"فى الصيف" بعد "الأيام" دليل بعد دليل على ملكة أخرى كانت مجهولة فى هذا الذهن العجيب! فقد كان عهد الناس بصديقنا طه عالما غزير البحر، وباحثا جرىء الرأى، وناقدا نافذ البصيرة، وجدليا دامغ الحجة؛ أما الكاتب الذى يستشف بالالهام حجب الغيب. وينمق بالخيال صور الحقيقة، ويحيى بالعاطفة خمود الفكرة. فظل مغمورا بين الأديب الذى يبحث فى ضوء العقل. والأستاذ الذى يدرس فى حدود العلم، فلم يكد يظهر الا فى صفحات من ذكرى أبى العلاء نسى فيها المعرى وذكر نفسه، وفى مقالات نشرت فى السفور صور فيها عواطفه وحسه، حتى نشرت (الأيام) فعجب الناس أن يكون وراء هذا العقل المتمرد هذا القلب الشاعر. واقبلوا فى دهشة يتعرفون الى طه التلميذ والأخ والزوج والوالد. ويتحدثون اليه فى منازله ومباذله وبين أهله، فيجدون من اللذة فى أحاديثه، أمثال ما وجدوا من الفائدة فى بحوثه، ثم جاء كتاب اليوم قاطعا فى الدلالة على بلوغ هذه الشخصية الأدبية الغاية فى كل ناحية من نواحى الأدب، حتى الناحية التى لا يغنى فيها الخيال عن الواقع. ولا السماع عن النظر!
قرأ (فى الصيف) أديب كبير فطلب الى طه فى شيء من الدعابة أن يترك العلم الى القصص، وتقرأ أنت (فى الأدب الجاهلى) فتقول هذا اختصاصه وتلك مادته، ولعلك اذا سمعته يحاضر أو قرأته يناظر تقول هذا عمله وهذه غايته. وأبلغ آيات العبقرية أن تكون فى كل مادة أصيلة، وفى كل موضوع سامية، وفى كل غاية مبرزة.
طه قصصى من طراز خاص، أو هو لم يشأ الى اليوم أن يكون على غير هذا الطراز. فالأيام وفى الصيف طوائف شتى من الذكريات التأملات والملاحظات أنثالت فى وقت الفراغ على ذهن شديد
النفاذ، وفكر دقيق الملاحظة، وشعور صادق الحس، ثم ألف بينها خيال كروح المنطق فيه لذة وفيه عقل، وأبان عنها أسلوب كأسلوب الحديث فيه طلاوة وفيه فضل، ثم تقرأ قليلا واذا بك متصل بالكتاب، مغمور بشعوره، مسحور بحديثه، مشغول بتفكيره، يخرج بك من موضوع الى موضوع، وينقلك من موضوع الى موضوع، دون أن يدع لك السبيل الى استرجاع الذكريات التى هاجها بذكرياتها، واستقبال الخواطر التى جددها بخواطره. فأنت منه كما تكون من البحر الداوى لا تدرى بماذا استولى على مشاعرك؟ أبحلاله أم بجماله أم بسعته أم بروعته أم بكل أولئك جميعا؟ ثم تفرغ من القراءة وتعود الى نفسك فتقول: ربما ولدت هذا المولد؛ ونشأت هذا المنشأ، ودرست هذه الدراسة، وسحت هذه السياحة، ورأيت هذه الصور، وعرضت لى مثل هذه الخواطر، ونعمت بمثل هذه الأسرة، ولكن أولئك كله جف فى خيالى كما يجف نمير الماء فى العود الذابل، ومات فى خاطرى كما يموت رنين الصوت فى الصخر الأصم! ولكنها فى الأيام أحيا ما تكون فى ذهن، وفى كتاب "فى الصيف" أزهى ما تكون فى خيال!! ذلك اذن هو الفن الذى يخص الله به انسانا دون انسان. وذلك اذن هو ما ينقص الناس فيجدونه فى الفنان!!
"فى الصيف" لا يروعك منه الحادث، ولا تدهشك المفأجاة. ولا تشوقك العقيدة، ولا تفتنك الصنعة، فانه كما قلت لك مجموعة من الذكريات والتأملات يتشقق بعضها من بعض كما تتشقق الأحاديث، وانما يأخذ بلبك منه الصدق فى تصوير الفكرة، والحذق فى نقل الشعور، والنفس التى تشتد فى المجتمع حتى تشتط، وترق فى الأسرة حتى تضعف، والروح التى تحلق فوق الأحداث متمردة. وتخفض الجناح لأهواء الطفلين الحبيبين حانية، والألمعية التى تصور بالظن فلا تخطئ اليقين، وتسمو على جناح الخيال فلا تفوت الحقيقة، والأسلوب الذى يحار فى تعريفه البيان المكتوب، وأقل ما يصفه به الكاتب العجلان أنه تفضيل فى غير املال، وبساطة فى غير ابتذال، وتدفق فى غير كدورة، وجدة فى غير عجمة، واهمال
نادر يجره الاملاء وتجرفه شدة الحركة، ومذهب جديد كثر فى ناشئة الكتاب من يحاول الجرى عليه.
ان فى هذا الكتاب صفحة ضاقت بما يضيق به القلب الصديق! نشرتها ظروف وستطويها ظروف، وسيطيل النظر فيها من يعنى بفهم هذه النفس الكبيرة على حقيقتها، ودرس ما تتأثر به من العوامل فى بيئتها، وان فى هذا الكتاب صفحات على نحو ما فى (الأيام) من ذكريات الأزهر، وأحاديث اخوان الصفا من طلابه، وآلاف الجمود من شيوخه، ولن يتذوق ما فيها من جمال الفن الا من حى هذه الحياة وشعر هذا الشعور، وان فى هذا الكتاب صفحات خالدات لن تجد كثيرا من أمثالها فى الأدب العالمى! تلك ما كتبت عن فرنسا عامة وعن الألزاس خاصة.
أما التحليل والتمثيل فلن يغنياك عن قراءته شيئا، وفى اعتقادى أن خير ما يسر به الانسان نفسه أن يغيب عن دنياه فى دنيا هذا الكتاب ساعة أو ساعتين!
