الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 39الرجوع إلى "الرسالة"

كتاب النثر الفنى فى القرن الرابع، تأليف الدكتور زكى مبارك

Share

إن كان أخى (المازنى) قد استطاع بلباقته أن يكتب عن هذا  الكتاب مقدمة بلا موضوع، فلا حاول فى مقالى هذا - لموازنة -  أن اكتب عنه موضوعا بلا مقدمة، وان هو وقف الكلام عند  محاولته أن يأخذ الكتاب من المجلد، فلأصل ما قطع واكتب من  حين تسلمت الكتب من المجلد

أول ما يطالعك من الكتاب شكله وحجمه، فيعجبك شكله،  ويبهرك حجمه، وما ظنك بكتاب طبع فى دار الكتب على ورق  جميل فى جزأين يقعان فى نحو ثمانمائة صفحة من القطع الكبير؟ ثم المقدمة، وفى الحق أنها لم تعجبنى كثيرا، فقد تحدث المؤلف  فيها عن نفسه طويلا (فالكتاب أول كتاب من نوعه) (والكتاب  أول منارة أقيمت لهداية السارين فى غيابات لك العهد السحيق) (والمؤلف أول من كشف النقاب عن نشأة النثر الفنى فى اللغة  العربية وقهر المستشرقين ومن لف لفهم) وهكذا يمضى المؤلف  فى تعداد أولياته وهى طريقة لا أستحسنها ولا أستسيغها، وأظن  أن كثيرا من القراء لا يستحسنونها كذلك ولا يستسيغونها، فخير للمؤلف أن يتوارى وراء ما كتب، ويدع الناس يحكمون له أو عليه  لا أن يتقدم هو بالحكم لنفسه، ويقطع الطريق على القراء والنقاد، ويعجبنى فى ذلك ما نقله المؤلف عن نفسه فى ثنايا الكتاب عن أبى هلال قال (ومن صفات الشعر التى يختص بها دون غيره أن الإنسان  إذا أراد مديح نفسه فأنشأ رسالة فى ذلك أو عمل خطبة فيه جاء فى  غاية القباحة، وان عمل فى ذلك أبياتا من الشعر احتمل) نعم إن المؤلف لم يرتض هذا الرأى، وأباح ذلك إذا جرى مجرى الدفاع والمفاخرة،

ولكن الكتاب ليس موضوع دفاع ولا مفاخرة، وإنما هو موضوع تقرير لحقائق يراها ويعرضها على القراء، ثم قد يخالفونه فيها وقد يوافقون،  وقد يقدرونها تقديرا عاليا وقد لا يقدرونها. وعلى كل حال فلهم القول الفصل لا للمؤلف، فمن المؤلفين من لم يعجبهما ألف ولم يرقه ما كتب، وإنما كتب الخلود لما قدره الناس لا ما قدره المؤلف - شعر المؤلف  بذلك وأراد أن يعتذر عنه (بأنها ثورة نفسية، انطقه بها ما رآه فى  زمانه من غدر وعقوق) ولكن هل هذا القول يداوى الجرح  ويبرئ المرض؟ أخشى أن يحمل الناس على الإلحاح فى العقوق  والإمعان فى الغدر، لان النفس مولعة أبدا بكراهية الحديث عن  النفس، ومن طبيعتها أن يحملها إمعان المادح فى مدح نفسه على  إمعانها فى التنكر له وجحد فضله، بل أخشى أن يكون هذا بعينه  هو السبب فى الغدر والعقوق، فقد اعتادت النفوس أن تقابل  الإفراط بالإفراط والغلو بالغلو.

إن يكن المؤلف قد خانه التوفيق فى المقدمة فقد صحبه إلى درجة  كبيرة فى الكتاب، فهو نتيجة مجهود صادق وبحث طويل شاق،  أتى فيه بالمقدمة فى الموازنة بين الشعر والنثر، ثم تطور النثر من  عصر النبوة إلى القرن الرابع، وتكلم فى نشأة النثر الفنى، والسجع واطواره،  وخصائص النثر فى ذلك العصر وانواعه، ثم اشتهر الكتاب فى كل  نوع ونماذج من كتابتهم، وتحليل لآثارهم.

وطريقة بحثه فى كل ما بحث سليمة، جارية على الأسلوب الحديث فى  العرض والنقد واستقصاء ما فى الوسع فى الرجوع إلى المصادر ومقارنة  بعضها ببعض، والشجاعة فى إبداء الرأي، والقارئ قد يخالفه فى بعض  ما قالوا يرى رأيا غير ما ذهب إليه، ولكنه على كل حال يقدر ما  بذل المؤلف فى تكوين رأيه وتأليف حججه. ثم هو قد وفق إلى آراء جديدة له الفضل فى استكشافها ولفت النظر إليها، وآراء  صقلها وعرضها فى حلة جديدة. وإنى إن احترمت الكتاب من  الناحية العلمية والعقلية، فإنى ناقده من جهة الذوق، وذلك أن  الدكتور زكى مبارك كلما رايته أو استحضرت صورته، أشع على معنى غريبا يصعب تصويره، وربما كان اقرب تصوير له رجل

يمسك بيسراه كتابا قيما فيه علم غزير، وأدب وفير، وبيده اليمنى عصا اشهرها، ثم هو يطلع الناس على ما فى كتابه من طرف فمن هم أن  يفتح فاه بنقد أو مخالفة قنعه بما فى يمناه، بل قد يؤمن من الناظر بما  يعرض عليه، فلا يعجبه الاستسلام وهذا الإيمان فلا يزال يهيجه  حتى يبدأ بالمخالفة أو يظن انه سيبدأ بالمخالفة فيشهر عليه العصا، بل قد يكون السالك على علم بذلك فيتنحى عن كتابه وعن عصاه ويتنحى ناحية أخرى فيسرع الدكتور ليسد عليه المسلك ويأبى أن يفسح له الطريق حتى ينظر فى الكتاب، فإذا نظر فالنتيجة محتمة، وإذا لم ينظر فالنتيجة هى هى ايضا، وهى العصا

هذا ما كان يشعه على الدكتور زكى، فلما قرأت كتابه النثر الفنى تأكد هذا المعنى وتجسم، وما ادري أقرأت الكتاب بهذه العين التى  تكونت، أو قرأته محايدا وقراءته زادت هذا المعنى وضوحا. تجلى هذا المعنى فى انه يعرض آراء قيمة وأفكارا عنى بدرسها  ثم إذا به يطفر فيحتك بمؤلف أو كاتب فلا ينقده نقد عالم لعالم  ولكن نقد مصارع لعالم. إن شئت فأنظر إليه وهو يعرض لرأى  الأستاذ مرسيه - أستاذه وشيخ المستشرقين فى فرنسا - إذ يقول  (وهناك رأي مثقل باوزار الخطأ والضلال وهو رأى المسيو مرسيه  ومن شايعه) ثم تقرأ رأى الأستاذ مرسيه ومن شايعه، فإذا هو رأى  جدير بالاحترام باعث على التفكير، صالح لحسن التقدير، وهبه كان  رأيا سخيفا وفكرا تافها، وقولا لا يؤبه له، فليست هذه لغة العلماء  فى النقد، ولا طريقتهم فى الرد.

نعم قد يكون نقدهم فى بعض الأحيان لاذعا، ولكنه - على كل  حال - يصاغ بلباقة، وقد جرى المؤلف على هذا السنن مع الأستاذ  مرسيه وغيره مما لا شأن لنا بتفصيله، ومما يزيد الأمر عجبا انه شديد  قاس فى بعض النقد - كما رأيت - ولطيف لبق فى البعض الآخر،  ولا ندرى من الناحية العلمية لم كان لطيفا لبقا هنا، وقاسيا  صارما هناك، فقد قلبنا الأمر على وجوهه فلم نجد ذلك يرجع إلى قوة  رأي مخالف وضعفه، ولا قوة الحجة وضعفها، إلا أن يكون لشىء  غير الرأى وغير العلم وهذا ما لا أدريه.

كذلك آخذ عليه أشياء لم تتفق والذوق قرأتها فضربت أذنى  وانقبض خاطرى. مثال ذلك ما جاء فى صفحة ٩ و ١٣ وذيل  ص ٦٠ و ٦١ وذيل ٦٥ الخ

ثم هندسة الكتاب لم تخل من نقد ولم يشع فيه التناسق، فحجرة  صغيرة وحجرة كبيرة، بل وحجرة لم تكن كان يجب ان تكون،  وباب كبير وباب صغير، وقد يكون هذا معقولا إذا دعاه الحال

واقتضاه المقام، ولكن لم يكن كذلك فى هذا الموقف، فقد تحدث  مثلا عن المقامات ونشأتها فأفاض وانفق عن سعة، ولم يحدثنا كثيرا  عن رسائل إخوان الصفا ونشأتها. قد يتبادر إلى الذهن انه عنى بالمقامات  لأنها الصق بالأدب، ولم يعن برسالة إخوان الصفا لأنها ادخل فى  الفلسفة والعلم، ولكنه فى الكتاب تعرض للأسلوب العلمى كما نعرض للأسلوب الأدبى. على أن فى رسائل إخوان الصفا نواحي أدبية عديدة  اقر بها المؤلف فأقتبس منها رسالة الإنسان والحيوان، وقد اعتذر عن  ذلك بأن الباحثين أطالوا فيها القول قديما وحديثا، وهو عذر لا نوافقه  عليه بحال، فمجال القول فى إخوان الصفا ذو سعة. وإلى الآن لم تبحث  الرسائل بحثا وافيا، ولم يقل فيها ما يشفى النفس ويثلج الصدر.

وفيما عدا ذلك فالكتاب قيم، يقف القارئ على أشياء كانت  دفينة، وآراء نظمت كانت شتيتة، ويلفت نظر الشباب إلى جمال فى  الأدب العربى كان قد عفى عليه الزمان، ويعبر عن ذلك كله بلغة  العصر فيقربه من نفوسهم، ويحببه إلى أذواقهم، ويفتح أبوابا  لبحث العلماء وتفكيرهم فله على ذلك الشكر.

اشترك في نشرتنا البريدية