ثم انتقل إلى وصف عواطفه فقال (إنه رحب الأناة، ناصح السريرة، لا يتملكه الغضب، ولا يضمر لأحد من الناس العداوة والبغضاء). وعقب هذا الوصف قال: (لست مع ذلك عاجزاً عن الانتقام لنفسي إذا اعتدى أحد علي أو أساء إلى شرفي. وفي هذه الحال أؤمن بأن الواجب يقوم في نفسي مقام الحقد، ويأمرني بأن أتم انتقامي في صلابة وعزم)
وليس في هذا القول شذوذ أو غرابة، ولكن ما يقوله عن
الشفقة يثير الدهشة والعجب: (إني قليل الشعور بالشفقة، وأستريح إلى ذلك جد الراحة. ولكني إذا رأيت إنساناً جعجعت به المصائب، بذلت غاية جهدي في مواساته. وأعتقد حقاً أن من الواجب على الإنسان أن يسلك كل السبل التي تؤدي إلى إظهار الشفقة على من تصيبه الأرزاء والمحن، لان البائسين أغبياء إلى درجة تجعلهم يجدون في إظهار الشفقة عليهم والرثاء لحالهم راحة وعزاء. وأجد من الحزم إظهار هذه العاطفة دون الشعور بها صدقاً، لأنها لا تصلح لشيء في دخيلة الإنسان ولا عمل لها إلا إضعاف القلب وتحطيمه، ويجب النزول عنها للدهماء لأنهم لا يفعلون شيئاً بإيحاء العقل فهم في حاجة إلى عاطفة تحفزهم إلى العمل)
وقوله هذا يعبر أبلغ تعبير عن روح القرن السابع عشر الذي عرف الناس فيه بصلابة القلب وضعف الحساسية. كانوا أثناء الحرب الأهلية يدمرون نهاراً ويقتلون، ثم يرقصون ليلاً ويمجنون، وكانوا يتحدثون عن التعذيب والقتل في بساطة الحديث عن الدعابة الفرحة، والفكاهة الشهية.
ويجمل بنا في هذا المقام أن نذكر رأى ثلاثة من قادة الفكر في هذه العاطفة، لنرى الفرق الشاسع بينهم وبين لاروشفوكو. فمونتني (1) يقول: (إني شديد الميل إلى الرحمة والوداعة). وديكارت (2) يرى أن ميزة النفس الكبيرة (أن يكون شعورها
بآلامها أضعف بكثير من شعورها بآلام غيرها). ويتطلب لابروبير (1) من النفس العالية (أن تكون قوية الشكيمة فلا تلين صعدتها إلا أمام عاطفة واحدة هي الشفقة)
ومما يدعو إلى العجب أن لاروشفوكو الذي ينكر هذه العاطفة في مقالة ومواعظه، يقره في مذكراته ورسائله. فقد كتب عن ثورة الفلاحين في (بواتو) التي سبق ذكرها في تاريخ حياته يقول: (لا أنكر أن بؤسهم جعلني أنظر بعين الشفقة إلى تمردهم). ثم طلب من الوزير مازاران في ذلك الوقت أن يمنحه حق العفو. ولما أجيب إلى ما طلب أحسن استعمال هذا الحق، فلم يخدش شرفاً ولم يسفح دماً. وقبل موته بقليل أي في عام 1674 كتب إلى الآنسة دي سكوردي يقول: (بودي لو تنفق سوق الرحمة وتصبح بدعة يولع الناس بها، فلا يقع بصرنا بعد ذلك على بائسين). وكثيراً ما رأته مدام دي سفنييه (متلبساً بالحنان)، فأدركت أنه يظهر من عواطفه وقلبه غير ما يبطن. ويغلب على ظننا أن هذا الرجل لم يميز طبيعة نفسه عن الأثر الذي أنشأته فيها البيئة والبلاط. فقد اشترك في الدسائس ورأى الأمراء والعظماء يتكالبون على متاع الحياة، ويجدون في البحث عن مصالحهم الذاتية في جشع وخسة، فكرههم واحتقرهم وقسا في الحكم عليهم، مع أنه بطبعه كريم رحيم. وأثر البيئة هو الذي جعله يخلص الود لعدد قليل من الناس اختارهم قلبه، وهذا شأن المتشائمين أمثاله، يضعون كل افتقارهم إلى الحب في بعض أفراد أعزاء عليهم. وهذا الافتقار إلى الحب هو جوهر نفورهم من الناس
وكان لاروشفوكو إلى جانب الصفات التي سبقت، طموحاً ولو أنه ينكر ذلك. لم يستحوذ عليه طموح ريشيليو، أو على الأقل عجز عن بلوغ شأو هذا السياسي العظيم، فتمنع بالسعي وراء الحصول على لقب لزوجه، والسماح له بدخول قصر اللوفر في عربة. فلما أخفق في سعيه، اقتصر طموحه على كتابة (المواعظ)
وقد حال خجله دون دخوله مجمع العلماء لأنه كان يعجز عن الكلام أمام جمع كبير من الناس، وتقليدات المجمع تفرض عليه أن يرد على خطبة الاستقبال بخطبة أخرى وما كان يجيد الحديث إلا في الصالونات الأدبية التي يؤمها عدد قليل من الأصدقاء الأخصاء. وكان من عادته أن يتكلم قليلاً، وينفر من الثرثارين الذين يدخلون الخطابة في الحديث، ويفرضون الصمت والإصغاء على غيرهم. ويعتقد أن (المصلحة الذاتية هي روح عزة النفس أو الأثرة) حتى في السمر والمناقشة، فإذا لم يفكر كل إنسان إلا في نفسه وفي قوله، شل الآخرين وبعث في نفوسهم الضيق والضجر، ويرى أن أمثل الطرق لإنعاشهم وإنقاذهم من الملل هو الإصغاء إليهم وإظهار الابتهاج بقولهم. ومن وصاياه المأثورة: (يجب الإصغاء إلى المتكلم مهما كان حديثه واهي الرباط طائش الغرض عارياً من المعنى. ولا أوصي بتجنب معارضته ومقاطعته فحسب، بل أوصي أيضاً برياضة النفس على احتمال روحه وذوقه والاطمئنان إليهما والتشبع بهما، وإطراء قوله بقدر ما يستحق، ووضع هذا الإطراء في قالب أميل إلى الحقيقة منه إلى اللياقة والمجاملة). وعرف بالتجربة والملاحظة أن لا شيء أبغض إلى النفس وآلم للأذن من أن يجعل الإنسان نفسه محور الحديث في كل موطن، فتجنب ذلك جهد المستطاع
وكان يكره من المتكلم لهجة الثقة المستبدة والتعبير الذي يدل على البحث الطويل وإعنات القريحة، ويكلف بتوزيع القسط بين المعاني والمباني. ويميل إلى الإيجاز الممتع ويفخر بذلك (من شأن العقول الكبيرة أن تدل بقولها الموجز على كثير من المعاني. ومن صفات العقول الهزيلة أن تتكلم كثيراً ولا تقول شيئاً). وقد أجاد الإيجاز في مواعظه إلى درجة كادت تبلغ حد الكمال. ولنضرب مثلاً هذه الموعظة: (يملك الإنسان دائماً ما يكفي من الجلد لاحتمال آلام الغير)، فليس من المستطاع (تكثيف) التهكم في كلمات أقل من هذه. وهذا الإيجاز يجعل (للمواعظ) قيمة تاريخية هامة، لأنها تعين طوراً جديدا للنثر الفرنسي. وقد قدرها فولتير حق قدرها فقال: (يرجع أكثر الفضل في تكوين ذوق الأمة وجعلها تتعشق الأصالة والدقة إلى مواعظ لاروشفوكو)
( البقية على صفحة ٦٥٩)

