لسنا نشك فى أن الشرق العربي يجتاز اليوم عصرا ذهبيا زاهرا لا يكاد يدنو من غباره كل ما سلف من عصور، وكأني بالحياة قد دبت فى أعضائه المتزايلة، فأخذت تنهض وتسعى إلى النشاط والحركة، بعد رقدة طال أمدها، حتى حسبناها ضجعة الموت والفناء، وها هو ذا ينهض ويستقيم على قدمين راسختين، يشاطر أوربا فى الحركة الفكرية ويبادلها إلى حد ما إنتاجا بإنتاج. وما زالت تزداد حركة التأليف فى كل يوم قوة وسعة وانتشارا بعد أن كنا إلى عهد قريب لا نصادف فى المكتبة العربية ما يشبع للباحث حاجة أو يسد له رمقا - كائنا ما كان موضوع البحث - وكنا نقابل ذلك العقم والأجداب بالأسى والأسف، فليس يسيرا على النفس الفنية الأبية أن تظل متكئة على عكازة الغرب فى كل ما تطرق من بحوث، حتى ما يمس منها حياتنا فى اللب والصميم.
وأنا نسوق اليوم لهذه النهضة التأليفية مثلا جديدا هذا الكتاب الجديد: قلب جزيرة العرب الذى دبجته يراعة قديرة ونسقه فكر قدير.
ولقد كان أول ما اختلج فى نفسي من خواطر، حينما تناولت يدي هذا الكتاب، دهشة عميقة، فيها كثير من السخرية بالماضي، وفيها كثير من الأمل فى المستقبل، فقد تساءلت: أفهذا أول كتاب حديث يكتب عن جزيرة العرب وهي تلك الديار التى تنزل منزلا ساميا من العقول والقلوب جميعا، والتي تضطرب لها كل نفس بأدق المشاعر وأجمل الذكريات؟! عجيب لعمري أن يظل هذا النقص دون أن ينهض من الكتاب من يسد ثغرته، وإذن فقد ملأ هذا الكتاب الذى نحن بصدده فراغا شاسعا وأكمل نقصا معيبا شعر به المؤلف الفاضل الأستاذ فؤاد حمزة، وشعرنا به جميعا، فقد حمله على وضع كتابه هذا شعوره (بنقص خزانتنا العربية وافتقارها إلى مؤلف جامع لأحدث المعلومات الجغرافية والطبيعية والاجتماعية عن البلاد العربية، وحاجة الجمهور إلى مرجع حديث، سهل التناول، يجمع ما تفرق من المعلومات العامة فى الكتب العربية القديمة، وكتب المستشرقين والرواد الأوروبيين مما لا وجود له فى اللغة العربية. والحقيقة أن جميع الذين يعنون بالشئون العربية ويتبعون
تاريخ التطورات الحديثة والنهضات الوطنية فى بلاد العرب، يشعرون بهذه الحاجة، ويدركون الصعوبات الجمة فى التنقيب فى بطون الكتب العديدة، عن معلومات مبعثرة هنا وهنالك فى طيات الصحف القديمة أو ثنايا التفاصيل المملة التى يسردها الرواد فى سياق رحلاتهم)
قرأت هذا السفر الجليل، فألفيته صورة قوية رائعة للبلاد التى كتب من أجلها، وهو يقوم على أثاث متين من الأسلوب العلمي الصحيح، يبدأ البحث بالبيئة الجغرافية فيتناول أطرافها جميعاً بالدراسة والتحليل، ويصف لك فى أطناب سطح البلاد العربية ومناخها، فى أسلوب لا يصدمك فيه جفاف الحقائق العلمية، بل يخيل إليك وأنت تتلو هذه الصفحات أنك تستمع لرجل يحدثك حديثاً عذباً عن بلاد جاس خلالها وارتحل بين أرجائها، وأن كنا نأخذ على المؤلف فى هذا القسم الجغرافي بعض الهنات الهينات، التى ما كنا لنذكرها لولا رغبتنا الصادقة فى أن يبلغ هذا المؤلف حد الكمال، ومن أمثلة ذلك أنه يعلل جفاف الإقليم بانخفاض السطح (وعدم وجود الجبال العالية التى تمسك الأبخرة وتحتفظ بها لتتبرد وتنهمل مطراً إلا فى الجهات الغربية منها) والواقع أن جفاف شبه الجزيرة يرجع إلى وقوعها فى مهب الرياح التجارية التى تفد من الشمال الشرقي جافة لا تنزل المطر. هذا وقد جعل المؤلف عنوان الفصل السابع من هذا القسم (الحرارة والمناخ) كأن الحرارة ليست جزءاً من المناخ! وقد جاء فى صفحة 60 هذه العبارة (رياح المونسون) وقد كان أجدى أن تذكر بما عرفت به فى الكتب العربية وهو الرياح الموسمية
ثم ينتقل بك إلى القسم الثاني من الكتاب وهو تصوير دقيق لحياة السكان فى تلك البلاد، فيقص عليك دقائق المعيشة اليومية: ماذا يأكل القوم وماذا يشربون ويلبسون، وكيف يتزين النساء منهم والرجال. كيف يقيمون المآتم والأفراح، كيف يتعهدون أطفالهم بالتربية فى الحواضر ويطلقونهم إطلاقاً فى البادية، وفي أي المنازل يسكنون؟ هذا فضلاً عن تصويره للغة العربية فى حالتها الراهنة، ويقدم لك نموذجاً مما ينطق به أدباء اليوم من شعر ونثر، إلى آخر تلك الحقائق التى أكسبت البحث شيئاً من الحياة النابضة.
فإذا ما انتقلت إلى القسم الثالث وجدت نبتاً مفيداً فى القبائل
العربية وأنسابها، ولعله أشد فصول الكتاب جفافاً على غير سكان الجزيرة من القراء. أما القسم الرابع فهو عرض قوي موجز لتاريخ البلاد منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا، وهو أطول الفصول وأكثرها فائدة ولذة.
هذه الثروة الزاخرة يحويها كتاب (قلب جزيرة العرب) وفوق هذا فهو متقن الطبع، جيد الورق، جميل التنسيق.
ز.ن.م

