أفديه إن حفظ الهوى، أوضيعا ... ملك الفؤاد؛ فما عسى أن أصنعا من لم يذق ظُلم الحبيب كظلمه ... حلواً فقد جهل المحبة وداعى يأيها الوجه الجميل تدارك الصبر ... الجميل، فقدعفا، وتضعضعا هل في فؤادك وحمة لميتم ... ضمت جوانحه فؤاداً مًوجعاً هل من سبيل أن أبث صبابتي ... أوأشتكي بلواي، أو أتوجعا إني لا ستحيي كما عودتني ... بسوى رضاك إليك أن أتشفعا أغنية شائعة، نستمع إليها، ونطرب لها، ونحفظها، وقليل من هو الذي يعرف أن قائلها أبن النبيه الشاعر المصري الذي أحببنا أن نحدثك عنه اليوم
- ١ - يذر التاريخ ولاينسى لصلاح الدين وخلفاء صلاح الدين أنهم هم الذين حموا ذمار الشرف من غارة الأوربيين الذين كانوا يمنون النفس بالآمال الكاذبة في الشرق وامتلاك أرضه، فكان العصر عصر حرب وقتال ونضال ونزال بين الشرق والغرب، خرج منه الشرق ظافراً منتصراً على أيدي ملوك مصر وخلفائهم. ولقد ولد شاعرنا على ما يظهر قبل أن يلي صلاح الدن ممر بقليل ، ولكنه نشأ وشب فى أحضان تلك الدين حكم مصر بقليل، ولنه نشأ لم يعش بمصر طوال حياته، بل تركها إلى أقطار أخرى كانت كذلك تحت حكم الأيوبيين؛ غير أنه على ما يظهر لي - لم يغادر الديار المصرية مرة واحدة، بل كان يزورها في الحين بعد الحين، واستطاع أن يتصل فيها بطائفة من وزراء الدولة وكبار رجالها القاضي الفاضل، وأسعد بن مماتس، وصفي بن شكر. والراجح عندي أنه لم يغادر مصر إلا بعد أن مات صلاح الدين، فانه حينما خرج من مصر مدح العادل، والعادل لم بل حكم الجزيرة إلا بعد أن مات صلاح الدين، ولذلك فابن النبيه مدين لمصر بتنشئته وثقافته، ومدين لها بالرقة والعذوبة التي تتجلى في شعره، وتأسرك إلى قراءته
قسراً، غير أن نفسه الطموح الراغبة في العظمة والمجد بدأت تتطلع إلى نيل ركز سام ومنصب رفيع، ورأى أن في مصر من العظماء من لا يستطيع قهرهم ولا منافستهم، فحث الخطا إلى الجزيرة حيث يستطيع أن يجد له ميداناً للعمل والتقدم، فاتصل بالملك العادل، ومن بعده اتصل بابنه الملك الأشرف الذي كان يلقب بشاه أرمن لاستيلائه على بلاد الأرمن، وقد اختص بهذا الاخير، حتى إنك إذا قلبت ديوانه وجدت معظمه في مدحه والثناء عليه، وحتى لتوهمك مقدمته أنه إنما جمع قصداً لكي يجمع ما قاله في الملك الأشرف من مدائح، ولقد أصبح أثيراً لديه يستصحبه في رحلاته وتنقلاته، وأصبح ابن النبيه اللسان
المسجل لما يلقاه المليك من خير أو نصر أو حداث هام؛ , صار كاتب الانشاء له، يدبج عنه الرسائل، وأحياناً كان يكتبها بالشعر كما سنتحدث بعد. ويقول من أرخ لأبن النبيه: إن له شعراً أعذب من الماء الزلال، وأغرب من السحر الحلال، ونثراً ألطف من كاسات الشمول، وأدق من نسمات الشمال، فالنظم والنثر عنده جنتان عن يمين وشمال. . . غير أننا سنقصر كلامنا اليوم على شعره، وإن كنت أرجح أن المقدمة التي في صدر ديوانه، وهي مقدمة نثرية من صنع ابن النبيه فان منها قوله:
وأحق الناس بعد الله تعالى بالشكر ملك أشار اليه بنان البيان، وأينع بذكره جنان الجنان، وقلد بذكره القريض فزان الأوزان، عف وعفا، وكف وكفى، وأحيا رفات الوفا، فزمان دولته غض الغضارة، نض النضارة، حلو البشارة، بديع الاشارةن المولى السلطان الملك الأشرف شاه أرمن، سلطان العراق والشام، مظفر الدين ناصر أمير المؤمنين، أبو الفتح موسى اين السلطان الملك العادل سيف الدنيا والدين، أبي بكر بن أيوب خليل أمير المؤمنين، خلد الله ملكه كما خلد في ديوان المحامد ذكره، وخذل بسلطانه أعداء الدين، وأعز نصره، ولما لم يجد مملوك دولته، وغرس فواضله، وربيب نعمته، الفقير إلى الله
تعالى أبو الحسن كمال الدين علي بن محمد بن النبيه ما يكافيء به أياديه،
ويجاري به إحسانه الذي يخجل الغيث روائحه وغواديه، توفر
استخراج جواهر صفاته من بحر كرمه، ونظم فوائد فوائده
فكافأ نعمه بنعمه، وجمعها في هذا الكتاب معترفاً أن الشرف
للجوهر لا للناظم، وأن الفضل للبحر الذي أرسل اليث على
أجنحة الغمائم، وجعله عرضة لنقد الخواطر، وميداناً لجولان
قريحة كل متأمل وناظر , وسبيل كل منصف ينظر فيه الايمان
بآيات سحره المبين , وإقالة العثار فيما لعله يعرض من الخطأ .
الوارد على المؤلفين والمصنفين , وليعفوا وليصفحوا , الا يحبون
أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم . فاذا انت قرأت تلك المقدمة
وأنصت إلى قوله : لم يجد مملوك دولته إلى آخر ما قال استطعت ان تزجح ان تلك المقدمة من قلم ان النبيه , واستنبطت منها أمورا اربعة : اولها ان القصد من جمع الديوان تسجيل ما قاله فى الملك الأشرف , ولذلك رتب الشعر , فيدا اولا بما قاله في الخليفة العباسي , لسيادته الروحية على العالم الاسلامي كله , ثم ثني عما قاله فى الملك العادل والد الاشرف , تم ثلثبما قاله فى الملك الأشرف , وهو معظم ما قاله من الشعر , تنم ذكر ما قاله فىغيره من أمراء الأبوبيين والوزراء . ثانيها ان الشعر الذى فى ديوان ابن النبيه شعر يقره ورضاه ويعده سحرا ويفخر بنسبته إليه , ومن اجل ذلك ترى من ارخ له يقول : إن هذا الشعر الذى بين أيدينا ليس بكل شعره وإنما هو اختيار منه , مستدلين على ذلك بأنه شعر بارع جيد يدل على ان صاحبه قد مرن على قول الشعر طويلا حتى انقاد له , واصبح ذلولا , فحذف منه مالا يرضى وابقي منه هذا
الديوان الصغير، الذي اشتمل على جيد شعره (وإلا فما هذا شعر من لا نظم إلا هذا الديوان الصغير) صاحب فوات الوفيات، على أنه على ما يظهر لم يجمع ديوانه كله، إذ أنك ترى في آخر ديوانه بعض شعر وقصائد ألحقها به جامع الديوان بعد ابن النبيه. ثالثها أن شعر المدح يجب أن ينبعث عن عاطفة حية هي عاظفة الشكران وحفظ الجميل، وهو يرى أن المدح لذلك واجب لأنه شكر للنعم على ما أنعم، وشكر المنعم أول الواجبات قال. . . إن شكر كل منعم واجب، وقام على ذلك دليل انعقد عليه إجماع أئمة المذاهب، وذل يدلنا على أنه حقاً من ممدوحه حس الصنيع وأيادي جمة استحق من أجلها أن يشكر وأن يثنى عليه. رابعهما أن تلك المقدمة تعتبر نموذجاً لنثره، وهي لذلك تستطيع أن تعطينا صورة عن هذا النثر الذي دبجته براعة ابن النبيه، فهو نثر صناعي يلتزم فيه السجع، ويكون لصناعة المحل الأول في إنشائه،
شأنه فى ذلك شأن كتاب النثر فى ذلك العصر الذي حمل لواء الزعامة فيه القاضي الفاضل ومن نهج منهجه , فلا جرم كان تثره صناعيا خاضعا لاحكام البديع وقوانينه , هذا وإن شعره ونتره و توليه اعمال الانشاء للملك الأشرف تدلنا علي نوع الثقافة التي تلقاها حتى هياته لتولى ديوان الانشاء فهو علوم الدين واللغة العربية تلك العلوم التي كان لزاما ان يأخذ منها بحظ وافر يساعده على تولى هذا المنصب , ولقد تلقى هذه ,الثقافة بمصر ، إذ أننا قد نجحنا انه لم يغادر وادى النيل إلا بعد موت صلاح الدين , فيكون قد شب ورعر ع في أرض مصر , والثقافة المصرية كانت زعيمة الثقافات , كما كان ملوكها زعماء الملوك
- ٢ - لأبن النبيه مذهب في الحباة يشبه مذهب غيره من شعراء مصر أو على الأقل شعراء مصرر الذين درسنا أقوالهم، ذلك المذهب الذي ينظر إلى الحياة نظرة من يريد التمتع بما فيها من خير وجمال، لا يصدف عنه، ولا ينأى بجانبه عن حسنه وما كمن فيه من أ سباب السرور والمتعة، فهو يوقن أن الدنيا متقلبة، فهي جيناً ضاحكة، وأحياناً عابسة، فما له يعكر على نفسه صفوها حينما تكون صافية، وما لا ينتهز الفرص وينال اللذة؟
خذ من زمانك ما أعطاك مغتنماً ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره
فالعمر كالكأس تستحلي أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره
واجسر على فرض اللذات محتقراً ... عظيم ذنبك، إن الله غافره
وكان لهذا المذهب آثاره الكبرى في حياته العملية، فهو يحب الخمر ويطرب لشربها، ويترع الكأس ويروي بها ظمأ نفسه، وهو يهفو الى السقاة يتغزل فيهم، ويصف محاسنهم، وقد كان السقاة يُختارون من أجمل الفتيان وأصحبهم؛ بل إنه يهفو الى كل وجه جميل، ولو كان وجه جندي من الكماة، وهو يحن الى مجالس الأنس يسعى إليها ويدعو صحبه ليشاركوه لذته، وهو يأنس الى الطبيعة يحب جمالها، ويغرم بمفتنها فيصفها، وهو يجد لذة في الخروج الى الصيد يخرج الى اللاة مع رفقة حسان الوجوه، ثم يعود بما وقع في يده من صيد، وذك كله نتيجة لهذا المذهب الذي اختطه لنفسه، وكان شعره صورة حية له، فأنت تسمعه يصف الخمر ويقول:
تأمل كؤس عتيق الرح ... ق ترى الماء يجمد والخمر ذائب
لما في الزجاجة رقصالشب ... اب ومفرقها أشمط اللون شائب
وترعد غيظاً إذا أبرزت ... من لدن كالمحصنات الكواعب
كأن الحباب على رأسها ... جواهر قد كللت في عصائب
لحمرتها صح عند المجو ... س أن السجود الى النار واجب
ويصف موطن لذة نال فيه السرور من الخمر والساقى ويقول :
رق الزجاج وراق كأس مدامنا ... ورضاب ساقينا الأغن الأهيف
فمزجت ذاك بهذه وشربتها ... ولثمته، وضممته يتلطف
وجنيت من وجناته لما استحى ... وردا بغير رضا بنا لم يقطف
ورنا الى بطرفه فكأنما ... أهدي السقام لمدنف من مدنف
بتنا وقد لف العنق جسومنا ... في بردتين: تكرم وتعفف
ويقول مرة أخرى متغزلا بالساقى وكان من الأتراك :
ساق أن جبينه في شعره ... قمر تبلج في الليالي السود
غصن تزنح خصره في ردفه ... فعجبت لمعدوم في الموجود
إياك والأتراك إن لبعضهم ... أشخاص غزلان وفعل أسود
أجسامهم كالماء أنها ... حملت قلوباً من صفا الجلمود
وتسمع منه غير ذلك كثيراً في وصف الخمر وسقاتها والتغزل فيهم؛ ولعل بعضهم لامه على شرب الخمر أو على الاثار من شربها فقال له:
الراح روحي، فكيف أهجرها ... منظرها طيب ومخبرها
راح إذا ما الفقير صافحها ... إغناه ياقوتها وجوهرها
فاذا ذهبت تستمع الى حبه للطبيعة وغرامة بها سمعته يقول :
قس بالسماء الأرض تعلم أنها ... بكواكب الأزهار أحسن زخرف
أحداق نرجسها لحد شقيقها ... مبهونة بجماله لم تطرف
والطل في زهر الاقاح كأنه ... ظًلْك ترقرق في ثنايا مرشف
وهو إحساس طيب وشعور حميد يوجه نظرك إلى أن في الأرض جمالاً قد تزيد قيمته عما في السماء من نجوم وكواكب، فليقبل على الزهوز يتمتع بمرآها، ويستلذ بشميم رياها وينعم بجمالها - كا كان له - كما حدثتك - لذة خاصة في الصيد حينما يخرج مع جماعة (حسان الوجو) فيصطادون ويتمتعون وهو يصف لك ذلك في قوله:
برزنا الى الهو في حلبة ... حسان الوجوه خفاف المراب
بنادقهم في عيون القسي ... كأحداقهم في قسي الحواجب
فتلك لها طائر في السما ... وهذي لها طائر القلب واجب
وحلت سوابق شهب خو ... طفُ حجْن المناسرُ المخالب
بزاة لها حدق الأفعوا ... ن وأظفارها كحماة العقارب
فللأفق نسران: ذا واقع ... وذا طائر حذر الموت هارب
وألق كلابنا ضارياً ... يباري هبوب الصبا والجنائب
تطير به أربع كالريا ... ح ويفترض عن مرهفات قواضب
ويضرب في ليل جلبايه ... شعاع شهاب من العين ثاقب
وعدنا نجر ذيول السرو ... ر والطير والوحش ملء الحقائب
ألا تراه يصف لك رحلة شقية؟ إذ انه قد خرج مع جماعة حسان الوجوه يقصدون اللهو والتمتع فاختاروا الصيد ملهى لهم فخرجوا يبغونه، ولكنه قبل أن يصف لك ما فعلوه في رحلتهم مضى يحدثك عن جمال رفقته وأن عيونهم كالسهام تصيب القلوب وتدميها، فأحداقهم البنادق هذه هدفها طائر في السماء، وتلك يجب لها طائر القلب ويخفق
ذهبوا الى مكان الصيد فأطلقوا بزاتهم وكلابهم فانطلقت لاتلوى على شيء تصطاد ما عن لها، وبعد أن وصف لك بزاتهم و كلابهم التي كانت عدتهم طمأنك على نتيجة الرحلة وأنها أنتجت نتيجتها فعادوا يجرون ذيول السرور والطير والوحش ملء الحقائب
هذا وكان أكبر شيء يسره مجلس أنس يجمع بين روضة فيها مختلف الأزهار والورد حف بها نهر، وهناك بين أصحابه يجلس مغن يطرب السامع ويملك عليه نفسه، ثم تدور المدام في يد ساق جميل فيسكر سكرين من الخمر والجمال الساقي. وقد وصف ذلك المجلس حينما أرسل الى أحد أصحابه يستدعيه إذ قال:
نحن في روضة وزهر ونهر ... ومدام كالشمس من كف بدر
ومغن قد راسلته الشحار ... ير، فأغنت عن جس عود وزمر
أنت روح، ونحن جسم فان غب ... ت فان القلوب تكوى بجمر
إن كفا إليك قد كتبتها ... تتهادى ما بين سكر وشكر
فأنت ترى من كل ما ذكرناه أنه كان يذهب في الحياة مذهب الذين يريدون أن ينالوا منها كل متعة ولذة، يلتمسونها في كل مكان، وترى أن مثله الأعلى في الحياة كان أن يتمتع بها، ولا يضن على نفسه بشيء من مباهجها، وكله ثقة في أن الله سوف يغفر الذنوب جميعاً
( البقية فى العدد القادم )

