الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 91الرجوع إلى "الرسالة"

قصة المكروب، كيف كشفه رجاله

Share

اسبلنزاني صلة حديثه

(القس الماكر الذي مالق الكنيسة والسلطات وهو  يحتقرها جميعا لكي يعيش ولكي يعمل في سكون؛  الذي ناضل نضال الجند بغير أهبة الجند وعدة الجند؛  الذي أثبت من مرق اللحم أن المكروبات ككل الأحياء  لا بد لها من آباء؛ الذي أهدى للعلم مثانته الوبيئة،  ذلك الأثر الوحيد الذي بقي للناس إلى اليوم من هذ ا الرجل الكبير الخالد)

وجرت مكاتبات كثيرة بين اسبلنزانى وبين الكثير من  بحاث أوروبا وشكاكيها. وجرت صداقة بالبريد بينه وبين فلتير  ذلك الماكر الخبيث، وشكا له في كتبه أن إيطاليا  ليس بها إلاأفذاذ قليلون من الرجال ذوي العقول الراجحة،  وشكا له الطقس والرطوبة والضباب. ودار الزمن فإذا اسبلنزانى  يتزعم تلك العصابة الرعناء من الفلاسفة والعلماء الذين طلبوا  الحق صادقين وأرادوا للناس السعادة والعدل مخلصين، فإذا بهم  يمهدون غير قاصدين لفتن هوجاء، تلطخ بها وجه الأرض  بأغزر الدماء

واعتقد هؤلاء العلماء أن اسبلنزانى قضى كل القضاء على  تلك الفرية التي افتراها الخصماء حيث قالوا إن الحياة قد تنبعث  من لا شيء، وأخذ هؤلاء العلماء، وفي طليعتهم   (فلتير) ،  يقهقهون بالنكات النادرة، ويتندرون بالفكاهات المستملحة،  على القوة النباتية وعلى   (بيفون)  الفخم الطنان، وعلى صبي  معمله الأدب   (نيدم)

وبينا هم على هذا، صاح نيدم: (ولكن هذه القوة النباتية  موجودة يا قوم. إنها شيء مستسر خفي. حقاً إنها لا ترى  ولا توزن، ولكن بسببها تخرج الحياة من مرق اللحم ونقيع  الحب، وقد تخرج بواسطتها من لا شيء. من الجائز أنها احتملت

ذلك التحميص الشديد الذي أولاها إياه اسبلنزانى. إنها قوة  أكثر ما تحتاج إليه مرونة الهواء، وقد أغلى اسبلنزانى قبابته  ساعة فأفسد مرونة الهواء بداخلها، ففسدت القوة النباتية  فلم تتكون الأحياء)

سمع الطلياني بهذا فقام تواً للصراع. ونادى نيدم:   (هل من  تجارب تثبت بها أن الهواء إذا سخن قلت مرونته؟) . وانتظر  التجارب فلم يجب نيدم بغير ألفاظ. فصاح به الطلياني:   (إذن  فأنا آتيك بالتجارب) . ورجع إلى معمله مرة أخرى فوضع  البذر في القوارير، وصفها وأغلاها ساعة. وفي ذات صباح  ذهب إليها يقصف رقابها. قصف الأولى وأرهف سمعه فسمع  لها صفيراً.   (ما هذا؟) . واختطف الثانية فأدناها من أذنه  وكسرها فسمع لها صفيراً.   (هذا هو الصفير يعود! ومعنى هذا  أن الهواء يدخل إلى القارورة أو أنه يخرج منها) . وأشعل  شمعة وأدناها من فم قارورة أخرى وفض قاها فإذا اللهب ينعطف  نحوها. فصاح:   (معنى هذا أن الهواء يدخل القارورة، ومعنى  هذا أن الهواء بالقارورة أقل مرونة من الهواء خارجها، ومعنى  هذا أن نيدم قد يكون على حق!)

وعندئذ أحس اسبلنزانى بجيشان في معدته، وأحس بالعرق  يتصبب من جبينه، والأرض تدور به. . . أيجوز أن يكون  هذا الأبله نيدم قد خبطها خبطةً عشواء فأصابت؟ أيكون قد  تظنن فيما تحدث الحرارة في الهواء المخزون بداخل الزجاج المختوم  فوقع على الحقيقة وهو لا يدريها؟ أيكون قد قدر لهذا الفيهق  الثرثار اللغاط الهراء أن يفسد عليه الجهد الكبير الذي أنفقه في  استنباط الحقائق في حرص وحذر كل هذه السنوات الطويلة؟  وقضى اسبلنزانى أياماً وهو سقيم المزاج، مشتت الفكر، ضيق  الصدر، واشتد لتلاميذه واخشوشن من بعد رفق ولين. وأراد  أن يروح عن نفسه فأخذ ينشد شعر   (دانتى)  و   (هوميروس) ،  فلم يزده الإنشاد إلا ضيقاً. واستيقظ في نفسه شيطان أخذ  يوسوس له:   (قم وادرس لم يدخل الهواء داخل القبابة كلما  كسرت ختمها، فلعل هذا لا صلة له بمرونة الهواء) . وصاحبه  هذا الوسواس الخناس وألح عليه حتى استيقظ ذات ليلة على  صوته مخبولاً مرتبكاً. . . . وفي برهة كلمحة البصر وقع على تفسير

تعلو في السائل ثم تهبط، وهي تظل تتكاثر فيه أياماً. ألا ترى  في هذا عجباً! ألم نقل دائماً أنه ما من حي يستطيع العيش من  دون هذا الهواء)

كان اسبلنزانى معجباً بقوة خياله، معجباً بسرعة خاطره،  وزاد إعجاباً بنفسه، وزاده غروراً إعجاب طلبته، وملق  الأوانس والغواني، وإطراء الأساتذة العلماء، وتقريب الملوك  الفاتحين. ولكنه كان إلى جانب خياله يتعشق التجربة، بل هو  يقضى حقوق التجربة أولاً ثم يخال بعد ذلك، فان هي عارضت  خاطرة بديعة من خياله الخصيب فسرعان ما كان يقر بالحق،  وينزع عن خواطره مهما بلغت من الإبداع

وفي هذه الأثناء كان هذا الرجل الأمين، الغالي في أمانته  في كل ما يتعلق بتجاربه، هذا الرجل الذي كان لا يخط قلمه إلا  الحق الذي يجده بين روائحه الكريهة وأبخرته السامة وأدوات  معمله اللامعة، هذا العالم الجليل الأمين، نعم أعيد فأقول الأمين،  كان يتدنى إلى الحيلة الخسيسة ليزيد مرتبه في جامعة بافيا. هذا  الرجل الشديد، لاعب الكرة، الكشاف، متسلق الجبال،  يأتي إلى عاصمة النمسا متخاذلاً متواعكاً متأوهاًمتوجعاً، يشكو  إلى رجال الحكم فيها سوء صحته، ويقول إن ضباب بافيا وأبخرتها  تكاد تقتله. وأراد الإمبراطور أن يستبقيه فزاد أجره وضاعف  إجازاته. وتحدث اسبلنزانى عن هذه الواقعة فضحك وسماها  في خبث مداورة سياسية. هذا الرجل كان يصل إلى الغابة التي  يريد فلا يقف شيء في سبيله. يريد الحقيقة فينالها بالتجربة البارعة  والملاحظة القريبة والصبر المضني، ويريد المال والترقي فيناله  بالعمل الشاق وأحياناً بالحيلة والكذب، ويريد أن يتقى ظلم  الكنيسة واستبدادها فينال ذلك بدخوله قسيساً فيها

ولما كبر وطالت به السنون تشهى إلى تجارب غير تجارب  معلمه، تجارب صخابة عنيفة يطلق فيها القياد لنفسه وحسه،  فاعتزم أن يزور موقع طروادة القديمة لأن قصتها كانت تهزه هزاً؛  واعتزم أن يزور الشرق بحريمه وأرقائه وخصيانه، فقد كان يعتبر  هذه الأمور جميعاً جزءاً من التاريخ الطبيعي كوطاويطه وضفادعه  والحيوانات الصغيرة التي بنقيع بذوره. وشغل الشفاعات،  وأعمل المحسوبية، واتصل ورجا، حتى أعطاه الإمبراطور إجازة  عام، وأعطاه نفقة السفر إلى القسطنطينية، كل ذلك لاستعادة  صحته واسترداد عافيته، وعلم الله ما كان أحسن صحته وأتم عافيته

وقام اسبلنزانى فاختزن فباباته، وأغلق معمله، وودع تلاميذه  وداعاً حاراً استطاع أن يذري فيه ما تيسر من الدمع. وركب  البحر الأبيض فاعتوره دواره وآذاه إيذاء شديداً، وارتطمت  سفينته بالصخر وتحطمت، ولكنه استطاع أن ينجو وأن  ينجى ما كان قد جمعه من بعض جزائر البحر، وجاء السلطان  فأولم له وسقاه وأكرم وفادته، وأذن له أطباء السراي في دراسة  عادات السراري الجميلة. . . . . . وبعد كل هذا قال للأتراك،  وهو الرجل الأوربي الطيب - رجل القرن الثامن عشر - قال  لهم إنه يعجب بكرمهم، ويعجب بعماراتهم، وما تضمنته من  الفن الجميل، ولكنه يمقت استرقاقهم للجواري والعبيد، ويمقت  استسلامهم للأقدار والأقسام. فكنت تخاله يقول لصديقه الشرقي،  والشرقي رجل جامد، تقول حوله الدنيا وهو قاعد، وتجري عليه  الأيام وهو مركوم، وتنبو عنه الحوادث وهو ملموم، كنت  تخاله يقول له:   (نحن الغربيين سنفتح بعلمنا الجديد هذا من  الأمور مالا يفتح، ونجتاز به مالا يرجى اجتيازه، وسنمحو عن  الإنسان وبني الإنسان هذا العذاب الأبدي والشقاء السرمدي  الذي يئست الدهور من محوه) . كان اسبلتزانى يؤمن بالله،  ويؤمن بقدرته وجبروته، ولكنه كان بحاثا نقاباً طلاباً للحقائق  فكانت تغلبه غيرة الباحث وروح المنقب على كل ما يقوله،  وتسيطر على كل ما يفكر فيه، حتى ينسى الله، وحتى ليعتذ ر عنه آنا فيسميه الطبيعة، وآناء أخرى فيسميه المجهول، وحتى  دفعته إلى أن ينصب نفسه شبه وكيل أول لله، يفتتح وإياه  مجاهل هذه الطبيعة الغامضة ويكشف أسرارها

وبعد أشهر عديدة قضاها في الشرق عاد أدراجه، لا عن  طريق البحر هذه المرة، بل عن طريق البلقان، وأنفذت معه  الحكومات من الجند أصوبهم رماية، وأولم له أشراف البلغار  وأراء الأفلاق. وأخيراً دخل فينا عاصمة الإمبراطورية وذهب  إلى الإمبراطور يوسف الثاني، صاحب نعمته وراعيه، ليقضي  واجب الشكر ويقدم فرائض الاحترام. وكانت هذه الساعة  أفحم ساعات حياته، وأملؤها بالمجد، ذلك المجد الذي يعطيه الملوك  والأمراء. وأسكرته خمرة تلك الساعة، وذهب دبيبها إلى رأسه،  ومشت سورتها إلى أعماق نفسه، فكنت تسمعه يقول:   (ما  أحلى تحقيق الأحلام) . ولكن. . . .

(يتبع)

اشترك في نشرتنا البريدية