بهذا العنوان قرأت في عدد الاثنين ١٢ مايو سنة ١٩٥٢ من هذه المجلة مقالا ممتعا للانسة منيرة حلمي تناولت فيه موضوعات تمس صميم التعليم والتربية عندنا ، أهمها في نظري اثنان : الأول مناقشتها لضرورة إلمام المدرس (سواءا كان يعمل في المدارس الابتدائية والثانوية أو في الجامعات والمدارس العليا ) بأصول التربية وعلم النفس ، والثاني مناقشتها لضرورة اتصال المدرس أو الأستاذ بتلاميذه أو طلابه اتصالا روحيا وثيقا لا يقتصر على قاعات الدرس أو صالات المحاضرات وإنما يتعداها إلى خارجها ، سواء في الملاعب أو في الاجتماعات العامة أو في دراسة الشئون الاجتماعية ، وبالجملة في كل ما يتصل بالحياة العامة للطالب ، وبكافة تصرفاته وسلوكه فيها .
ومن الغريب أن هذه الموضوعات على الرغم من أهميتها وأثرها في تكوين الشباب وطابع الجيل الجديدة ، فإن الكتاب لا يطرقونها إلا في القليل النادر . لذلك حمدت للآنسة شجاعتها وحسن اختيارها ، وآثرت أن أعقب على ما قرأته لها بإضافة ما يعن لي في هذا الصدد من ملاحظات :
ففيما يتعلق بالموضوع الأول ، وهو ضرورة إلمام المدرس بوجه عام بأسس علم التربية وعلم النفس يدهشني أن بعض
رجال الفكر وقادة الرأي لا يؤمنون بضرورة تسلح المدرس بهذين العلمين ، ويعتقدون أن موهبة القدرة على التدريس تولد مع الشخص, فهو إما أن يكون صالحا لهذه المهمة بطبيعته أو غير صالح لها ، وليس في مقدور أساتذة التربية وعلم النفس أن يخلقوا من الأخير مدرسا مهما حاولوا وبذلوا من جهد .
نعم إن بعض الناس لا يصلح للتدريس ، ومن الظلم له وللناشئين أن يحترف هذه المهنة ، ولكن معظم هؤلاء الناس يستطيع أساتذة التربية وعلم النفس أن يعرفوهم حين يتقدمون للالتحاق بمعاهد التربية أو مدارس المعلمين ويحولوا بينهم وبين الانخراط في سلك هذه الوظيفة ، ولكن الشخص العادي يستفيد فائدة كبرى من توجيهات أساتذة التربية وعلم النفس ، ومن دراسته لهاتين المادتين . بل لعلنا لا نغالي إذا قلنا إنه يستحيل علي أي شخص أن يكون أستاذا بمعنى الكلمة إن لم يدرسهما .
فأسلوب المدرس في تعليم الطالب وفي تهذيبه وتربيته يتوقف على دراسته لعقليته ، وكيف يستطيع دراسة هذه العقلية من لم يتلق شيئا من علم النفس ومن تطبيقاته العملية الكثيرة .
ومن الغريب أن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالتربية وعلم النفس لا يتحرجون من وضع أبنائهم وأبناء الأمة في يد من لا يعرف من هذين العلمين شيئا ! مع أن هؤلاء بالذات حين يمرض لهم طفل أو ولد أو شاب يحرصون على أن يعرضوه على أكثر الأطباء إلماما بعلم الطب وخبرة فيه واطلاعا على الجديد من نتائج البحوث فيه ، وذلك ليضمنوا أحسن العلاج لمريضهم ؛ أما إذا كان هذا الطفل أو الولد أو الشاب يشكو من ضعف في المسائل العقلية أو النفسية فلا مانع عندهم من أن يعهدوا بعلاجه إلى من لا يدري شيئا عن القواعد التي يسير عليها العقل وعن الوسائل الصحيحة التي تعالج ضعفه وتنمية وتزيد ملكة الفهم والاستنتاج قوة عنده .
كذلك كيف يستطيع مدرس جاهل علم النفس أن يفيد تلميذه أو طالبه ويعاونه على حل مشاكله النفسية وعلى معالجة ما يكون قد تولد عنده من عقدة ربما نتج عنها أسوأ الأثر في هذا الطالب ، بل لعلها تكون سببا في انهيار عقليته وتحطيم مستقبله إذا لم تتناولها يد حكيمة لمدرس ضليع في علم النفس خبير بعلاج تلاميذه .
وإني اعتقد اعتقادا جازما أننا إذا عنينا بتسليح المدرسين عندنا في مرحلة إعدادهم بأصول التربية وعلم النفس على أحدث صورة ، وبأسلوب عملي في دراسة تطبيقية متعمقة ، ثم وضعناهم بعد تخرجهم تحت إشراف ناظر أو مدرس أول له خبرة جيدة في هذه الناحية ومقدرة على نقلها على من يشرف عليه - أقول لو سلحناهم بهذا السلاح في معاهد إعدادهم وفي المرحلة الأولى من عملهم كمدرسين وهي مرحلة اكتساب الخبرة والمران ، لو فعلنا ذلك لوفرنا كثيرا من وقت التدريس ، ووفرنا كثيرا من وقت التحصيل والمذاكرة ، ووفرنا كثيرا من وقت التلاميذ بوجه عام ، ولضمنا لهم نشأة عقلية متزنة ومتمكنة وممتلئة اطمئنانا وثقة . هذا إلى أننا نكون قد انقذنا من الضياع عددا كبيرا من الطلاب يذهب في الوقت الحاضر ضحية المدرسين الذين لا يفقهون شيئا في التربية وعلم النفس .
هذه ملاحظاتي العابرة عن الموضوع الأول
أما الثاني وهو ضرورة اتصال الأساتذة بطلابهم في غير
أوقات الدروس فهو في نظري عماد التربية إذا أريد أن يكون للمدرس أو الأستاذ أثر في تكوين شخصية تلاميذه أو طلابه ، وتربية أخلاقهم ، وتهذيب نفوسهم ، ومعاونتهم على حل مشاكلهم . وإذا لم يتوافر هذا الاتصال فالأجدر بنا أن نستغني عن المدرس ونترك الطالب ليقرأ الكتب بنفسه ويعد نفسه للامتحان ، أو نستيعض عن المدرس بأسطوانات يستمع لها الطلاب ، أو بشرائط سنمائية ناطقة تعرض عليهم . ولعل هذه الوسائل تكون أجدى في توصيل المعلومات ، لأن الأسطوانة ستكون لمدرس قدير مشهود له بالكفائة . كما أن الشريط السنمائي سيقوم بإخراجه فطاحل الأسانذة فيأتي في الغالب مشوقا ممتعا .
فالأصل إذا في الأستاذ أن يؤثر تأثيرا روحيا في تلاميذه ، ولا نزاع في أنه لو تم هذا الاتصال الشخصي بين الأستاذ وطلبته لكان شبابنا اليوم على حال غير حالهم ولامتلأت أوقات فراغهم بأحسن مما يشغلون به أنفسهم فيها في الوقت الحاضر .
والآن سأضرب هنا مثلا واحدا لبيان أثر هذا الاتصال وذلك فيما يتعلق بآراء الطالب الجامعي في الأمور السياسية وبالطريقة التى تتكون بها عقيدته السياسية التي هي حق من حقوق كل فرد من أفراد الأمة .
لو أن الأساتذة اعتادوا عقد اجتماعات تحت إشرافهم خارج أوقات الدراسة لتناقش فيها المسائل السياسية بهدوء وحرية وبمنتهي التسامح ، حيث يعتاد الطالب أن يقدر رأي زميله ويحترمه ، ويدرك أن تبادل الرأي واختلاف الآراء أمر طبيعي لا يصح أن تنتج عنه مشادة أو أن يكون له أى أثر سئ في علاقات المودة الصافية القائمة بين الطلبة بصفتهم أفرادا في مجتمع حي ، لو أن الأساتذة عقدوا مع الطلبة حلقات للبحث تتناقش فيها الأمور مناقشة عائلية هادئة منظمة ، وأوضحوا لهم من أول الأمر أن القصد منها هو تنوير آرائهم فيها يتعلق بالأمور السياسية ، ومساعدة كل منهم على فهم المسائل على حقيقتها في جو تسوده الحرية والمودة والصفاء ، وذلك تمهيدا لأن يكوّن كل منهم في المستقبل رأيه النهائي في الاتجاه السياسي الذي يصح أن يتجه إليه حين يخرج من الجامعة ويصير رجلا وعضوا عاملا في المجتمع ومواطنا
يطلب إليه مزاولة حقوقه السياسية بأستنارة وفهم وعن عقيدة واقتناع .
لو حدث هذا بتلك الروح لتفادينا ما يحدث بين طلبة الجامعة من مشادات وخلافات عنيفة ، بل ومنازعات ومصادمات ، ولصار كل ما يحدث هو مناقشة وجدال قد يحتدم في بعض الأحيان ، ولكنه لا يتعدى الكلام والتفكير ولا ينفذ إلى صميم العواطف فيعكر صفو العلاقات بين الإخوان كما يحدث الآن .
أليس هذا المثل وحده دليلا على الخير العظيم الذي تظفر به البلاد إذا أدى كل مدرس وأستاذ الضريبة الوطنية المفروضة عليه من الاتصال بتلاميذه وطلابه بقصد خلق جيل جديد على خلق قويم وشخصية قوية ورأي ناضج . ألا إن مستقبل الوطن يتوقف إلى حد كبير على قيام الأساتذة بهذا الواجب المقدس . هداهم الله له ونفع بهم طلابهم ، حتى يفروا من الشرور الفظيعة التى يستهدفون لها في الوقت الحاضر .
