الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 704الرجوع إلى "الثقافة"

قصص, حلم مراد

Share

كان مراد يحس دائما أنه يعيش في عالم غامض كله أسرار ولقد جاءه هذا الإحساس مبكرا ، منذ أصبح فلم يجد أياه كما اعتاد أن يجده كل يوم ؛ منذ قيل له : إن أباه قد( مات ( عندئذ بدأ مراد الصبي يصطدم بطبيعة الحياة على الأرض ، وعرف أنه ليس خالدا ، ولكنه ظل كهذه الظلال الشمسية تذهب بذهاب الشمس ، وتعود بعودتها ، فإذا ولدت الظلال وماتت كل يوم بولادة الشمس وموتها ، فالإنسان يولد كل يوم ويموت يحاول روحه في جسده وخروجها منه . .

ولقد توصل مراد إلى هذه الحقيقة بطريقة ما ، وهو منذ عرف هذه الحقيقة أدرك انه يعيش في عالم غامض كله أسرار . بدأ يحس الخوف من أن يموت ويوضع في حفرة في باطن الأرض ويهال عليه التراب ويترك هناك إلى الأبد بينما الحياة مازالت تدب على الأرض . ورسخ فيه هذا الاحساس بالخوف من الموت ؛ وازدادت سنه عاما بعد عام حتى تيقن من شئ واحد هو أن النوم موت قصير والموت نوم طويل ، وأنه في كلتا الحالتين تخرج الروح من الجسد

لتحوم في الفضاء الواسع وتعود إلى مستقرها في حالة الموت القصير ، ولا تعود إليه أبدا في حالة النوم الطويل .

ومنذئذ جعل مراد يتأمل هذه الفكرة وإن كان أمرها واضحا جليا . ذلك أن خاطرا همس به فجأة فملأ قلبه خوفا ورهبا : " وماذا لو تركتني الروح عند النوم فعاقها عائق عن العودة إلي ؟ " وعادت إليه للتو ذكرى مخاوف، بدأ ) مراد ( يعتقد أن روحه ، عندما واتته منيته ، قد عاقها عاتق فلم تعد إليه إلا وهو يدلي إلى مثواه الأخير ، إذ تمايل الصندوق الذي كان بحتويه في أيدي عمال المدافن تمايلا غريبا لم يعهدوه في صناديق الموتى من قبل فأعاد العمال الصندوق إلى الأرض ونزعوا غطاءه وحلوا أربطة المتوفى " فإذا به حي يرزق . وعاش المسكين بعد ذلك ثمانية عشر عاما متمتعا بوافر الصحة حتى واتته منيته للمرة الثانية ، فغاذر الدنيا والناس في شك من حقيقة موته هذه المرة .

وطفق مراد يدير في رأسه هذا السؤال " كيف أكون من البله والغفلة بحيث أضمن عودة روحي إلى جسدي كل صباح منذ أن تفارقه كل مساء ؟ ! كيف أكون

من البساطة والسذاجة بحيث أثق في روحي هذه الثقة العمياء فأترك لها جسدي تنصرف فيه كيفما يحلو لها فتخرج منه وتعود إليه وقتما تريد ؛ إن أي تأخير في عودة الروح إلى صاحبها قد تقوده حيا إلى القبر ومنذ انتهى إلى هذه النتيجة لا يذكر أنه نام حقا . فقد بدأ النوم يجفوه ، وبات يرهب الرقاد ويخافه ، وجعل همه أن يطرد من عينيه النعاس كما هم بالإغفاء . وطفق يتابع دقات الساعة وأنصافها وأرباعها ويتسمع إلى ال " تيك تاك " في تتابعها الرتيب خلال الليل الصامت الطويل . ويقوم مفزوعا إذا ما توقفت هذه الدقات لأن توقفها معناه نومه

وجعل المسكين يفكر في كيف يحتاط لخروج روحه من جسده ؛ كيف يغلفه عليها ويضطرها إليه وبصدها عن مبارحته في وقت النوم . وجاءته الفكرة : لم لا يضع جسده في صندوق محكم من الخشب ، لا  فالخشب مسامي قد تهرب منه الروح . أياخذ الحديد ، فلن تسمح مسامه الدقيقة جدا بمرور الروح ، أجل ؟ ليضع جسده كما أوي إلى فراشه في صندوق محكم من الحديد ، وبهذا يتحتم على الروح أن تلزم الجسد أو على الأقل أن تكون إلى جواره دائما لاصقة به ، فإذا كان الصباح وحل موعد نهوضه وجد روحه عند أطراف أصابعه ؛ وهو بهذا يضمن حضور روحه دائما : وقت طلبه " وهو " لا حسب مزاجها وهى

ولكنه كان يخشى إن أخبر أحدا بشيء مما يدور برأسه أن يعده مجنونا مخبولا فاقدا لقواه العقلية وكان لهذا في حيرة من كيفة تنفيذ فكرته التى ما كانت لتتم بغير علم من حوله من الناس والأهل وكانوا قد بدأوا يرقبونه في الأيام الأخيرة مراقبة قاسية ، إذ كانوا يلحظون ذهوله له وشرود عقله شرودا تاما وأرقه المحير المخيف . وكان يقول في نفسه إذ يراهم يلحظونه : ) أه لو أنهم يعلمون أن الحياة كلها حياتي ، تتوقف على هذه الروح . كيف أعثر أعني هذا الشئ الذي إذا خرج من جسم الإنسان ولم يعد في الوقت المناسب كان في عداد الأموات ، ولكن أنى لهم أن يفهموا وهم قوم لا يتأملون " .

وأنفق هذا الخائف من الموت أياما بطولها يتدبر مشروعه وهذا المشروع الذي أساسه دون شك أن يجعل

حياته أبدية ، حياة لا تموت ، إذ ما معنى الخوف من الموت ؟ أليس معناه حب البقاء ، البقاء إلى الأبد ؟ والإنسان حقا مهووس بفكرة إطالة عمر ، فكرة خلوده . وهو في هذا معذور ، لأنه يعرف هذه الحياة التى بنفسها فلا أما الحياة الأخرى فكيف يعرفها ويطمئن إليها وهو لم يها ؟ ! المجهول يوحى بالخوف منه عن المعروف ، فهل يلام هذا المذعور من الموت إذا أراد أن يحتاط لنفسه ضد خروج روحه من بدنه إلى الأبد ؟ وهل يلام إذا فكر في صنع قالب أو صندوق من الحديد ينام فيه ليله فيضمن بذلك نهوضه في الصباح وبداخلة روحه ، أو على الأقل قريبة منه في متناول يده ؛

وشرع  مراد ذات مساء يفكر في مشروعه تفكيرا جديا وهو أرق في فراشه : صندوق حجمه كذا كذا في كذا في كذا ، مع تهيئة مكان فارغ كاف للهواء الذي سيستنشقه أثناء الليل بعد إحكام الصندوق وإقفالة من الداخل بالمفتاح . . إن غرفته في ظلام دامس ولكنه يرى بوضوح صندوقه موضوعا في فراشه . ضمت مطبق عميق يرغم ضوت شهيقه وزفيره الذي يسمعه يتردد داخل جدران الصندوق ويصك صحة وهو قابع جوار الصندوق في خوف ورهبة ، كيف يسمع صوت شهيقه وزفيره الذي يتردد داخل الصندوق وهو قابع خارجه بينما هو قد أحكم على نفسه الغطاء من الداخل ؟ ! هذا الصندوق ، ما الذي يدور بداخله الآن ؟ هل نام مراد حقيقة بداخله ، وهل فارقت روحه جسده ؟ لتحاول أن تفارق الروح الجسد ، فسوف لا تجد لها منقذا إلى خارج الصندوق ؛ إنه ليتساءل : لماذا تبغي روحه الهروب من جسده ؛ إنها لتنتهز الفرصة لتهجره . ولكن ماذا صنع لروحه ، أو ماذا صنع جسده بروحه حتى تضيق بحيزه هذا الضيق ؟ ماذا صنع لها حتى ذكرهه هذه الكراهية ! فهو لا يحرمها ملذات الحياة كل الحرمان ، بل يطلق لها العنان أحيانا فيجعلها تفكر ما وسعها التفكير وتنطلق ما شاءت الانطلاق ، إن حياته ليست حياة الجسد فقط بحيث يغضب الروح ، وليست حياته حياة الروح فقط بحيث يغضب الجسد ، ولكنه يمزج هذا بتلك ليجعل من هذا المزيج ما يسمي بالإنسان ، إنه إنسان ، إنه مزيج من الروح والجسد ، فهل

في هذا ما يغضب روحه ؟ ماذا تريد أكثر من ذلك ؟ إنها لا تحب الأزدواج ، ولكنها تحب الاستفراد . إنها تحب الاستفراد بكيانها . وهل للروح كيان ؟ هل يمكن رؤية الروح كشئ يمكن رؤيته ، ولمسها كشئ يمكن لمسه ؟ إن الإنسان ليموت فلا يرى منه إلا كتلة من اللحم والعظام : رمة ، أين إذا هذه الروح التي كانت تزدوج به والتي ، مع اللحم والعظام ، تكون الانسان ؟ ! هناك روح ، طبعا . ولكن لأجل أن تتمتع الروح بجانبها مستفردة يجب أن يكون لها كيان مرئي محسوس . فلولا أصابعه : من لحم وعظام ، ما لمس الأشياء ؛ ولولا أنفه : من لحم وعظام ، ما ميز بين روائح الأشياء . . وهكذا الحال مع اللسان والعين والأذن . يموت الإنسان نبموت كل هذه الكتلة من اللحم والعظام التي كانت تكون حواسه ، فكيف تعيش الروح إذا بعد انفصالها من الجسد الذي كان يحتويها وقد سلبها الموت هذه الأعضاء ؟ ! ومراد يعتقد أن " حياة ما " بدون حواس حياة خاوية . أنظر إلى إنسان ولد بدون حواس إطلاقا ، ماذا تكون حياته غير كتلة من اللحم والعظام ملقاه في مكان ما ! . ولكن ماذا يسمع مراد وماذا يرى ؟ إنه ليدير عينه حوله فلا يرى غير الصندوق الذي يحتويه فإنه لا يعيش إلا ليرى هذا الصندوق . كل حياته وكل اهتمامه مركزة في هذا الصندوق . فإنه لم بعد يرى في غرفته غير هذا الصندوق اختفي صوان الملابس واختفى مكتبه وفراشه وأرض غرفته ؛ لم يبق غير الصندوق الذي ظل معلقا حيث تركه على فراشه . وماذا يرى أيضا ؟ لم يعد يرى لغرفته حيطانا ؛ لم يعد يرى للمكان حدودا . إنما هو الفضاء الذي يبتلع كل شئ فضاء رمادي مزرق . ليس هناك زمان وليس هناك مكان . ليس هناك غير هذا الصندوق الذي يحتويه وهو في نفس الوقت قابع خارج الصندوق برى تطور الأحداث حوله في خوف . من هو وأين يكون ؟ الإنسان يتأمل مشكلة نفسه في ذعر ورهبة . إنه يتأمل مشكلة نفسه في الفضاء : فوقه فضاء وتحته فضاء ويمينه وشماله وأمامه وخلفه كل شئ حوله فضاء وأمامه صندوق محكم الإقفال هو كل أمله في الحياة . تري ما الذي يجري في الداخل ؟ إنه ليتصور روحه تبحث لها عن منفذ

تخرج منه إلى الفضاء . ماذا يرى ؟ ما هذه النقطة البيضاء الناصعة التي بدأت تقع في جانب الصندوق ؛ لقد خرجت هذه النقطة البيضاء إلى الفضاء وجعلت تنتفخ وتنتفخ ويتكون لها رأس وأطراف وجسم . ولقد أصبح هذا الشئ يشبه الإنسان ، يشبهه ، ولكن الفرق بين هذا الشئ وبينه أنه كإنسان من لحم وعظام له حجم بينما هذا الشئ " مساحة " تماما كهذا " الشخص " الذي يقصه الأطفال من الورق ؛ رأس مستدير مركب على جسم مستطيل له ساعدان مستقيمان يمتدان أفقيا وساقان مستقيمتان ممتدتان رأسيا . انتصب هذا الشكل العجيب أمام الصندوق وأدار نحوه رأسه وأطاق ضحكا طويلة جلجل لها الفضاء وارتجفت منها أوصال مراد ، وسمعه الأخير يقول : " مسكين ! يود ان يسجنني ! ها ها ها " . ويلوح انه لم يكن يرى مراد ، فقد أدار هذا " الشخص " العجيب رأسه لا كما يديرها الإنسان نصف دائرة من اليمين إل الشمال أو بالعكس ، ولكن أدارها دورات كاملة مرة واثنين وثلاث مرات ، ولما لم يسترع انتباهه انطلق يجري في الفضاء على أطرافه في سرعة . وبدلا من أن تصغر مساحته بنسبة ابتعاده عن مراد والصندوق كان يزداد مساحة ، حتى ملأ الفضاء ، وخف وشف وامتزج به وضاع فيه . عندئذ فزع مراد في حيث كان يقبع وتلفت فما حوله : إنه لا يرى غير الصندوق الذي ظن أنه يستطيع به سجن روحه . أين ذهبت روحه ؟ وهل هي حقا على هذا الشكل العجيب المساحي ، هذا الشكل الذي يقصه الأطفال من الورق في طريقة ساذجة بدائية ! لم يفكر مراد طويلا في هذا الأمر ، فقد لمح روحه عائدة تلهث . وما زالت تقترب منه وتضمر مساحتها حتى إذا عادت إلى مساحتها الطبيعية ، أى إلى هذه المساحة كما لو كان الجسم يحتويها فعلا ، وكانت قد اقتربت من الصندوق ، اعتلته ، وللتو انتشر في الفضاء صوت بيانو عازفه الكونشرتو الثانية لرخمانتينوف. عندئذ هبطت روحه عن موقفها وجلست على الصندوق وتركت ساقها تتأرجحان في الفضاء ، بينما اعتمدت رأسها براحتي يديها . كانت سابحة في التفكير . ترى ما الذي كانت تفكر فيه ! ولكنها هزت رأسها فجأة وصاحت ضاحكة : " ها ها يظن صاحبي أنه يعيش ؛ إنه في

حلم لن يفيق منه إلا بالموت " قلب مراد ينقبض من موسيقى رخمانتينوف؛ ويصيح مراد وهو يشد شعره : هذا هو العته بعينه ! هل من المعقول أن يكون حلما كل ما يحدث قبل الموت ، وحقيقة كل ما يحدث بعده ؟ وسمع مراد أصواتا خافتة تهامس من حوله . فتلفت يستطلع الخبر ، فإذا يرهط كبير من الأشباح شبية بروحه تقترب من روحه التى كانت ما زالت غارقة في تفكير عميق . وسمع واحدة من هذا الرهط تتوجه إلى روحه قائلة : " هات لنا ما عندك من أخبار صاحبك هذا اليوم ، فرفعت روح مراد رأسها من راحة يدها :

لقد زهدت في عشرته وكم أحب أن أهجره إلى الأبد . . عندئذ انتفض مراد وصاح : إياك أن تفعليها يا مجنونة . إياك أن تفعليها

ولكن يلوح أن صوته لم يصل إلى أسماعهن فقد كن ماضيات في النقاش :

- ماذا ترين لو تخلينا جميعا عن أجسادنا وعشنا هكذا أحرارا ؟

- لا أحب عندي من هذا . فكم يعذبني صاحبي العذاب كله . إن لا ينام اكثر من أربع ساعات في اليوم ، بتوقيتهم الأرضي ، إذ لا أعرف كم يكون هذا بالنسبة إلى الأبدية التي نمرح فيها الآن ؛ إنه طالب سياسي على أبواب الامتحان

- أما صاحبي فقد أراد أن يسجنني سجنا ليليا فصنع صندوقا أغلقه على نفسه ليمنعنى من الخروج إلى الفضاء عند ما ينام .

- وكيف خرجت من الصندوق إذا ؟ ! - من ثقب المفتاح .

وقهقهت الأرواح ساخرة ، أما مراد فقد تذكر أنه نسي أمر هذا الثقب . .

رخمانتينوف يعزف كونشرته الحزينة والأرواح تهزأ وتسخر من سجانيها ، وهو قابع في الفضاء يرى  ويسمع ويعجب . وأحس مراد بديبب خافت ولكنه ثقيل . شبكة هائلة سوداء تظهر في الفضاء الرمادي المزرق تشبه خيوط العنكبوت مازالت تتضح وتقترب حتى تشملهم جميعا : مراد والأرواح جميعا والصندوق . عندئذ تدرك

الأرواح مصيرها المحتوم فتطلق صرخات مدوية في الفضاء بينما تزداد الموسيقى عنفا وتزداد ضربات قلب مراد اضطرابا ، ويظهر فجأة عنكبوت ضخم هائل في وسط شبكه المخيفة ، وكان رأسه جمجمة إنسان . تسمر على شبكته وثبت محجريه على الأرواح المذعورة . تقدم العنكبوت خطوة ، فانكشت الأرواح يحمي بعضها بعضا كما انكمش مراد فى نفسه . لم  يعد يحس حوله بشيء إلا بدبيب العنكبوت الفظيع على صدره وخمانينوف لا يهدأ . هذا العنكبوت الهائل يزحف على أنسجته متجها نحو روح مراد وصاحباتها من الأرواح الأخرى . إنها تقفز من مجلسها في خوف وهلع ، وتنكمش في نفسها حتى تعود كما كانت في البدء نقطة صغيرة بيضاء لامعة . صدره لا يتحرك ؛ إنه يريد التنفس فلا يستطيعه ؛ يريد الصباح فلا يتمكن منه . الأرواح الأخرى لا تدري ماذا تصنع ، وهى حيرى لا تدري كيف تذود عن نفسها ، وقد حوصرت هذا الحصار الضيق القائل . دبيب العكبوت . من لمراد بإزاحته عن صدره ! إنه يود أن يصيح يصيح . روحه تدخل مذعورة من ثقب مفتاح الصندوق مخلفة الأرواح الأخرى لقمة سائغة لهذا العنكبوت الجبار .

صدره . صدره ، هذا العكبوت الثقيل الجائم عليه . أ .. أ .. أ

صيحة واحدة طويلة أطلقها مراد فزع على أثرها من فراشه ليعرف أن كل الذي حدث كان كابوسا .

- ماذا هناك يا ولدي ؟ لماذا تصرخ هكذا ؟  قالتها أمه وهي تهرع إليه من غرقتها . - لا شئ . لا شئ .

قالها مراد وهو يغالب دمعه . وأجهش بالبكاء . - ماذا دهالك ! ما الأمر ؟ - وما فائدة ذلك يا أمي ؟ لن تفهميني . - إني أسمعك على أي حال . لقد رأيت روحي منذ لحظات . . - رأيت

- أجل رأيتها كنت أحلم . رأيتها تهرب مني تهرب من الصندوق . .

- أي صندوق يا ولدي ؟ .

وشرح لها مراد هواجسه ومخاوفه ومشروع عمل الصندوق ونومه وهو يفكر في هذا المشروع وقصة الكابوس كاملة . عندئذ حملقت فيه أمه .

- لا تنظري إلي هذه النظرات ، إني سليم العقل . أؤكد أني سليم العقل ، متمالك لكل قواي العقلية ، كل الذي بي هو أني أخاف الموت ، إني لا أحب أن أموت . إني لا أرى ما يدعو إلى أن أموت .

إنك مازلت على عتية الشباب يا بني  ، فما الذي يدعوك إلى التفكير في الموت منذ الآن ؟ ! أنا التي يجب أن الفكر في الموت لا أنت . ومع كل فالموت هو آخر ما أفكر فيه الآن وقد أشرفت على الخمسين .

- إني خائف ! إني خائف . لازلت أرى العنكبوت الفظيع . إنه ينتظرني . إنه يترقب نومي من لحظة إلى أخرى . إني أحس أني سأموت اليوم .

وأجهش بالبكاء للمرة الثانية . فاحتضنته أمه وجعلت تسليه عن الموت ما أمكنها ذلك حتى إذا كف عن البكاء وانتظبت أغاسه وغلبه النوم دثرته وتركته بعد أن اطمانت إلى أنه قد نام تماما

ولكنها ظلت أرقة تفكر في ولدها . ومن ساعة لأخرى كانت تأتي على أطراف أصابعها حيث فراشه فنتظر إليه حتى إذا اطمأنت إلى أنه نائم عادت إلى فراشها ، عادته ثلاث مرات في هذا الليل الطويل . وما أشرق الصباح حتى جاءت الأم على أطراف أصابعها إلى غرفة ابنها . ووقفت عند باب غرفته . كان نور الصباح يتسرب من شيش النافذة فيغمر الغرفة في بحر رقيق من النور الباهت . كان ولدها متدثرا في وضعه حيث تركته ليلة الأمس . اشرايت بعنقها إليه : لم يكن يتحرك : لم يكن صدره يعلو ويهبط : لم يكن يتنفس . عندئذ ندت عن الأم شهقة هائلة وحملقت في ابنها النائم وضربت صدرها بقبضة يدها وتسمرت قدماها وقد مرت برأسها فكرة مخيفة . لم تدر أتتقدم من ولدها ! لقد

خانتها قدماها ولم يسعفها صدرها بغير صيحات مخنوقة لم تكن تتجاوز حلقها . كل ما كانت تفعله وهى ذاهلة هو أن تحملق في ولدها في مرقده وأن تضرب صدرها بقبضة يدها ، كانت تامة الذهول . ولكنها تمكنت أخيرا أن تنتزع قدمها بعد جهد وتتقدم من ابنها . ومدت يدها إلى دثاره ترفعه عن وجهه : كانت عيناء مفتوحتين على اتساعهما في حملقة ورعب كما لو أن صاحبهما كان مذعورا من شئ .

- ولدي . . ولدي . . ولدي . .  صيحات مدوية أطلقتها الأم . كان مراد جثة هامدة ، فارقته الروح .

اشترك في نشرتنا البريدية