فرغت من قراءة المقال وفى هذه المرة لم ترم المجلة بعنف ويأس شأنها كل يوم انما وضعتها بلطف قرب وسادتها ثم مدت يدها تضغط على زر المصباح فساد الظلام.
وفي حلكة الغرفة كانت عيناها مفتوحتين يلتمع فيهما بريق غريب. لم تستلم للنوم لأنها كانت تشعر بحاجة ملحة إلى الانتباه والتفكير عجبا أيمكن أن يكون شقاؤها الملازم قد أشرف على النهاية فتشرق شمس الغد ضاحكة وتقبل السعادة المفقودة لترتمى بين أحضانها؟
إنه مقال ((فى الحياة والحب والجمال)) لا مثيل له فيما قرأته قبل يوم من تلك الفصول المطولة. انه قطعة من وجد، فلذة من قلب بل هو حياة مثلى مصغرة طالما حنت اليها بعد نكبتها قبل سنتين. ولكن هذا المقال لم يثر من اهتمامها قدر ما أثار منه كاتب المقال، ذلك اللوذعي القدير المتفنن ذو القلم الساحر الذى استطاع ما لم يستطعه قبله من إهاجة الجمرات الكامنة من أعماق صدرها. فمن هو هذا الكاتب؟
المقال مذيل بإمضاء ولكن الامضاء لا يشير الى شخصية حقيقية انما هو من تلك الامضاءات المستعارة المبتكرة. ((سمير النجوم)). ومن هو هذا سمير النجوم؟ وضغطت على زر المصباح فتفجرت الانوار تغمر الظلمة وكانت المجلة فى يدها فجلست متكئة على وسادتها وراحت تطالع المقال ثانية. وهى فى كل فقرة من فقراته تستمهل النظر فتطلق لافكارها الجامحة العنان. لم تعرف (م) كم مرة أعادت تلاوة ذلك المقال في تلك الليلة. ولم يكن ليهمها أن تعرف ذلك. وعندما دقت الساعة اثنين بعد منتصف الليل تذكرت أنها آوت الى فراشها في منتصف الساعة الثامنة.
و (م) من هى؟ هى تلك الزنبقة التى ما كاد ثغرها يفتر فى الحديقة الغناء فتمتص الندى وتتشرب العصير وتستحم بأنوار الشمس حتى قطعت عنها الطبيعة
مجارى المياه فراحت تشكو العطش وتحذر الهلاك!. هى الزوجة الحسناء بالامس المترعة الكاس سعادة قدسية، الارملة البائسة اليوم الممتلئة الجوانح شعورا غريبا علويا!.
يا للجمال الرائع تلامسه يد الاسى بأصابعها النارية! يا للقلب الفارغ بعد امتلاء تتسرب اليه الوحشة والحنين بين الذكريات الوامضة الجميلة! ويا لليالي الشتاء ما أطولها وما أقسى بردها على هذه الحمامة الوحيدة الوادعة!
توفى زوج (م) ولم يمر على زاوجهما أكثر من عام فخلف شريكة حياته ولا سلوى لها سوى طفلة في مهدها وذكريات طيبة مشوبة بمرارة الفراق الابدى. من الذي سيبادلها الحديث الحلو؟ الابتسام؟ القبلات والعناق؟ ومن سيشاطرها الحياة شهورها وسنيها؟!
أحبت وحيدتها شأن كل أم وأفرطت في الحب ولكن هذا الافراط ما كان ليخفف من مصابها بشريك حياتها. ومرت الايام والاشهر وتصرم عام وبعضه و (م) تستهدف سهام الحياة.
فتتألم ذلك الالم الاخرس الذى يجيش فى نفس جريح خانته قواه فما استطاع كلاماً حتى ولا أنينا!.
سل الوسادة عما بللها من دمعها الغزير فى ظلمات الليل! سل النجوم عما تصعد اليها من حسرات على اجنحة الرياح! وسل المرآة الصافية عما صوب اليها من نظرات حزينة! ومن خلال لآلى الدموع كانت عيناها تنظران بخيلاء كسير إلى الجمال المضاع.
- اننى ما زلت حسناء. . . جاذبيتى ما زالت ثائرة. . . وقلبى الفارغ. . . هل سيظل هكذا. . .؟ ولماذا يظل هكذا. . . . . .؟
تجول هذه الافتكارات وأشباهها فى رأس (م) فلا تلبث أن ترتمى على كرسى قريب وتجهش بالبكاء. فاذا ما دنت اليها طفلتها تصيح (ماما) انقلبت من البكاء للضحك ومن الاجهاش للقهقهة، وبقى شىء لم يتغير هو الالم الممض فى قلبها الوديع.
(أريد أن أحب). . وحى علوى هبط على نفس (م) هبوط قطرات الطل على الزهرة العطشى ولامس كل عاطفة من عواطفها ملامسة لفحة الموقد للجسم البارد الممطلى ولكن أين من تحب؟ ومن هو؟ وكيف الحصول عليه؟.
شاب في مقتبل العمر، ممشوق القوام، ضحوك الوجه، براق العينين؛ جرسى الصوت؛ محبوب المعشر؛ مثقف؛ ذكى؛ ذلك من كانت تبحث عنه أو تحاول أن تبحث عنه (م) ليملأ فراغ قلبها الفتى.
ولكن أين نجده ومجتمعنا من القساوة بحيث يراقب منها الحركات والسكنات ويحصي عليها حتى أنفاسها. طريقها طويلة شائكة فهل تسير وهي حافية القدمين أم تنكص الأعقاب؟ (أريد أن أحب)
كانت وحيا هابطا ما أن له مرد. بعد تفكير أيام بلياليها وصلت الى أن بامكانها أن تحب أحد كواكب السنما، وكواكب السنما كثيرون تتمتع بجمالهم وأصواتهم فى السنما الناطق كل أسبوع، فما عليها إلا أن تحب أحدهم مثال روبرت مونتكومرى أو كلارك كابل أو موريس شفاليه أو جاك بوكانان أو شارلس فارل أو رامون نوفارو أو أى كوكب آخر تقبل على إقتناء صوره ومشاهدة أفلامه وقراءة أخباره وتتبع كل أثر من آثاره.
وهى فكرة جميلة تخفف من لواعجها ولكنها لا تطفئ أوار قلبها! انها فى حاجة إلى حب حقيقى لا خيالىى، فلتبحث عن أمنيتها فى غير هذه السبيل.
- لماذا لا تطالع الروايات العصرية التى ما زال أشخاصها أحياء يرزقون! فإذا ما تملك اعجابها بطل ما فلتبحث عنه عساها تصل الى معرفته والانتصار عليه فتفوز به وعلى رأسها إكليل (كيوبيد) والى جانبها عشيقها العزيز المغلوب!
فكرة جميلة جداً حاولت أن تخرجها إلى حيز الوجود فقرأت أكثر من خمسين رواية فلم تظفر بمطمح أنظارها وأفكارها فأشاحت بوجهها حزينة ولهى!
وكومضة البرق الخاطف تحت جنح الظلام خطر لها خاطر ألست اليه ورأت فيه مخرجا لها من هذه الحالة الاليمة، هو أن تبحث عمن (تريد أن تحب) فى الجرائد والمجلات المحلية منها بوجه خاص، ففى هذه الصحف يكتب العشرات من الكتاب والقصصيين والشعراء فما عليها الا أن تطالعها بانتظام حتى تعثر على ضالتها المنشودة.
مقالات! قصائد من الشعر المنظوم أو المنثور! كلمات مأثورة لا يحصى لها عدد! هذا سياسي؛ ذلك أديب؛ الآخر عالم. الا أنهم كثيرون؛ كثيرون جداً ولكنهم على رغم كثرتهم لم يثر واحد منهم كامنا فى نفس (م) فكانت تطالع ما ينشرونه ثم لا تلبث أن ترمى الصحيفة جانبا ثم يتملكها شعور هو أقرب الى النفور منه الى سواه.
حتى كانت تلك الليلة السعيدة التى وقع نظرها فيها على مقال (سمير النجوم) في الحياة والحب والجمال فتنفست الصعداء وبرقت أسارير وجهها وخفق قلبها خفقة غريبة لم تستطع (م) تأويلها الا بأنها عثرت على من تريد أن تحب.
والمجلة التى نشرت مقال (سمير النجوم) أسبوعية كانت (م) تشتريها صباح كل أحد من بائع الجرائد المجاور لدارها ،أما اليوم فقد كتبت الى إدارة المجلة ترجو أن تعدها مشتركة فى ثلاث نسخ أرسلت بدل الاشتراك السنوى عنها سلفا.
وكان نهار الاحد التالى فصدرت المجلة، ويالحزن (م)! فهي بعد انتظار أسبوع كامل كان أطول من عام لم تقرأ شيئاً لـ (سمير النجوم) ويا لوحشة القلب!
(أريد أن أحب) وحى أخذ يتجسم مفعوله فى نفس (م) يوما فيوما باعثا الأمل فى أعماقها؛ وفى الاسبوع الرابع قرأت ودموع الفرح تترقرق في أجفانها مقالاً ثانياً لسمير النجوم عنوانه (السعادة، الزواج والمال) فكان له أثر عميق في نفس (م) فأعادت قراءته ثانية وثالثة ورابعة حتى أوشكت أن تحفظه عن ظهر قلب.
وفى الأسبوع التالى نشر (سمير النجوم) قصيدة فى 21 بيتا بعنوان (قلبي. .) كل بيت من أبياتها يسيل رقة وجمالا، فكررتها (م) حتى حفظتها كلها وراحت تتغنى بها صباح مساء.
وظلت (م) تتعقب آثار (سمير النجوم) عشيقها؛ مثلها الأعلى، معبودها، فتلتهمها التهاما ولا تقرأ سواها. وفي أحد الأيام فكرت حقا في الامر وارتأت أن عليها أن تعمل عملاحازما فى هذا الشأن فتقول لسمير النجوم وجها لوجه (أني احبك. . أحبك أيها الكاتب القدير. . احبك أيها الفتى الجميل. .) فكيف تصل الى ذلك؟ وأجهدت فكرها واذا بوحى الحب يهبط فيلهمها أن تدعو (سمير النجوم) -برسالة تبعثها إليه بواسطة المجلة- لتناول الشاى لديها فى مساء الثلاثاء القادم. ما أبدعها فكرة مصيبة سهلة التنفيذ.!
وفي هدوء الليل جلست إلى مكتبها تحبر الدعوة إلى سمير النجوم وكان القلم يرتجف بين أناملها فتكتب وتشطب وتمزق ثم تكتب وتشطب وتمزق ثم تعود فتكتب وتشطب وتمزق. . هذه كلمة خشنة. . هذه جملة مفككة. . هذا تعبير غير صحيح. . وأخيراً استقرت على أن تكون الدعوة كما يلي:
(أنا احدى المعجبات بكتاباتك الفياضة بالروح. أتشرف بدعوتك الى تناول الشاى فى دارى الواقعة. . . فى الساعة الخامسة زوالية من عصر الثلاثاء القادم. اهلا بك منذ الآن).
قرأتها ثانية وثالثة فاعجبتها، عند ذلك وضعتها في غلاف معطر وكتبت عليه: الى الكاتب المحترم سمير النجوم - بواسطة مجلة. . . الغراء. وحين استلقت على فراشها أرادت ان تقرأ الرسالة للمرة الاخيرة قبل أن تلتحف فتناولتها وتلتها بصوت عال كأنها تريد أن تتحسس موسيقى نبراتها فصدمتها منها الجملة الأولى (انا احدى المعجبات) لا. . لا لا. . يجب أن تكون هكذا (انا معجبة الخ. .) لماذا أتحدث اليه عن اعجاب الغير؟ ونهضت الى مكتبها تعيد تبييض الرسالة وبعد هنيهة كانت تساورها الاحلام الجميلة!
( البقية على صفحة ٣٩)
(بقية المنشور على صفحة ٣٦)
بعد ثلاث ساعات يأزف الموعد " كل شىء منظم بذوق سليم والاوانى . الطنافس . السائد ، السور ، فى وسط الغرفة رسم لهاكبير يزيك قدبها الايمن تعطيه ملاءة حريرية شفافة ،مجموعات الرسوم الفتنة ، الراديوغرامافون " الكاير , العطور . ما اعظمه يوما فى التاريخ !. لم يبق الا ساعتين لم يبق سوى ساعة ونصف !
ساعة واحدة فقط. . ثلاثة أرباع الساعة. . نصف ساعة. . ربع ساعة. . ما لقلبها يدق سريعا سريعا. .؟ ما لها لا تستطيع الثبات على المقعد. .؟ إنها تروح وتغدو كأن في صدرها نارا تحركها. . .
بقى عشر دقائق . . تسع . . سبع . . خمس .. وأحست بقلبها كأنه يريد أن يتحرك من مقره وبصدرها يعلو ويهبط. . وبافكارها وأنظارها زائغة لا تستقر على قرار. تن. . تن. . تن. . تن. . تن
دقت الساعة خمسة فطرق الباب على الأثر فهرولت تستقبل سعادتها المنتظرة. فتحته قليلا وهى تقول بصوت عذب متقطع. تفضل! فدخل سمير النجوم يتوكأ على عصاه. . كان شيخا تجاوز الستين، محدودب الظهر، غائر العينين. . . . . .
- مساء الخير سيدتى . . - تفضل!! وأومأت اليه أن يدخل غرفة الاستقبال وركضت إلى غرفتها فارتمت على فراشها تبكى بكاء الأطفال. . .
بغداد

