قال صاحبى: هذا مسجد النبى دانيال, فولجنا إلى الفناء فاذا جماعة من السؤال جالسين إلى الجدار كأنهم موتى أعوزتهم القبور, قال صاحبى: وهذا البناء مقبرة. فملنا ذات اليمين إلى رجل واقف بباب البناء عرفنا من موقفه وأوامره أنه قيم المقبرة
- السلام عليكم - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته, هل من حاجة؟ - يا سيدي: شاعر من شعراء الترك ووزير من وزرائهم قدم إلى مصر أيام محمد على باشا ومات بهذه المدينة ودفن بجوار النبى دانيال. فهل تعرف عن قبره خبرا؟
- أكان وزيرا فى مصر؟ - كلا, ولكنه مر بمصر حاجا ثم عاد إليها بعد الحج فمات بالإسكندرية - هذه مقبرة لأسرة الأمير عمر, يا محمد! اذهب معهما إلى المقبرة القديمة, أليست مفتوحة؟ - لا يا سيدي ولكن فتحها يسير. فهناك ابراهيم
سرنا وراء الرجل يسلك بنا مضايق فى فناء المسجد حتى انتهى إلى زقاق ضيق يفضي إلى باب مرتفع, فنادى إبراهيم وكلمه فجاء يحمل المفتاح, وتقدم نحو الباب ففتحه ثم ألقى خشبة ضخمة على كوم من الحطب أمام الباب فارتقى عليها ودخل فاتبعناه:
سور قصير يحيط بعرصة واسعة فيها ارتفاع وانخفاض وأكوام من التراب وأكداس صغيرة من الأحجار, يبدو بداخلها قبران إلى اليمين عليهما نصبان من الرخام, وإذا أنعم النظر تبين قبرين دارسين او ثلاثة فى أرجاء أخرى
قال إبراهيم: ليس هنا الا القبران اللذان ترى, فتأملت كتابة تركية فقرأت ما فى سطور الفناء من عظات وتواريخ وأسماء, فإذا اسمان آخران ودفينان مضى عليهما زهاء ثمانين عاما. فجلت فى أرجاء المقبرة فرأيت قبرا عليه نصب واقع يتضمن اسما آخر, ثم مررت بقبر لا نصب عليه, وبنصب لا قبر له: بطشت يد الزمان العسراء, ببقايا الفناء!
تتخلف الآثار عن أصحابها حينا ويدركها الفناء فتتبع
لبثت حينا أسائل القبور والأحجار فلم تحر عن الشاعر جوابا. فرجعت إلى إبراهيم فقال: كانت هذه الأرض كلها قبور فذهب بها الحفر, قلت أي حفر؟ قال: قلبوا الأرض يفتشون عن قبر الاسكندر. وقد أخرجوا ما ضمنته الأرض من أحجار وعظام إلى عشرين مترا فلم يظفروا بشىء. قلت انها لتعزية: إن فقدنا قبر شاعرنا فقد ضل فى ثنايا الأرض وظلمات التاريخ قبر الملك العظيم الفاتح الاسكندر بن فليب, انها لتعزية!
رجعنا إلى صاحبنا الذى أشار بالذهاب إلى المقبرة القديمة فقال: - هل عثرتم على القبر المنشود؟ - لا. رأينا قبورا قليلة, وقرأنا ما وجدنا من أنصاب فلم نجد قبر عاكف باشا - هنا مقبرة سعيد باشا. أيمكن أن يكون مدفونا هنالك؟ - ليس بعيدا فقد حدث التاريخ أن محمد على باشا أحسن وفادته وبالغ فى الحفاوة به. فليس بدعا أن يكون قد أمر بدفنه بين قبور الأمراء.
- يافلان (قيم مقبرة سعيد باشا) وكان بجانبه, أدخل بهما لعلهما يجدان القبر, فأحسبني رأيت هذا الاسم على بعض القبور - عندى أوراق فيها أسماء القبور كلها فتفضلا معى.
ودخل إلى بهو به مكتب, فأخرج ورقتين فيهما أسماء معظمة لأمراء وأميرات, أسماء كانت عناوين حياة حافلة بالعظمة والرفاهية, مليئة بخطوب الزمان, ونوب الأيام, وما هى الآن إلا أسماء قبور. ما وجدت (عاكف باشا) بين الأسماء, فشكرت الرجلين وانصرفت.
قال صاحبى: لم تعثر عليه قلت: أجل, ولكني أعلم أنه فى باطن الأرض, فان يكن لابد لشاعرنا من قبر,! فهب الأرض كلها قبره: يا أخى, انما يخلد الناس بالآثار, لا بهذه الأحجار. وقد صدق جلال الدين الرومى إذ قال:
بعد أزوفات تربت ما درزمين مجوى درسينه هاي مردم عارف مزار ماست : فلا تطلبين فى الأرض قبري فإنما صدور الرجال العارفين مزارى(١)
اسكندرية ٢٣ أغسطس سنة ١٩٣٣
