الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 32الرجوع إلى "الرسالة"

فى الأقصر...

Share

- ٣ -  كان (ترجماننا) الأمى (ضاوى) يشرح للأساتذة  الجامعيين والثانويين حديث تحوتمس الثالث مع أخته العاشقة،  ووجوه التماثيل الواجمة غارقة فى صمتها الناطق، تتراكم على  قسماتها أنظار الخليقة، وتجثم على شفاهها أسرار القرون،  ورءوس الأعمدة القائمة ناتئة فى أشعة الشمس كالمزولة الهائلة،  ترسم بظلالها الوريفة تعاقب الساعات منذ آلاف السنين!  وكانت عيناى الحالمتان قد وقفتا على تمثال من تماثيل رمسيس  الأكبر، يخطو إلى الأمام خطى المصمم الواثق، وباحدى يديه  مفتاح الحياة يجتاز به موت الساعة الى خلود الأبد

والخلود حلم الفراعنة الدائم وهواهم الملح، أخطره  ببالهم قبل الناس ما متعوا به من فيض الحيوية وخفض  العيش ونفوذ السلطان واكتمال اللذة، فلو أنهم عاشوا على جدب من الاقليم، وحرب مع الطبيعة، وهوان على الدهر،  لاستشرفت نفوسهم للبلى، واستهلكت عقولهم للعدم

خلد الله الروح وحاول الفراعين تخليد الجسد!  وما يدريك لعلهم كانوا يظفرون بهذا الخلود لو خلى الناس  بينهم وبين الزمن. لقد قهروا الفساد والدهر وقهرهم اللص  والفاتح! فمنذ خمسة وعشرون قرنا ما برحت يد الانسان

تبعث بهذى الجسوم والجروم! جرب القدر عليها حقد  قمبيز، وعبث الاسكندر والقيصر، وورع تيودوسيوس  وعمرو، وزهو المأمون ونابليون، وعلم مسبيرو وكارتر،  فقطع بعض الرقاب، وقوض بعض الأنصاب، ونبش  بعض القبور، ولكن بسمة رمسيس لا تزال كما أراها  تناجز الفناء وتعاجز القدر!! وأى سبيل بعد ذلك الى  بلاها ومسلاتها فى العواصم الأوربية، ومخلفاتها فى المتاحف  الأثرية، باقية ما بقيت الأرض؟!

صعد بنا الدليل باب المعبد فى سلم جانبي حديث يقوم  عن شماله، ولو قلت لك البرج بدل الباب لقربت  اليك وصفه! فهو سطح عريض من ضخام الجلاميد تكدس  بعضها فوق بعض كما ترى فى الهرم، أشرف من شرقه على  ما بقى من صخور السقف فوق الأساطين، وتراءى من  النصب خلال الاواوين، وطعن فى السماء من أسنة المسال؛  من غربه على طريق بين صفين متوازيين من الكباش  الرابضة فى حجم البقر، يسايره النظر والفكر الى مرفأ  كان ولا شك ينتهى عنده قبل أن يأخذ النهر من الساحل  الغربى ألف متر

فى  هذا الطريق كانت تخرج الجنائز الملكية من المعبد  الى نهر الحياة فتعبره الى مراقدها الصخرية الآبدية فى  جوف الجبل، وفى  هذا الطريق كان يسير موكب أمون  السنوى الى النهر، أمامه زمر المهرجين والمشعوذين  يدورون على الأرجل، ويمشون على الأيدى، بين أخلاط  من باعة الفاكهة وشواة الإوز والبط، ثم يلى هؤلاء جوقات الموسيقى  تصدح بالأهازيج، وطبقات الكهنوت تعج  بالأناشيد، وحاملو الأصنام والبنود يسيرون بها وئيدا فى  خشوع ورهبة، حتى إذا بلغوا المرفأ تقدموا بامون  فجعلوه فى فلكه الذهبى، وبالآلهة الأخر فوضعوا كل إله  وكل الآهة فى زورق خاص، ثم يسير الفلك بالاله  الأكبر متنزها على النهر، تتهادى من ورائه زوارق الآلهة

على الماء, وتهلل من حوله جموع الناس على الشاطئ !

من العسير على النفس الشاعرة ان تعيش فى حاضرها بين هذه الاخيلة والصور ! فحيثما ارسلت طرفك أو نقلت خطاك وجدت حجرا يكلمك أو أثرا يلهمك ! هذا التمثال الذى تراه أمامك, أتدرى كم مرة طالعته الشمس, وكم نظرة نظرته الناس, وكم وقفة وقفها عليه أقوام من قبلك بعضها للتقديس, وبعضها للتدنيس, وبعضها للعبرة !!

أنك لتغرق من هذا الماضي الحاضر في فيض من التأمل  العميق الهادئ، يقطعك عن الدليل، ويفردك من الجمع،  فلا تجد - متى عدت لحظة الى نفسك - الدليل الذى كان  يخطب، ولا الحشد الذى كان يسمع، ولا العربة التى كانت  تنتظر!

خرجت فيمن تخلف فى المعبد من الأصدقاء الشعراء  وأخذنا نسير الهوينى فى طريق الرمل حتى أدركتنا فى بعضه  عربة أقلتنا الى الفندق

وفى الأصيل المونق من هذا النهار المشرق خرجنا نشهد وداع الشمس الغاربة لأطلال معبد الأقصر

ومعبد الأقصر كذلك أجمة من العمدان الباسقة المتشاجنة  نتأت على سيف النهر فى طول ثلثمائة متر بمشيئة آل  أمينوفيس ورمسيس الاكبر!

وأول ما يملك عليك عقلك وقلبك فيه منظر يجمع تاريخ الوادى ويختصر أطوار العقيدة: ذلك منظر المسلة  فى المعبد، والبرج فى الكنيسة، والمأذنة فى المسجد!

تجاورت هذه الثلاثة فى هذا المكان منذ قرون تجاور الخصوم اللد، لا يسفر بينها سلام، ولا تقطع  حروبها هدنة!

ومن الغريب المعجز أن تصمد هذه الأوثان لهجمات  المسيحية والاسلام، صمودها العجيب لعاديات الليالى

والأيام ..!

اشترك في نشرتنا البريدية