بستور غزاة المكروب
مات اسبلزاني، وجاء ثلث قرن من بعد وفاته وقف فيه البحث عن المكروب وقوفاً تاماً، ونسى الناس تلك الأحياء واستصغروا أمرها، واتجهوا بهمهم إلى علوم أخرى كانت تخطو في طريق التقدم خطوات سريعة وكانت القطر البخارية قد أخذت تشق طريقها في البلاد، ضخمة دميمة، تسعل كالمصدور فتفرغ الخيل والبقر في أوروبا وأمريكا. والتلغراف كاد يهم بالظهور. واخترعت مكرسكوبات عجيبة، ولكن لم يتقدم رجل للتحديق فيها ليثبت للدنيا أن هذه المكروبات الضئيلة تستطيع أن تقوم من العمل النافع المجدي ما لا تستطيعه تلك القاطرات المعقدة الفظيعة - لم يتقدم أحد ليقول للناس، ولو إيحاء وتلميحاً، إن هذه الخلائق تستطيع قتل
الملايين من البشر في خفاء وسكون، وأنها في قتلها أكثر حصاداً من الجيلوتين، وأبعد مدى من مدافع واترلو
في يوم من أيام أكتوبر عام ١٨٣١، بقرية من قرى الجبال بشرق فرنسا، تجمهر نفر من أهل القرية على دكان حداد. وكان الفزع يبدو على وجوههم الشاحبة، وكان الهلع يستبين في أحاديثهم الخافتة، وقد حولوا جميعا وجوههم شطر الحداد بداخل المكان. وإذا بطشيش يسمع كطشيش الشواء، وإذا بصراخ يعقبه من تباريح الألم مكظوم، وإذا بطفل في التاسعة يخرج من حافة الزحام هارباً إلى بيت أبويه وقد أخذ منه الرعب ما أخذ. أما الرجل المسكين الذي أنضج الحديد لحمه ففلاح يدعى نقولا لقيه في الطريق ذئب هائج مسعور، نزل على القرية يعوي عواء المجنون، ويزبد فاه برغاء مسموم، فهجم على صاحبنا فمزقه تمزيقاً. وأما الطفل الهارب فكان اسمه لويس بستور ابن دباغ في أربوا وحفيد خادم عبد لكونت أدريسييه
ومضى على هذا المشهد أسابيع سقط فيها ثمانية رجال فريسة لداء الكلب، وعانوا ما عانوا من جفاف الحلق، وضيق الخناق، وجنون النفس، وصرخوا طويلا فترددت أصداؤهم في أذن صاحبنا الطفل، فارتاع فأسماه بعض القوم جباناً، وانطبع في ذاكرته أثر الكي الذي رآه وسمعه في دكان الحداد انطباع الحديد في لحم ذلك الفلاح البائس.
وسأل لويس أباه: (ما الذي يصيب الكلاب والذئاب بالجنون؟ ولم يموت الناس بعضة منه؟) . وكان أبوه في زمان مضى جاويشاً قديماً في جيش نابليون، فرأى عشرات الألوف من الناس تمون من الرصاص، ولكنه لم يدر لم يموت الناس من الأمراض. فكنت تسمع هذا الدباغ التقي يجيب ابنه السائل فيقول:(من الجائز يا بني أن شيطاناً من الشياطين دخل جلد الذئب، وإذا قضى الله لك بالموت فلا مرد لقضائه) . هذا جواب، لو تأملته لوجدته على بساطته كأحسن ما يجيب به أكثر العلماء حكمة، وأغلى الأطباء أجوراً. ولم يكن أحد يعرف في عام ١٨٣١ لم يموت الناس من عضة الكلب المسعور، فأسباب هذا المرض كانت غامضة مجهولة.
أنا لا أحاول أن أدخل في روعك أن هذا الحادث الذي وقع لـ (بستور) في صباه كان السبب الذي حدا به في رجولته
إلى كشف سبب هذا الداء وكشف علاجه. إذن لزاد هذا في جمال قصتنا، وكان كذباً وبهتاناً. ولكن الحق أن هذا الحادث راعه طويلاً، ولزمته ذكراه الأليمة طويلاً، وتفكر فيه طويلاً. والحق أنه أحس ريح الشواء تصعد من لحم الفلاح إلى أنفه إحساساً أشد ألف مرة ممن أحسوها، وأنه سمع صراخه فنفذ في نفسه إلى أغوار أبعد من أغوار الآخرين ممن سمعوها، واختصارا أريد أن أقول إن هذا الصبي كان مجبولاً من تلك الطينة التي يجبل منها الفنانون، وان ذلك الفن فيه عاون علمه يداً بيد في إخراج تلك المكروبات إلى الوجود بعد انزوائها مرة أخرى بوفاة (اسبلنزاني) . ولا أحجم عن القول إن (بستور) في السنوات العشرين الأولى من حياته لم تظهر عليه شارة تنبئ بمصيره بحاثاً كبيراً، فإنه قضاها طفلاً جلداً ٠على الشغل، ذا عناية بما يعمل، ولكن عين الناظر المتفقد لم تكن تقف عنده طويلاً. وكان يقضي فراغه في التصوير، فكان يصور النهر الذي يجري بجوار المدبغة، وكان يصور أختيه فيثبتان له ساعات حتى تتصلب أعناقهما، وتتوجع ظهورهما. وصور أمه صورا قاسية، ليس فيها من الملق شيء، وليس فيها من الجمال شيء، ولكنها أشبهت أمه.
وفي هذه الأثناء أهمل الناس حيوانات (اسبلنزاني) الصغيرة حتى نسوها، وقام العالم السويدي (لينيأس) يقسم الأحياء ويبوب أجناسها، فيجعل لكل جنس جذاذة، ويجعل من الجذاذات فهرساً عظيماً، حتى إذا جاء إلى تلك الأحياء الصغيرة، رفع يديه يأساً منها، قال:(إنها أحياء شديد صغرها، مختلط أمرها، وستظل على إنبهامها، وإذن فلأضعها في باب الأشتات الغامضة). ولم تجد تلك الأحياء من يدفع عنها، ويتحدث بالحسنى عنها، غير ايرنبرج
ذلك الألماني الشهير، ذو الوجه البض المليء، فانه في الوقت الذي لم يكن فيه يقطع المحيطات أو يمنح الأوسمة والمكافآت، كان يشتبك في مجادلات عقيمة عن هذه الحيوانات: ألها أمعاء كسائر الحيوان؟ أهي حيوان كامل الأعضاء، أم هي بعض صغير من كل كبير؟ أم هي ليست بحيوان قط، بل نبات؟
ظل (بستور) يكد في الدراسة ويكب على القراءة، وبدأت تظهر عليه وهو في كلية (أربو) سمات، وتتراءى في خلقه صفات، بعضها حسن وبعضها قبيح، ولكنها جميعاً خلقت منه شخصا التقت فيه المتناقضات بقدر لم تلتق على مثله في سواه. فقد كان أصغر التلاميذ في المدرسة، ومع ذلك أراد أن ينصب نفسه عليهم قيماً. كانت به رغبة شديدة في تعليم غيره من الأولاد، وعلى الأخص في حكمهم والسيطرة عليهم. ونال أمنيته فنصبوه قيماً. وقبل بلوغه العشرين ارتقى إلى منصب أشبه بمساعد في كلية بيزانسون وأجهد نفسه في العمل إجهاداً مريعاً. وأراد كل من حوله على أن يعملوا بمقدار ما يعمل. وكتب إلى أختيه المسكنتين كتباً شديدة اللهجة، بارعة الأسلوب، يحضهما فيها على العمل، وقد كانتا - طيب الله ثراهما - تبذلان كل ما في وسعهما من مجهود.
كتب إليهما يقول: (أختي العزيزتين، إن العزيمة شيء عظيم، لأن العزيمة يتبعها العمل، والعمل يتبعه النجاح دائماً، إلا في القليل النادر. وهذه الأمور الثلاثة - الإرادة، والعمل، والنجاح - تملأ الوجود الإنساني. فالعزيمة العزيمة، والعمل العمل، فسيفتحان لكما أبواب السعادة والمجد. إن الطريق الطويل المجهد في آخره خير الجزاء عما صب الإنسان على ترابه من عرق، وأحفى فيه من قدم) .
تلك عظاته الأولى في شبابه، وهي من عظاته الأخيرة عند ما بلغ السبعين - عظات بسيطة، ولكنها كانت تخرج من قلبه.
وبعث به أباه إلى باريس، إلى مدرسة النرمال، فاعتزم أن يقوم هناك بأعمال كبيرة، ولكنه أحس حنيناً أليماً إلى وطنه، وإلى روائح المدبغة التي خلف في بلده، فعاد إليها تاركاً في باريس آماله وأحلامه. . . ولكنه لم يغيب عنها طويلاً، فإنه رجع إلى باريس بعد عام، إلى نفس المدرسة، وفي هذه المرة أطاق الإقامة فيها بعيدا عن بلده وأهله. وذات مرة خرج من محاضرة دوماس مغتمر الحس، فائض النفس، مغروق العين، يتمتم لنفسه، (ما أجل الكيمياء علماً! ودوماس، ما أمجده وأوفر حظه من محبة الناس!) . عرف (بستور) حينئذ أنه سيكون كيميائياً كذلك عظيماً. ونظر إلى الحي اللاتيني بشوارعه القاتمة، وهوائه الغبيش، وإلى عيشة الخلاعة والتخليط التي يعيشها الناس فيها، فقال لا يرفع هذا الحي من وهدته إلا الكيمياء. كان (بستور) قد ترك الرسم والتصوير، ولكنه حفظ في قلبه روح الفنان الشاعر.
ولم يلبث أن بدأ أبحاثه، بين قوارير من كل رائحة كريهة، وأنابيب من كل سائل ذي لون بهيج، فاشتغل بها وتعثر فيها. وكان يحاضر صديقه الطبيب شبيوس ساعات عن بلورات حامض الدردي، ولم يكن إلا طالب فلسفة، فكان المسكين لا يجد مندوحه عن الإنصات كل تلك الساعات. وكان (بستور) يقول له: (إن من المحزن ألا تكون كيميائياً مثلي) . كان يريد كل الناس على أن يكونوا كيميائيين، كما أراد كل الأطباء بعد أربعين عاماً أن ينقلبوا بحاثاً للمكروب.
وبينا كان يكب بأنفه الأفطس، وجبينه العريض، على كومات البلورات يمتحنها، كان رجلان، أحدهما فرنسي، والآخر ألماني، قد أخذ على انفراد يوجهان همهما إلى تلك الحيوانات الصغيرة الحية التي تدعى بالمكروبات، يعتقدان أنها
حيوانات على صغرها خطيرة نافعة كالخيول والأفيال. أما الأول فكان اسمه كبنارد دي لا تور وكان رجلا متواضعاً متخاشعاً، إلا أنه كان يعرف كيف يكشف من الحقائق عن إبكارها. فذات يوم كان يدور خلال الجعة المختمرة في أحواضها، فأخرج من حوض قطرتين يعلوهما الرغوة، ونظر إليهما بمجهره فوجد أن حبات الخميرة قد نتأت على جوانبها نتواءت كما تتنبت البذور. فقال لنفسه: (إذن هذه الخمائر حية، لأنها تتكاثر كغيرها من الخلائق) . وتابع أبحاثه فعرف أن الشعير لا يستحيل إلى (البيرة) إلا حيثما وجدت فيه هذه الخمائر الحية المتزايدة. (إذن فهذه الخمائر، وهي تمارس العيش، تخلق من هذا الشعير كحولاً) . ونشر مقالاً صغيراً عما وجد، ولكن الدنيا رفضت أن تستمع إلى هذا الكشف المجيد. وكان (كنيارد) حيا، ولم يكن دعاء لنفسه، ولم تكن له صلة بالصحافة. ٍ
وفي نفس العام نشر دكتور ألماني يدعى إشفان مقالاً قصيراً، في جمله طول، وفيها إبهام، يقص على الناس فيه خبراً عجيباً، خال أنه سيقيمهم ويقعدهم، فإذا بهم يستمعون له بصدور ضيقة وأمزجة فاترة. قال: (أغل اللحم إغلاء طيباً، وضعه في قارورة نظيفة، ثم أدخل إلى القارورة هواء بعد إمراره في أنبوبة حمراء بما حولها من النار، يبق اللحم صالحاً عدة أشهر. ولكنك إذا نزعت القارورة سدادها، فأدخلت إليها الهواء العادي بما فيه من جراثيم، فلن يلبث اللحم أن تخبث ريحه، ويتنغش بأحياء أصغر ألف مرة من رأس الدبوس، هي التي تعيث فيه بالفساد) .
لو أن (لوفن هوك) سمع بهذا لفتح عينيه وسعها لما سمع، ولو أن (اسبلنزاني) جاءه هذا الخبر وهو يصلي بالناس في الكنيسة لفض جمعهم وهرع إلى معمله. أما أوربا فلم تحرك ساكناً. وقرأت الخبر في الصحف فكان كبعض الأخبار. وكان (بستور) في تلك الساعة على وشك أن يكتشف أول كشف خطير كشفه في الكيمياء.
كشف بستور كشفه الخطير الأول وهو ابن ست وعشرين فبعد نظرات قريبة عديدة إلى بلورات صغيرة دقيقة، خرج على أن حامض الدردي يوجد على صور أربع لا على صورتين، وخرج على أن المواد الكيمياوية منها مركبات تتساوى
جزيئاتها في كل شيء، في عدد ذراتها، وفي الحال التي تترابط عليها هذه الذرات يكاد المركبان يكونان مركبا واحداً، لولا اختلاف بسيط في وضع ذراتهما، وخرج على هذين الوضعين يختلفان كاختلاف الشيء وصورته في المرآة.
تمطى (بستور) فاستقام ما انحنى من ظهره الوجيع، واستبان قدر الكشف الذي أتاه، فخرج مسرعاً من معمله الصغير المظلم القذر، فبلغ البهو الكبير، فالتقى بشاب فيزيائي لم يكن يعرفه إلا لماماً، فإذا به يطوقه بذراعيه، ويقوده خارج المعهد إلى حدائق لكسمبرج وتحت ظلال أشجارها الوريفة، أخذ يصب على صاحبنا الكلم صباً، ويغمره بالشرح والتفسير غمراً. لم يكن له مندوحة من هذا. ملأه الحديث فلم يستطيع كظمه. لابد أن يفيض به إلى أحد. لا بد أن يخبر الدنيا بالذي وجد.
لم يمض شهر حتى أثنى عليه الأشياخ من الكيميائيين، وحتى اصطحبه علماء أعمارهم ثلاثة أضعاف عمره. وتعين أستاذاً بجامعة استراسبورج وفي فترات ما بين أبحاثه وقر في نفسه أن يتزوج من ابنة العميد. ولم يكن موقناً من حبها، ولكنه جلس فكتب لها كتاباً وثق أنها لن تقرأه حتى تحبه. كتب لها. (ليس في ما يجذب فتاة صغيرة مثلك، ولكن ذاكرتي تطمئنني إلى أن الذين عرفوني حق المعرفة، أحبوني أصدق الحب) .
وتزوجته، فصارت بذلك أشهر الزوجات في التاريخ، ومن أكثرهن مكابدة ومقاساة، من أكثرهن هناءة وسعادة من بعض الوجوه - وسنذكر في هذه القصة الكثير عنها.
ولما أصبح رب أسرة، زاد بذله من نفسه للعمل، فنسى ما تفرضه الزيجة الحديثة على الزوج من واجبات، وما تنتظره من محاسنات وملاطفات. وغلا فقلب ليله بالعمل نهاراً. كتب في ذلك يقول: (أنا على وشك أن أرفع الحجاب عن خبايا غامضة.
وأرى هذا الحجاب يشف كل يوم عنها، ثم يشف، ثم يزداد شفوفاً. وتطول الليالي عليّ في انتظار الصباح. وزوجي كثيراً ما تؤنبني للسهر، فأقول لها: (إنني بذلك إنما آخذ بيمينها إلى حظيرة الخالدين) واستمر ببحث البلورات، ويسلك لاكتنانها طرائق لا تلبث أن تنسد في وجهه فيرتد عنها خائبا، ويدبر من التجارب كل سخيف مستحيل، تجارب لا تصدر إلا عن عقل مخبول، ولكنها كانت من ذلك النوع الذي لو صادف نجاحا لصير هذا المخبول عبقريا يدوي اسمه في الآفاق؛ فوضع الأشياء الحية بين مغناطيسيين كبيرين رجاء أن يغير بذلك كيمياء الحياة فيها. واخترع مكنات كمكنات الساعات، وعلق بها النباتات فأخذت تهتز كالبندول روحة وجيئة، وحسب بذلك أنه يهز ذراتها في جزيئاتها، وحسب أنها تحول عن أوضاعها القديمة إلى أوضاع جديدة تنتسب إلى الأولى انتساب الشيء إلى خياله في المرآة، أو كما ينتسب من حامض الدّردي جزئيه الأيمن بجزيئه الأشول. . وأراد أن يقلد الله فحاول أن يغير فصائل الأحياء
وكانت زوجه تسهر الليالي إلى جانبه، وتعجب بما يصنع، وتثق به، وتؤمن بكل الذي يأتيه. كتبت إلى أبيه تقول: (يجب أن تعلم أن التجارب التي هو قائم بها الآن، لو نجحت، فستخلق منه رجلاً يناهض في الذكر (نيوتن) ، ويطاول في المجد (جاليلو ) ) . لسنا نستطيع اليوم أن نؤكد أن مدام (بستور) كانت تقول ذلك فهماً لما يقوم به زوجها، أم هو إعجاب المرأة ببعلها، وعلى كل حال فلم تتحقق آمالها هذه المرة فإن تجارب (بستور) هذه كان نصيبها الخيبة.

