صدر هذا الكتاب النفيس الذي يقع في أكثر من أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، منذ شهور قلائل، فملأ من المكتبة العربية فراغاً شاغراً، كان يأسف له كل من يتمنى لهذا الشرق أن يساير الغرب فلا يتخلف من دونه في بعض الطريق. وما ظنك بهذا العلم الذي تبوأ في أوروبا وأمريكا منذ منتصف القرن الماضي مكانة رفيعة بين العلوم، وأصبح منذ ذلك التاريخ حلبة العقول وحومة الأقلام، تتناصر كلها وتتضافر على دراسة النفس الإنسانية، حتى سارت في ذلك شوطاً، إلا تكن قد انتهت به إلى نتيجة حاسمة، فهي على كل حال سائرة في الدرب السوي سيراً مطرداً حثيثاً. نعم، كان علم النفس طوال القرن الماضي شغل الساعة في عالم الغرب، أما نحن فقد لبثت أقلامنا بإزائه صامتة، لا تكاد تمس الموضوع إلا مسا رفيقا، إذا استثنينا كتابا أو كتابين؛ وكأنما أحس الأستاذان المؤلفان بهذا النقص المعيب، بل هو أجدر أن يسمى فقراً وإجداباً، فشاءت لهما همة عالية، أن يتداركا الأمر بعزم حديد وكفاية ممتازة، فأخذا منذ عام أو نحوه يخرجان للناس بحوثاً مستفيضة في كتب تترى، هذا ثالث أجزائها، وفي فصول متلاحقة أخذت تغمر الصحف، حتى كان لنا في علم النفس بفضلهما محصول ذو غناء بوفرته ومتاعه، وأي شيء أحب إلى النفس وأمتع من أن تطالع نفسها مشروحة مفصلة، في تحليل عميق سهل مستساغ، لا تشوبه خشونة العلم وغلظته؟ فقد وفق الأستاذان الفاضلان فيما يكتبان إلى (السهولة في الأسلوب، والوضوح في العبارة، مع الدقة في التعبير، والبحث وراء الحقيقة، حباً في الوصول إلى الحقيقة لذاتها، حتى يسهل الصعب، ويتضح الغامض، ويقرب إلى الأذهان ما بعد عنها، من تلك الموضوعات التي لم تخدم بالعربية الخدمة اللائقة بها) . وأما فصول هذا الكتاب القيم فهي:
الفكر، الحكم، الاستنباط، التعليل، التفكير الراقي، الوجدان، الانفعالات، العواطف، الأمزجة، الأذواق، الشخصية. . . . . وقد وضعا بجانب الاصطلاحات العلمية ما يقابلها باللغة الأجنبية تجنباً للخلط، ومنعاً للخطأ في التفكير
وما دمنا بصدد ترجمة الألفاظ , فقد بحب ان تعترض اعتراضا نعترف أنه تافه يسير بالقياس إلى هذا المؤلف الجليل : فقد ترجم الكاتب كلمة Conception بلفظة ( التعقل ) فى الصفحة الخامسة من الكتاب , ثم عاد فى الصفحة الثالثة عشرة فأطلق لفظة التعقل هذه , تعريبا لكلمة Ideation ومهما يكن بين اللفظتين من قرب وشبه , فقد كنا نؤثر أن تنقل الكلمتان الانجليزيتان المختلفتان الى كلمتين عربيتين مختلفتين , وليس ذلك بعزيزعلى الأستاذين المؤلفين . وهناك ملاحظة أخرى أخذتها العين أخذا أثناء التصفح السريع , فقد أراد الكاتب أن يورد تعليل الوجدان (ص١٤٦) فقال ": التعليل الجنائى - ومعناه إن الوجدان راجع إلى تغيرات مادية خاصة تحدث فى الجسم , فينشأ عها الشعور بالسرور أو الألم . وقد أجريت تجارب لاثبات ذلك . فوجد مثلا أن القلب يبطىء فى دقاته , وان التنفس يسرع عند السرور . أما عند الألم فقد شوهد العكس , أى ان القلب يسرع فى ضرباته , وأن حركات التنفس تكون بطيئة ".. وعندنا ان هذا متناقض أولة مع آخره ، أو على الأقل كتب بعبارة يفهم منها القارئ هذا التناقض , لأنه يريد أن يثبت أن علة الوجدان جثمانية , أى أن الحركة الجسمانية تكون أولا , ويكون السرور أو الالم ثانيا , ولكن قوله إنه قد أجريت تجارب فوجد أن الجسم يحدث به كذا وكذا عند السرور , قد يفهم منه ان السرور ينشأ فتنشأ تبعا له حالة معينة بالجسم ، وهو عكس ما أريد إثباته
ولا يsعنى فى ختام هذه الكلمة القصيرة , وقد كان المقام يستدعى الامهاب , إلا ان أسجل رغبة احستها عند تصفحى الكتاب , وتلك أننى وددت لو خرج هذا السفر الجليل الممتع المفيد , اجمل انسجاما من حيث الطبع , وبخاصة في مواضع العنوانات وحجومها
وإني لانتهز هذه الفرصة لآهنئ المؤلفين الفاضلين على هذا التوفيق , وأهنئ قراءالعربية أن كان لهم هذان المؤلفان الفاضلان

