الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 699الرجوع إلى "الثقافة"

في النقد الأدبي :, تطور المعانى الأدبية

Share

إذ قلنا المعاني الأدبية فإن هذا يقتضي بالتالي أن تكون هناك معان غير أدبية . ولكي نفصل منذ اللحظة الأولى بين المعنى الأدبى وغير الأدبي تذكر أن الأدب تفسير وجداني للظاهرات الحيوية . وفي قولنا " وجداني " الفصل الأول والأخير بين الأدب وغير الأدب . والمعني الأدبي - على هذا الأساس - هو المعنى الواجدانى الذي يفسر ظاهرة أو جزئية من جزئيات الحياة في صورة موحية . واقرا ما شئت من أدب فلن تراك معجبا مأخوذا إلا بالصورة الموحية التي تبعث بظلالها وأجوائها وحركاتها وسكناتها وألوانها وأشكالها ولسانها وهمساها أو قل بكل عناصر الصورة الكاملة - أقول : تبعث في نفسك بكل هذه العناصر ذلك المعنى الوجداني الذي انتفض في نفس الشاعر الحساسة إزاء ظاهرة أو جزئية من جزئيات الحياة .

ولك أن تسأل : هل تعنى بالمعنى الوجداني المعنى الذي يترجم عن العاطفة ؟ وإذا كان ذلك كذلك فماذا تقول في شعر قالوا فيه إن العقل هو الذي ولد اكثر معانيه عند شاعر كأبي تمام مثلا . . ؟ وان أتركك تتمادي في السؤال إلى أبعد من هذا ، لأن هذه التفرقة القديمة بين أبي تمام

والبحتري تحتاج إلى إعادة النظر ، وكذلك التفرقة الحديثة المعاصرة بين العقل والعاطفة - وخاصة في الأعمال الإبداعية - عند بعض النقاد الذين يظنون أنهم يسدون إلى الأدب خدمة جليلة حين يقصون عنه عنصر العقل - كل ذلك لا نصيب له من الصحة ، لبديهية بسيطة هي أنك لا تستطيع أن تعطل عصرا حيا من عناصر وجودك لحظة من اللحظات فضلا عن تعطل عملك أو عاطفتك ؛ فأنت تعمل بكل وجودك ، والمتأثر فيك وجودك كله . إن الوردة الحمراء لكفيلة أن تهز كيانك من فرعك إلى قدمك ؟ تهز فيك جانب الفكر ، وتهز فيك جانب الشعور ، وتثير فيك برائحتها ولونها ألوان الغرائز والذكريات . . وهكذا لا تترك فيك موضعا قابلا للتأثر إلا حركته . وعلى ذلك فليس هناك معنى هو عقلى صرف أو عاطفى بحت ، وأحسن من هذا وذاك هو أن نقول - كما قلنا - إن هناك معنى وجدانيا بما لكلمة الوجدان من مدلول يشمل الكائن الحي كله .

والصورة الوجدانية التي يبدعها الفنان هى الصدى المترجم أو الرمز المعبر عن شعور ناضج كامل . وإذا كان

الأفراد في كل زمان ومكان لا يشبه الواحد منهم الآخر شيئا مطابقا ، وإن كانا توامين - كما أثبته الدراسات الفسيولوجية والسيكلوجية الحديثة - فإن المعنى الوجداني حري أن يأخذ صورة عند شاعر غيرها عند شاعر آخر . قد يحدث نوع من الاتفاق أحيانا ، ولكنه - عند التدقيق - يظهر أنه اتفاق جزئي . على أن هذا الاتفاق لا يقع عادة إلا عندما تكون الظاهرة التي تعرض لها الشاعران واحدة ، كظاهرة غروب الشمس في الأشياء المحسوسة وظاهرة الشجاعة مثلا في الأشياء العضوية . فإذا نساءنا عن علة اختلاف الصور الأدبية التي أريد بها التعبير عن ظاهرة واحدة عند شعراء مختلفين ، أمكننا أن نرد ذلك إلى أمرين : أولها ورائي وتكويني ، والآخر زماني مكاني . فالوراثة والتكوين تفردان شخصا عن آخر ؟ فيكون هناك احتمال كبير للاختلاف في صورهما الأدبية إزاء ظاهرة واحدة مجرد الاختلاف ؛ والزمان والمكان ينتقلان بالفرد من طور إلى طور ، فيكون هناك بالتالي احتمال كبير في تطور المعنى الأدبي تبعا لذلك عند شاعرين : أحدها في زمان ومكان ، والآخر في زمان ومكان . وإذا فأنت واحد بين النابغة وأبي تمام اختلافا بالضرورة ؟ فالمعنى الواحد لن يأخذ عندهما صورة واحدة ، وأكثر من ذلك فإنك تستطيع أن تحس نوعا من التطور في الصورة التي يقدمها لك أبو تمام .

وقد نعود الآن لنسأل : هل يعني هذا أن الصورة الأدبية التي يقدمها لي أبو تمام مثلا متفقا في معناها مع النابغة تكون - نظرا لأن أبا تمام جاء بعد النابغة وصورته بالضرورة متطورة عن صورة النابغة - تكون أجمل وأحلى . . وأنا لم أتفق معك بعد على هذا الحسن وتلك الطلاوة أو كما قلت الجمال والحلاوة ، فقد لا يعني ذلك شيئا

وقد يعني أشياء ليست من الوضوح في نفسك بالقدر الكافي ، فضلا عن أن هذه الأشياء بدورها قد تكون مثار خلاف بيني وبينك إذا اتضحت لنا . وليس عندي هنا ما أقوله إلا أن موقف من متلقي الفن ومتذوقه هو نفس موقفي من الفنان نفسه . فكل ما قيل من اختلاف في التكوين والوراثة وفي الزمان والمكان ، يستثنهما اختلاف جوهري بين الأفراد في استعدادهم الفكري والنفسي

والجسمى ، وفي تلقي الأشياء وفهم الحياة في جميع مظاهرها بوجه عام ، كل ذلك يمكن أن يراعي عند الكلام على أسباب تفضيلك صورة على صورة ، كما روحي عند اختلاف الصورة عند الشامي عنها عند الآخر سواء بسواء . فالصورة التى بصورها النابغة قد تعجب المتنبى حين لا نسبه الصورة التي يصورها أبو تمام . ومعروف أن أبا تمام بعد النابغة ، وأن المتنبي جاء بعد الاثنين . وقد تعجبني الآن صورة أبي تمام وأفضلها على صورة النابغة ، فأختلف في ذلك مع المتنبي وهذا هو الطبيعي ، لأني غير المتنبي كلية أولا . ولأني أعيش في زمان ومكان لم يشهدهما المتنبى ، فإذا كنت أنا والمتنبى نتفق في أمر واحد وهو أننا وجدنا في زمن لاحق لأبي تمام والنابغة . فليس معني هذا أننا سنتفق بالضرورة على تفضيل صورة أبي تمام والإعجاب بها علي صورة النابغة ؛ فقد أعجبت بأبي تمام ، حين أعجب المتنبي بالصورة القديمة ، صورة النابغة .

ومن هذا يتضح لنا أن تطور الصور الأدبية من شاعر قديم إلي شاعري محدث لا يعني مطلقا أنها تتطور إلي ما هو خليق بأن يجمع حولها رأي أكبر عدد يمكن من المتذوقين بحيث يتفقون جميعا على تفضيلها ، وإنما المقصود بالتطور في الواقع هو دخول عناصر جديدة على الصورة القديمة

ولا شك ان هذه العناصر الجديدة ستعمل عملها ، فقد تزيد المعنى وضوحا بتوسيع نطاقه أو بتضييقة ، وقد تزيده تعقيدا وابهاما بخلق جو من التناقض والتنافر بين الأجزاء ، وقد تزيده فسولة بأن تخرجه من طبيعة الرمز الأدبى إلى الوضوح السافر فتفقد الصورة عنصر الإيحاء الذي هو من اهم مقومات العمل الفنى وهكذا يظهر لنا أن هذه العناصر الجديدة التى يدخلها الشاعر الحديث على الصورة القديمة للشاعر القديم لا ترتفع بالصورة الحديثة درجة من درجات الجودة ، أو إن شئت لا تتقدم بها دائما خطوة في سبيل الوصول بها إلى المرحلة التى ينطبق فيها عليها التعريف الصحيح للأدب من ناحية ، أو في سبيل الوصول بها إلى المرحلة التى يتفق فيها الجميع على الإعجاب بها وتفضيلها على سابقتها من ناحية اخري ، وإنما هي أحيانا نصل بها إلي هذه المرحلة وأحيانا لقصر دونها إن لم تقصر دون الوقوف بالصورة القديمة في مكانها .

ولعل هذا قد ألقى لنا ضوءا جديدا في سبيل تفسيرنا لعدم الاتفاق التام على تفضيل صورة أدبية على اخري تتفق معها فى المعنى ، وعدم الاتفاق التام وانما على تفضيل الصورة المتأخرة على الصورة المتقدمة . فكان السبب دائما يرجع إلى الأفراد أنفسهم من ناحية ، وإلى عمل العناصر الجديدة التى دخلت على الصورة بعامل التطور من ناحية اخرى .

وفي الأدب العربي ظاهرة تزيد لنا المسألة وضوحا هى ظاهرة المعارضة في الشعر بخاصة . فكثير من الشعراء يغرمون لا بالمعاني المفردة لمن سبقهم من الشعراء ، بل يمتد إعجابهم إلى القصيدة الكاملة ، فينسجون على منوالها - كما يعبرون أحيانا أو قل إنهم يشعرون إزاءها بمشاعر وتثير في نفوسهم أشياء - لا دخل لنا بها الآن - تجعلهم يعيدون تصوير تلك المعاني التي طالعتهم في القصيدة تصويرا جديدا أو قل تصويرا آخر . فالوقوف أمام المعاني القديمة هنا مسلم لا جدال فيه ، وكل عمل الشاعر المحدث ، أو المعارض ، هو التصوير الجديد ، ولك أن تراجع الآن بعض قصائد المعارضة ، وهي كثيرة في الشعر العربي ، لنسأل نفسك : هل كانت صور الشاعر المتأخر دائما أجود - بالمعنى الذي ذكرناه للجودة - من صور الشاعر المتقدم ، وعندئذ ستظهر لك الحقيقة التي أسلفنا ، وهى أنه أحيانا تتقدم الصورة المتطورة نحو الجودة وأحيانا تتأخر ، وعند ما تبحث عن سبب تقدمها وتأخرها ففي كل من الحالين ستجد أن ذلك راجع إليك وإلى الشاعرين من جهة ، وإلى العمل الذي أدنى العناصر الجديدة التي دخلت القصيدة المتأخرة بعامل التطور من جهة أخرى .

وطبيعبي أن الأفراد أنفسهم يتطورون ، وإذا بنا نجد مشكلة تطور المعاني تصبح مشكلة عند الشاعر الواحد . فتراه يتناول المعنى الواحد في أكثر من مناسبة ويعرضه في اكثر من صورة ، وتجدنا حين نعرض للصورتين نفضل واحدة على الأخرى . فإذا كان الشاعر الواحد يعرض لنا أكثر من صورة للمعنى الواحد فتستجيد بعضها ونفضله على بعض ، فإن سبب التفضيل هنا يرجع إلى الأسباب السالفة بطبيعة الحال ، مع إضافة عنصر جديد هو أن الشاعر هنا يعجب بنفسه لا بغيره ، وهو بهذا يحاول أن يكرر نفسه .

وأيضا فإنه كلما كرر نفسه كان هناك مجال كبير لاحتمال الإتيان المعنى بصور أجرد من الصورة الأولى أو أقل جودة . ومن المعروف أن شوقي حين قال بيته :

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

راح يكرر نفسه في أكثر من مناسبة ، فكان في كل مرة تالية أكثر منه فشلا في المرة السابقة عليها . فالشاعر الواحد ليس من الحتم أن تتطور المعاني عنده إلى ما يقال عنه أجود ، وإن كانت على كل حال تتطور .

وإذا ذكرنا تطور المعاني وتكلمنا عن تطور الصور فلأننا لا نستطيع أيضا فصل الصورة عن معناها ، وها هى ذي بعض النماذج من الشعر أضعها بين يدى القارئ حين آن الأوان ليشهد منها ما يجد فيه صورة لما سقناه من أفكار . قال علامة بن عربي :

وكنتم قديما في الحروب وغيرها

ميامين في الأدنى لأعدائكم نكد

فقال لبيد :

محقر مر على أعدانه وعلى الأدنين حاو كالعمل

وقد تدوول هذا المعني كثيرا فقال المسبب بن علمى :

هم الربيع على من ضاف أرحلهم وفي العدو مناكيد مشائيم

وقال كعب بن الأجذم :

بنو رافع قوم مشائم للعدا ميامين الفولى والمتحرم

وقال أبو دواد :

فهم للفلايتين أناة وغرام إذا يراد غرام

ولعلك حتى الآن لا تستطيع أن تفضل واحدا منهم نهائيا وإن كان السبب قد وفق في صورة الربيع التي أبرزها أما الصورة الأخرى التى أبرزها لبيد وهى صورة العمل قليل لن استسيغها . وما يلي بعد ذلك لا يكاد يحرك فيك شيئا ، حتى إذا جاء بشار فقال :

يلين حينا وحينا فيه شدته

كالدهر يخلط إيسارا بإعسار

وحتى يقول أبو نواس بعده

حذر امرئ نصرت بداء على العدا

كالدهر فيه شراسة وليان

نجد الصورة قد اعتمدت على عنصر جديد هو الدهر فحاءت بإيحاء آخر غير الربيع وغير العمل ، وربما كان هذا العنصر الجديد " الدهر قد وسع المعني بحيث جعلك تشترك فيه ، إذ كان الدهر اكثر حيوية بالنسبة لكل حي من الغرام والعمل ، وربما كان أكثر هولا من الربيع . ثم يأتي أبو الشيص فإذا به ينقل الصورة من الدهر إلى السيف فيحددها بعد أن اتسع نطاقها فيقول :

وكالسيف إن لاينته لان متنه

وحداء إن خاشفته خشنان

فأبو الشيص يستغنى عن رمز برمز ويستبدل بالسيف الدهر ، ولكن صورته مع تحددها لا تقل طرافة عن سابقتها . حتى إذا جاء أبو الطيب المتنبي إذا به يقول :

أنت طورا أمر من نافع السم وطورا أحلى من السلسال

فتراه قد عاد إلى صورة لبيد " المرارة والحلاوة " وإن كان قد استغنى عن " الأعداء والأدنين " في صورة لبيد ، ولكن هذا المعنى لم يقف عند المتنبي على هذه الصورة ، بل ظهر في صورة أخرى :

متفرق الطممين مجتمع القوى  فكأنه السراء والضراء

وكأنه ما لا نشاء عداته متمثلا لوفوده ما شاءوا

فيكتسب المعنى هنا أو الصورة نوعا من العمومية ، لأن الحياة إما سراء وإما ضراء ، وممدوح المتنبي قد جمع بين السراء والضراء ، وكل ما يخطر ببال أعدائه فهو شئ آخر غيره ، وأما شئ اراده الوافدون عليه وجدوه مائلا عنده ، متمثلا فيه .

هذا المعنى الذي تدوول على مر الأيام بين الشعراء ، قد اتخذ صورا عدة من التعبير عندهم ، أقل ما يقال فيها أنها مختلفة نوعا من الاختلاف ، وأن هذا الاختلاف كان له اثره في تحديد المعنى أو تصميمه ، وأيضا فإن بعض هذه الصور كان أطرف من غيره .

وهذا مثال آخر لمعنى من المعاني التي تناولها الشعراء وتداولوها . قال الطرماح بن حكيم :

لقد زادني حبا لنفسي أنني

بغيض إلي كل امرئ غير طائل

وأنى شقي باللئام ولن ترى

شقيا بهم إلا كريم الشمائل

ننظر فإذا بدعبل الخزاعي يثقل هذا المعنى في بيتين آخرين فيقول :

تلك المساعي إذا ما أخرت رجلا

أحب للناس عيبا كالذي عابه

كذلك ، من كان هدم المجد غايته

فإنه لبناة المسجد سبابه

فنجد الطرماح قد تناول المعنى من زاويته الشخصية ؛ فإن بغض القاعدين المقصرين عن شاوء له قد زاده حبا لنفسه واعتزازا بها ، ولكنه شتى بهؤلاء اللئام ، ولا غرو ، فكل كرام الشمائل لا بد أن يشقوا بهم .

أما دعبل فيتناول المعنى من زاوية أخرى هي زاوية الأشخاص الآخرين ، فينتزع من المجتمع - أى مجتمع - صورة لهذا المعنى . فالشخص الذي يتأخر به سعيه عن أن يدرك الغاية لنقص فيه وعيب يعبه ، فإنه يتمني أن يصيب الناس عيب مثل عيبه يقعد بهم أيضا عن بلوغ الغاية . وأيضا فإنه لا سبيل لمن كانت غايته هدم المجد إلا أن يتناول بناه بالسباب ليحط من أقدارهم . ولا يظهر امتيازهم عليه . وعلى العموم فقد انتزع دعبل لمعناه صورة من نفسية المجتمع وليست مختص بمجتمع دون آخر .

فالاختلاف الذي حدث بين الطرماح ودعبل أن الأول كان ذاتيا في إبرازه لمعنى وكان الثاني موضوعيا . وقد تبع هذا اختلاف آخر هو أن المعنى عند الطرماح كان محدودا . أو - بلفظ أرقي - عددا ، فيه شخصية الطرماح واللئام الذين كانوا يبغضونه ، بينما اتسع المعنى عند دعبل نوعا من الاتساع ، لأنه امتد إلى تصوير جانب من جوانب نفسية الأشخاص في كل مجتمع .

حتى إذا جاء أبو تمام إذا به في أوجز عبارة يعطي لهذا المعنى أوسع وأعم نطاق من الدلالة حين يقول . ) وذو النقص في الدنيا بذي الفضل موقع ( ، وقد قال " في الدنيا " ولم نشأ أن عدد لنا زمانا بعينه أو مكانا بعينه ، بل أطلق القاعدة إطلاقا فيه كثير من التصميم إن لم يكن كل التعميم . وأظن الفروق واضحة بين المعنى كما أورده أبو تمام وكما ورد عند دعبل والطرماح .

والحق أن دعبلا وأبا تمام قد استغنيا عن الجانب

الشخصي ، وتجربتهما الخاصة ، واهتما بالمعني كما يشاهدان أو يدركان وقوعه في الحياة بصفة عامة ، في الوقت الذي جمع الطرماح في إخراج هذا المعنى بين تجربته الشخصية وملاحظه للخارج . وقد اتضح هذا الجمع عند مروان بن أبي حفصة ، قال :

ما ضرني حسد اللئام ولم يزل

ذو الفضل يحسده ذوو التقصير

أما أبو الطيب فقد أخرج من هذا المعني صورة جزئية من صوره العديدة ، أوردها في عبارة وجيزة حين قال : ) والحر ممتحن بأولاد الزنى ( . فالحر - في هذه الصورة الجزئية بمثل ذا الفضل في الصورة العامة عند أبي تمام ، وأولاد الزنى في هذه الصورة يمثلون ذوي النقص في تلك . والحق أننا لا نستطيع أن ندعي أن الصورة العامة عند أبي تمام أفضل من الصورة الجزئية التي أوردها المتنبى. بل ربما ذهبنا إلى العكس - بناء على نظرتنا التي أسلفنا

الى المعنى أو الصورة الأدبية بأنها كما كانت أكثر حيوية كانت أقرب إلى نفوسنا . فالتقابل بين الفضل والنقص لا يتمتع بالحيوية ، ولا يثير في النفس ما يثيره التقابل بين الحر وأبناء الزنى .

وإذا نحن تتبعنا المتنبي وجدنا هذا المعنى قد تبلور عنده أخيرا ، فجمع فيه عنصري الذاتية والوضوعية وإن لم يوفر له العناصر الحية الموحية في بيته الذائع :

وإذا اتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي يأتي كامل

وأخيرا ، فيستطيع الباحث أن يقف على كثير من المعاني الأدبية ويتتبع مراحل تطورها ، وعدد العناصر التي أحدثت لونا من التجديد في الصور التي اتخذها للمعنى عن الشعراء . وربما كان أفضل من تتبع هذه المعاني الجزئية أن تتبع للمعاني الأدبية الكبرى ، فهي بلاشك أكثر طرافة ، وميدان البحث فيها أكثر خصوبة .

اشترك في نشرتنا البريدية