاق الفاضلة. ولكن ما هى هذه السعادة التى نتجه نحوها ونقصد اليها؟ هى عنده فى بساطة لا لبس فيها ولا غموض، وجود السرور وارتفاع الألم. ولكنا نعود فنقول: وما السرور والألم؟ أهما حالتان معينتان؟ أم هما نسبيان يختلفان باختلاف الأشخاص؟ هنا يجيب سيبنوزا بأنهما ليسا حالتين، أى ليس ثمة حالة مستقرة يقف عندها المرء قائلا: هنا السعادة، وهناك الألم. انما السعادة شعور بانتقال النفس الى درجة أدنى الى الكمال، والألم شعور بانتقالها الى مرتبة أبعد عنه. ولما كان الكمال عنده هو القوة، لا قوة نيتشه الغاشمة العمياء التى تقوم على الغريزة الوحشية، ولكنها القوة العقلية المتزنة. فكلما درجت صاعدا فى سبيل هذه القوة العقلية كنت أقرب الى الكمال، وكنت بالتالى سعيدا مطمئن النفس. ومعنى هذا أن العواطف والمشاعر هى مسالك أو طرق تسير فيها النفس، مقبلة نحو القوة تارة، مدبرة عنها طورا. ( لاحظ العلاقة بين كلمتى pass و passion وكذلك بين كلمتى motion و emotion لتدرك العلاقة القوية فى اللفظ بين ألفاظ الحركة وألفاظ العواطف والمشاعر. ومثل هذه العلاقة موجودة أيضا فى اللغة الفرنسية) فالفضيلة والقوة عند سبينوزا شيء واحد، أى أن الفضيلة هى زيادة فاعلية النفس التى تعمل على حفظ البقاء. وكلما اتسعت مقدرة الانسان على حفظ وجوده ازداد ما يتحلى به من فضيلة. وبعبارة أوضح يعتقد سبينوزا أن أساس الفضيلة هى الأنانية المعتدلة التى تعينك على الاحتفاظ بوجودك، وهو لا يرى فى حب الشخص لنفسه ضررا يلحق بالأخرين، واذن فلا خير فى أن تضحى بنفسك من أجل غيرك الا اذا كان فى ذلك قوة لك،

وهكذا يجب أن يحب كل انسان نفسه ، وان يلتمس كل وسيلة ممكنة تأخذ بيده الى مرتبة أدنى الى الكمال

فأنت ترى من ذلك أن سبينوزا لا يبنى الأخلاق على الايثار والخير الطبيعي، ولا على الأنانية البشعة والشر الطبيعي، ولكن على أنانية معقولة لا يجد منها مفرا لحفظ البقاء وعنده أن هذه الأنانية المعتدلة التى يمليها منطق الحياة نفسها لا يمكن أن تباعد بين مصالح الأفراد، أو تبذر بذور البغضاء فى النفوس، لذلك تراه لا يتمالك نفسه حيرة فى هذا التحاسد والتنابذ والكراهية، وهو يائس من أن يبرأ المجتمع من علله وأمراضه قبل أن يهذب الناس من هذه العواطف ويصلحوها، وهو ينصح لنا أن نبادل أعدائنا حبا بكره، ذلك لأن الكراهية تنمو وتتغذى اذا وجدت لها صدى من كراهية مثلها فى نفوس الآخرين. وهو بمحاربة هذا التباغض، ينشد فينا النخوة الحق والرجولة الصحيحة، فأنت حين تشعر بالكراهية نحو غيرك، فانما يكون ذلك اعترافا صريحا منك بانحطاطك دونه وخوفك منه، لأنك لا تكره عدوا تثق بأنك تستطيع أن تتغلب عليه فى سهولة وتدحره فى غير عناء.

واذا كانت عواطفنا الغريزية كما نرى حائرة السبيل يعوزها الدليل الأمين، فلا يجوز اذن أن نلقى بزمامنا اليها، انما يجب أن يكون الفكر وحده رائدنا، ولكن سبينوزا لا يريد أن نكبح الغرائز جملة واحدة، لا بل نستغلها ونتخذ منها دافعا يسوقنا تحت سيطرة العقل واشرافه، فتكون هى بمثابة قوة البخار الذى يدفع القطار، ويكون العقل بمثابة السائق الذى يتحكم فى سيره ووقوفه، وحجته فى عجز الغرائز وحدها عن القيادة، انها متضادة الأغراض متضاربة المقاصد، فاذا ما تركناها على سجيتها، انطلقت كل واحدة تسعى فى اشباع رغبتها، دون أن تراعى صالح الكل، واذن فلابد من رقابة رشيدة تعمل أولا وقبل كل شيء لما فيه خير الشخص كمجموعة متحدة، بأن نكبح بعض الغرائز حينا، ونطلق بعضها الآخر حينا، حسب ما يتطلبه الموقف، ومعنى ذلك كله أن الفضيلة مرهونة بالمعرفة أو الذكاء

والذكاء وحده هو الوسيلة التى نستطيع بها أن نحرر أنفسنا من سيطرة الغرائز التى تفرض عليها سلوكا معينا، وتعمل جهدها لقسرنا عليه، فنحن عبيد لها بقدر انسياقنا لما تمليه علينا، أى أن سلبية العاطفة عبودية للآنسان، وحريته فى فاعلية العقل. فالحرية الشخصية متوقفة على المعرفة، وفى ذلك يقول ديوى أستاذ الفلسفة فى جامعة كولمبيا بالولايات المتحدة: (ان الطبيب أو المهندس يكون حرا فى فكره وعمله بمقدار ما تتسع معرفته فى المهنة التى يباشرها،

وقد تكون هذه المعرفة مفتاح الحريات جميعا ))

بناء على ذلك يكون السوبرمان (الانسان الأعلى) الذى ينشده سبينوزا هو الذى يستطيع أن يحرر نفسه من سلطان الغرائز، وليس هو الذى يتخلص من القيود الاجتماعية العادلة كما صوره نبتشه. يقول سبينوزا: (ان من يعملون الخير بناء على ارادة العقل، ويلتمسون النفع الذى يدل عليه المنطق الصحيح، هؤلاء فى الواقع ينشدون مع خير أنفسهم صالحا للانسانية عامة) فلأن تكون عظيما لا يعنى أن تضع نفسك فوق مستوى البشر لتنشب أظفارك فى أعناقهم كما يريد نيتشه، ولكن العظمة هى أن تترفع عن سخف الرغبات الغريزية، التى لا يشرف عليها عقل متزن حكيم، ليست العظمة فى أن تحكم الآخرين، وانما هى فى أن تحكم نفسك

هذه الحرية التى تستطيع أن تنعم بها من السيطرة على نفسك هى أشرف مما يسمونه حرية الارادة، لأن الارادة مجبرة مسيرة، أو قل ليس ثمة ارادة ما، لأن الارادة والفكر وجهان لحقيقة واحدة. وهنا يلاحظ سبينوزا أن ليس فى جبر الارادة نقيصة يؤسف عليها، بل هو يهذب الأخلاق ويسمو بها الى مستوى رفيع، فهو يعلمنا ألا نحتقر انسانا، كائنا ما كان موضعه من المجتمع، لأنه غير مسئول عن ذلك الموضع، انما كتبت له الارادة العليا أن يكون حيث هو. والجبر كذلك يوحى الينا الرضى عما قد يبديه الدهر من قسوة وغلظة، لأننا نعلم أنه ان ظلم وجار فى ناحية معينة، فلابد أن يكون ذلك لصالح الكل، ما دامت الأفراد جزءا من جسم الوجود المتحد

2 - الرسالة السياسية

كان صوت سبينوزا واحدا من تلك الأصوات التى انطلقت تصيح بحرية الانسان. ففى نفس الوقت الذى كان فيه (هوبز) يدافع عن الملكية فى انجلترا، ويقاوم بنظريته قوة الشعب الانجليزى التى أخذت تناهض استبداد الملك، كتب سبينوزا فلسفته السياسية، وهى تعبر تعبيرا صادقا عن الديمقراطية التى بدأ يختلج حلمها الجميل فى نفوس الناس عندئذ، والتى أخذت تنمو وتنمو حتى بلغت ذروتها عند روسو، ثم تدفقت ثورة عنيفة فى فرنسا

يقدم سبينوزا بادئ الأمر هذه البديهية التى لا تحتمل الشك، وهى ان الانسان فى أول نشأته كان يعيش منفردا غير مجتمع، فلا يرتبط مع غيره بقانون ولا نظام، لا يفهم معنى الحق ألا ما يستطيع أن يستولى عليه بالقوة، واذن لم يكن ذلك الانسان الأول يدرك معنى الخير والشر، لأنهما عبارتان اصطلح عليهما

بعد تكوين المجتمع، اذ أطلقتا على بعض الأعمال التى تواضع عليها الأفراد، أما قبل ذلك فكان الفرد يتصرف حسب ما تملى عليه شهوته، وبالطبع لم يكن مسئولا عن تصرفاته الا أمام نفسه، ومعنى هذا أن الجريمة لم يكن لها وجود فى الحياة الطبيعية الأولى، لأنها لا تدرك الا فى حالة المدنية، حيث يتفق الجميع على تحديد الخير والشر، ويصبح كل انسان مسئولا عن ذلك أمام هيئة معترف بها هى الدولة

وأنت تستطيع أن تتمثل الحياة الطبيعية الأولى التى لم تكن تفرق بين الخير والشر، أو بعبارة أخرى بين ما يجوز عمله وما لا يجوز، فى علاقة الدول بعضها مع بعض، اذ لا يربطها نظام خلقى معترف به فى قوة النظام الذى يربط الأفراد، ولا تشرف عليها سلطة عامة نافذة الارادة كما هى الحال بين الأفراد، لذلك كان الحق فى العلاقات الدولية هو القوة ( يلاحظ أن اسم الدول العظمى بالانجليزية هو Great Powers وفى هذا إشارة صريحة تؤيد هذا المعنى) اذ لا تفهم الدول على وجه الدقة معنى الخير والشر كما يفهمها الأفراد .

كان الناس اذن يعيشون بادئ الأمر كما تعيش الدول الآن، ليس لأحدهم عند الآخر حقوق، ولكن لم يلبث الانسان أن شعر بحاجته الى التعاون لدرء ما يتعرض له من الخطر، فاتفق الأفراد فيما بينهم على أن يتآزروا اذا دهمهم داهم من سوء، ومعنى ذلك أن الانسان ليس مدنياً بالطبع، ولكنه اجتمع لدفع أخطار الحياة. وحسبك دليلا أن تلقى نظرة عجلى على الغرائز الانسانية، لترى كيف أن الغرائز الاجتماعية أضعف جدا من الغرائز الفردية، فالانسان يسعى لخيره أولا ثم يسعى لخير الدولة، بل هى الأنانية أيضا التى تدفعه للسعى وراء خير الدولة، لأنها دولته هو، ويريد أن يسعد بسعادتها.

اضطر الانسان اذن الى الاجتماع بعد تلك الحياة الفردية، فتواضع الجميع على حدود خاصة لا يجوز لواحد أن يشذ عنها، بحيث يصبح لكل انسان الحق فى أن يتصرف كيف شاء، دون أن يخرج على تلك الحدود المرسومة، أى أن له أن يستمتع بكل ما له من قوة شخصية دون أن يغير على حرية الآخرين، وبعبارة أخرى اتفق الأفراد على أن ينزل كل منهم عن بعض حقوقه الطبيعية لهذه الجماعة المنظمة، فى مقابل أن يأمن ويطمئن على حقوقه الباقية، أى أن قانون الجماعة يجب ألا تزيد وظيفته على الأشراف العام، بحيث يسعى كل فرد حرا، فى غير تضارب ولا تنافر بين الأفراد،

أى أن القانون الكامل يجب أن يكون للأفراد بمثابة العقل للعواطف:  يحسن تصريفها بحيث يزيد نشاطها من قوة الكل، دون أن تتعرض  واحدة منها لنشاط الأخرى

فالغرض الأسمى من الدولة اذن، لا أن تحكم الناس، ولا أن تحد من مجهودهم، بل يجب أن تؤمن الانسان من كل المخاوف، حتى يعيش ويعمل فى طمأنينة تامة. . . الغرض من الدولة أن تدع الناس يعيش بعضهم بجانب بعض، كل يستغل قوته العقلية فى صالح المجموعة، حتى لا تتبدد قواهم فى التنابذ والتنافر، اذن فالغرض الأسمى من الدولة هو الحرية)

وظيفة الدولة العليا أن تكفل للأفراد حريتهم، ومعنى ذلك أن الديمقراطية هى المثل الأعلى لنظام الحكم، ثم يستدرك سبينوزا بقوله أن ضرر الديمقراطية الوحيد هو ميلها الى وضع غير الأكفاء فى مناصب الحكم، ولذلك ينصح علاجا لذلك أن يتسلم ادارة الدولة جماعة من ذوى العقول الجبارة، كى يسيروا بها بعيدا عن مواطن الزلل. . . .

وفاضت روح سبينوزا وهو يكتب للناس رسالة الحرية

اشترك في نشرتنا البريدية