في أيام عاشوراء كان قد اعتاد أن يجوب الطرق صباحاً منذ مطلع الفجر مناديا بصوته العذب العميق: (عاشورا المبارك. . . حليمة رقت نبينا محمد من العين. . .) وكان يحمل فوق رأسه مقداراً من مساحيق مختلفة الألوان والأصناف. كان الرجل فوق الأربعين، وسيم الطلعة، قوي البنية،؛ وكان أعذب ما فيه الصوت الحنون العميق المؤثر الذي يرسله كل صباح فيمتزج بنسيم الفجر ونور الشمس الباهت الرفيق، فيوقظ النيام أجمل يقظة وألذها. لم تكن هذه حرفته بالطبع، فقد طول العام يبيع الفواكه، إما في محل لقريب له، وإما سائرا هكذا في شوارع القاهرة؛ ولكنه اعتاد منذ أعوام عديدة أن يطوف هذه العشرة الأيام الأولى من العام الهجري وعلى رأسه هذه المساحيق ليرقي بها من يخاف شر العين والحسد.
كان الرجل يؤمن أشد الإيمان بالحسد وشر الحسد، أليس قد ذكره الله تعالى في قرآنه الكريم؟ ألم يأمر الله نبيه الكريم أن يقول (أعوذ برب الفلق. . . ومن شر حاسدٍ إذا حسد) ألم يرو لنا كيف رقت حليمة النبي محمداً من (أعين) الحساد؟ أليس في الحياة اليومية ما يثبت لنا شر هذا الحسد؟ كانت لأخته
طفلة جميلة، وكانت تتركها دائما قذرة الملابس وسخة الوجه لا يكاد يبين منها إلا أحجية وتمائم وتعاويذ، ولكنها لأمر ما نزعت هذه الأحجية يوماً، فإذا بها تمرض، وإذا المرض يشتد بها يوما بعد يوم، ولم يعد بخور ينفع، ولم تعد تمائم تصد إصابة (العين) ، وإذا (العين) أصابت فليس لأصابتها مرد. وبعد أيام جاهدت الطفلة فيها جهادا لا تحتمله تلك الأجسام التي زودت حديثاً بالحياة، فهي حارة قوية بنيانهم؛ بعد أيام توفيت الطفلة الجميلة فتوفيت معها أفراح الأسرة ومباهجها إلى زمن طويل. أبعد هذا لا يعتقد (بالعين) ؟
وفي ثاني يوم هذا العام كان الرجل يسير في الطريق كالمعتاد يرسل صوته الجميل وهو متلذذ بسماعه مرات ومرات بهذا النداء المستحب وتلك النغمة الساذجة البديعة: (عاشورا المبارك. . . حليمة رقت نبينا من العين) ؛ وأطلت من النافذة فتاة في نحو العشرين، جميلة الصورة نجلاء العينين. وكانت عيناها أول ما يبدؤك منها لسوادهما وجمالهما. كانتا عينين تجذبان النظر إليهما جذبا كما يجذب الحديد الحديد بفعل الجاذبية الطبيعية.
رفع الرجل بصره إلى النافذة فإذا بالعينين النجلاوين تنظران إليه في احتجاب غير خاف. فأرسل صوته العذب الجميل بندائه العذب كأنما يعلن إليها عمله. فابتسمت ثم أسرعت وتركت النافذة عاطلة من أجمل ما يمكن أن يزينها.
واستمر الرجل ينادي نداءه، ويكرر ويطيل النداء، ويتقن الغناء، ولكن الفتاة لم تعد؛ وأخيرا قال لنفسه: غدا تراها، أ، ك ستمر لثمانية أيام أخر. صبرا ففي الغد الفرج.
وفي الغد ما كاد يقترب من باب هذا المنزل حتى سمع صوتا يناديه: (يا عم يا بتاع عاشورا!) فالتفت صوب الصوت، فإذا العينان، عينا أمس تنظران إليه من جديد.
جلست الفتاة على حافة السلم، وقالت له في صوت خافت إن سيدتها نائمة، وإنها تخاف أن تصحو فتراها على تلك الحال فتطردها شر طردة. كل ما تريده منه هو أن يرقيها من عين خادم الجيران لأن هذه تغار منها لجمالها، وتنظر إليها نظرات شريرة. ولقد زاد في شر هذه النظرات أن خدم الجيران جميعاً لا يعبأون ولا يقتربون إلا من فتاتنا هذه، فزاد ذلك في نيران الغيرة، ومتى
اشتدت الغيرة، فالحسد وشرور الحسد متوقعة منتظرة.
سمع الرجل هذه الاعترافات الساذجة فوجدها عادية، وأخذ يقوم بعملية الرقية خالطاً بعض المساحيق متمتماً كثيراً، وموصياً وصايا عدة، وكان بوده أن يطيل ويطيل لولا أن نبهته تلك بأن سيدتها قد تصحو، وفي تلك الصحوة عقاب لها أليم.
سار الرجل مبتعداً عن البيت مكرها، يحس في نفسه ألما لا يرى له مبرراً ولا سبباً؛ إنه كان في حلم، كان في سعادة ما بعدها سعادة، كان في سماء ثم هبط إلى الأرض، ثم صحا من الحلم اللذيذ فكانت صحوة أليمة بغيضة.
وأخذ ينادي فإذا صوته كأنما هو صوت إنسان آخر لا عهد له به. تبدل الصوت ولم يعد فيه الجمال الذي كان يلذه ويستمتع به. وعبثا حاول الرجل أن يقنع نفسه بأن هذه خيالات تتراءى له وحده، وعبثا حاول أن يقنع نفسه بأن الناس كلهم لم يشعروا بما طرأ على نفسه من تغير أثر في صوته.
عاد الرجل إلى أهله كئيباً ملولًا برماً بكل شيء، وأمضى ليله والعينان السوداوان النجلاوان تنظران إليه وتطيلان النظر، فيحاول الفرار منهما فلا تلبثان أن تعودا من جديد أقوى تحديقاً وأعمق أثراً في النفس.
وفي الصباح عاد الرجل يجوب الطرقات منادياً كعادته. دار حول البيت المعهود مرة ومرات فلم ير إلا نوافذ مفتوحة كأنها فتحات القبور. لم ير العينين! وأخذ طريقه كالمعتاد، فسار وسار ينادي، ولكن في غير لذة وفي غير نشوة، وإذا به يسمع من بيت قريب: (الله! ما لصوت الرجل تغير؟ يا خسارة! كان صوته جميلاً وحلواً! لا بد أنه مريض!) .
لم يعد مجال للشك. لقد فقد هذا الصوت الذي كان له ذخراً وأي ذخر: أصابته العين ولم يصبه إلا هاتان العينان السوداوان الواسعتان، حُسِد وجازت فيه عين الحسود!
عاد إلى أهله ورقى في نفسه ورقاه أهله، ولكن الرقية ضاعت سدى. ولم يكن من يتقن الرقية إى هو، ولا يمكن أن يقوم بها لنفسه كما يقوم بها لغيره. فالرقية فن له حركاته وأعماله ومراسيمه، واليوم أصابته هو العين، فيا ترى من يرقيه؟

