الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 93الرجوع إلى "الرسالة"

كتاب حياة محمد

Share

حل العام الهجري الجديد، ونرجو أن يكون حلوله مباركاً على  العالم أجمع، وأن يشمل العالم من نعمة دين الهجرة في العام الجديد  أكثر مما ناله في العام المنصرم. إذا تطلب الإنسان مثلاً على  في الحياة تطلع إلى دين محمد، وإذا تطلب الطمأنينة لجأ إلى كنف  دين محمد، وإذا اشتدت به الحياة المادية جنح إلى روحانية دين  محمد، فأي شيء أشهى إلى النفس من أن تقرأ شيئا عن محمد في  مستهل العام الهجري الجديد؟

هكذا قد قرأت كتاب الأستاذ المفضل الدكتور محمد حسين  هيكل   (حياة محمد)  عند ميلاد هلال العام الجديد، فكانت  بشرى، وكانت مسرة، وكانت عظة. والدكتور هيكل شاعر  النفس، وإن لم يقل الشعر. لم يكن لي عهد بقراءة شعر له، حتى  أعرف فيه هذه الصفة. غير أني قرأت له الكتاب، فإذا به في  بعض نواحيه شعر يملأ النفس ويثير أشجانها. ولئن كانت كتب  السيرة كثيرة، فإن كتاب الدكتور هيكل له ميزة على سائر السير  بأنه قد انعكست فيه مشاعر الكاتب وخلجات نفس الإنسان،  فإذا قرأه القارئ وجده يصور صورة حية تامة ناطقة في ثنايا  ذكر الحوادث ووصف الحالات.

يبلغ الكاتب زيارة الرسول مع أمه آمنة. ثم عودتها  منها وموتها في الطريق، فلم يشأ أن يذكر تلك الحادثة وحدها،  بل لها صورة ظاهرة الألوان، حية تفيض عطفا وقوة  فيقول:   (فلما كانوا بالمدينة أرت الغلام البيت الذي مات أبوه  فيه، والمكان الذي دفن به، فكان ذلك أول معنى لليتيم انطبع  في نفس الصبي، ولعل أمه حدثته طويلا عن هذا الأب المحبوب  الذي غادرها بعد مقامه معها أياما معدودة ليجيئه بين أخواله أجله.

ولما تم مكثهم بيثرب شهراً اعتزمت آمنة العودة، فركبت  وركب من معها بعيريهما اللذين حملاهما إلى مكة، فلما كانوا في  منتصف الطريق مرضت آمنة بالأبواء وماتت ودفنت بها، وعادت  أم أيمن بالطفل إلى مكة منتحباً وحيداً يشعر بيتم ضاعفه عليه القدر  فيزداد وحدة وألما. لقد كان منذ أيام يسمع من أمه أنات الألم

لفقد أبيه وهو جنين ما يزال، وهاهو ذاقد رأى بعينيه أمه  تذهب كما يذهب أبوه، وتدع جسمه الصغير يحمل هم اليتم كاملاً)

ولو شئنا أن نضاعف ضرب الأمثلة لضاق مجال الكلمة  عن إيرادها، فالحق أن الكاتب قد أبرز في الكتاب عاطفة  تكسو ما بين سطور السنين، وتحي جسد الحوادث إحياء

ولقد وفق الكاتب في معالجة السيرة مراعاة التناسب بين  أجزائها، فكان يطيل الوقفة عندما يجمل به الوقوف عنده،  وكان يمر سريعاً عندما يجمل الإسراع في ذكر الحادثة. ونذكر  على سبيل التمثيل وقفتين له أحسن في التريث عندهما ،حتى يجلو عنهما ما قد أدخل أهل الحقد عليهما من الدلس: أعني مسألة إسماعيل  ونسبة العرب إليه، ومسألة الغرانيق العلا. فأنه في الوقفة الأولى  كشف عن تلك البدعة المضلة التي يقصد بها إلى التشكيك  في أمر يكاد يكون من العقائد، فأبان عن الوهن في حجة  المشككين إبانة لا تدع مجالاً للريب؛ وفي الوقفة الثانية عرض  لحجج الخائضين فانتظمها جميعا في طعنة قاضية. ولست  أستطيع أن أذكر شيئا من تلك الحجة، فإن المجال هنا لا يتسع  لها ولا يصلح إيراد قطعة من حجة لا تكون مجزئة.

على أن وقفاته التي من هذا القبيل كثيرة، بل هي تتخلل  الكتاب في كل الفصول وفي كل وجوه البحث.

غير أننا مع إعجابنا بالكتاب وأسلوبه، ونقده وطريقته،  لا يسعنا إلا أن ننكر منه أشياء إلا تكن في صميمه فهي في  حواشيه، نعني بذلك أولا عنايته بقول من قال السوء من أعداء  الإسلام، فقد أورد من أقوال بعض الأفاكين من أهل الضلال  والتضليل ما يجرح الأذن سماعه، على حين لم يكن ذكره في  صميم الموضوع ولا في عرض الحجة. فأي شيء يجديه علينا  ذكر سباب شنيع للرسول الكريم ورد على ألسنة بعض أهل  الحقد والزيغ؟ ولقد قيل شيء من أمثال ذلك في أيام  الجاهلية، فتعفف أهل السير عن إيراده، وخيراً ما فعلوه، فإن  المؤمن إنما يتعرض لحجة خصمه، لا لسبابه ولا لفحشه، وما كان  أغنانا أن نُسمع الناس بعض ما نز من قلوب هؤلاء الأنجاس.

وأمر آخر نذكره عرضاً وننبه إليه الأستاذ الكبير، وهو  بعض ما سها فيه عند ذكر السنين، ولعل ذلك كان خطأ في  الطبع أو المراجعة، وذلك مثل قوله في حوادث اليمن؛ وما كان  فيها من الحرب في أيام جوستنيان أنها وقعت في القرن الخامس

الميلادي والمقصود هو القرن السادس، لأن حكم جستنيان يقع  فيما بين سنتي ٥٢٧، ٥٦٥ بعد الميلاد؛ وكذلك قوله بعد ذلك إن  هذا النزاع الذي كانت اليمن مسرحه منذ القرن الرابع المسيحي،  كما ننبهه إلى قوله عند ذكر الأوس والخزرج إن الخزرج كانت  على وشك أن تختار أحد زعمائها ملكاً وهو   (عبد الله بن محمد) ،  يقصد به عبد الله بن أُبي.

ومن هذا القبيل قوله في فارس قبيل الإسلام   (على أن  فارس رغم انصراف شيرويه إلى مسراته كانت ما تزال في قمة  مجدها) . والحق لقد كانت إنما تتعلل بماض مجدها، على حين  كانت نهب الفتن ومعترك الأطماع وميدان الخطط الحربية التي  تدبرها جارتها الدولة الرومانية.

ولا يفوتنا أن ننبه إلى شيء من التجوز في سياق القول قد  يؤدي إلى شيء من سوء الفهم، نعني ما جاء في وصف شباب  الرسول وما مالت نفسه من لهو الشباب، فقد أورد المؤلف  الخبر عن الرسول إذا كان صبياً تحدثه نفسه أن يلهو كما يلهو  الشباب، فأفضى إلى زميله ذات مساء أنه يود أن يهبط إلى مكة  يلهو ويعبث عبث الشباب في جنح الليل، وطلب لذلك إليه  أن يقوم على حراسة أغنامه إلى آخر ما قال:

وذكر القصة على هذا النحو مخالف لما هو وارد في السير،  لأنه قد يلقي في ذهن القارئ الخالي الذهن أن الرسول المعصوم  قد كان في نفسه في شبابه ذلك الميل المضطرم إلى العبث واللهو.  فليس في الأمر أكثر من أن الرسول عليه الصلاة والسلام طلب  إلى زميله أن يحرس غنمه حتى ينزل إلى مكة ليسمر فيها كما  يسمر الفتيان، فلما بلغ أعلى مكة سمع صوت غناء ومزامير،  فسأل عنها فقيل له عرس فلان وفلانة، فعرج على العرس يلتمس  السمر، ولكنه لم ينشط إلى ذلك الطرب، بل ضرب الله على  أذنه فنام، وبذلك حفظه الله من أن يرد أقل موارد اللهو، إذ لقد  كان قلبه منصرفاً منذ نشأ إلى الجليل وإلى الجد. ولا يخفى ما في  إيراد القصة على الصورة الثانية من فرق عما في التصوير السالف.  فالرسول عليه الصلاة والسلام منذ طفولته عظيم النفس لا يميل  إلا إلى الوقار والجد. ولقد كان جده عبد المطلب يراه وهو صبي  يجلس على البساط الذي يفرش له بجوار الكعبة، لا يجرؤ أحد  على أن يقترب من كبير قريش إلا ذلك الصبي الصغير، فكان  عبد المطلب يقول عنه في كثير من الإعجاب:   (إنه يأنس ملكاً)  

ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في وصف حاله العامة:    (لست من ددٍ ولا ددٌ مني)  أي أنه كان لا يميل بطبعه إلى اللهو  فلقد تنزه مقام الرسول عن أن تسول له نفسه الهبوط إلى مكة ليصيب  من لهوها ويعبث فيها عبث الشباب في جنح الليل؛ فلكم كان  بمكة من فجور ما أبعد الرسول في صباه عن أن تحدثه نفسه بشيء  منه، وما أبعد الفرق بين عبث الشباب ولهوه وبين السمر البريء  الذي يسمر به الفتيان. ولقد وصف المؤلف في عرض حديثه  حياة الجاهلية وعلاقة الرجل بالمرأة فيها، ونرى أنه في حكمه على  تلك الحياة كان دائما يميل إلى أن يتخذ من الجزئيات أحكاماً كلية،  ولم يكن في هذا مقتصرا على تعميمنوع واحد من الأحكام،  بل كان أحيانا يعمم فضيلة لم تكن عامة، وأحياناً يعمم رذيلة لم  تكن عامة. فقال مثلاً في موضع: أن العرب كانوا قبل الإسلام  تجتمع فيهم   (خلال الكرم والشجاعة والنجدة وحماية الجار  والعفو عند المقدرة، وما إلى ذلك من خلال تقوى في النفس كلما  قاربت حياة البادية الخ) .

وهذه الخلال وإن كانت مثلاً عليا عند العرب لا يمكن أن  يقال إنها كانت خلالاً عامة للعرب. وقال في موضع أخر:   (إن  صلات الرجل والمرأة في هذه الجماعة العربية لم تكن تعدو صلات  الذكورة والأنوثة)  وقال في موضع ثالث (وبلغ من أمر هذه  الصلة - أي صلة الإباحة بين المرأة بالرجل - أن لم تأب هند  زوج أبي سفيان أن تقول في أشد مواقف الجد والشدة وهي  تحث قريشا حين الحرب يوم أحد: (إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق) الخ

وقال بعد ذلك:   (ثم إن المرأة كانت إذا ولدت، ولم يعرف  لمولودها أب، لم تأب أن تذر من لامسها من الرجال الخ) .

وهذه القطع كلها فيها تعميم لا تبرره الوقائع، يدرك ذلك كل  من ألم بتاريخ العرب، ولا يتسع المجال هنا لنقض مثل هذه العبارات  العامة، وإنا نجتزئ بذكر كلمة صغيرة قالتها هند عندما جاءت  لتسلم عند الفتح إذ قال لها النبي يعلمها قواعد الدين:   (وألا  تزني)  فقالت   (وهل تزني الحرة) .

على أن المؤلف وهو يصف أحوال الجاهلية قد نسي فزاد  التعميم حتى جعله يتناول عهد عمر بن أبي ربيعة، واستدل على  ذلك بما يمكن أن نقرأ في شعره من دلائل علاقات المرأة بالرجل

فالحق أننا إذا خرجنا من الوقائع ومنطقها. ومن ذكر

السيرة ومواقفها لم نجد في وصف الحالات الاجتماعية ما نستطيع  الإعجاب به. فإن الدكتور قد درس السيرة، وأسبل المنطق على  مواقفها. ولكن الذي يتناول السيرة لا يكفيه مثل ذلك الدرس  بل يجب أن يكون كذلك قد سبق له حظ عظيم من العلم بتاريخ  العرب وأيامها وأحوالها كيما يكون في استطاعته أن يحسن الحكم على  عاداتها، وأن يحسن تأويل أخبارها. ولعله قد أدرك أن قوله فيه  هذه المبالغة فاتهم القارئ وقال   (ربما بدا هذا التصوير للقارئ  المعجب بالعرب وحضارتهم وللمعجب حتى بعرب الجاهلية،  مشوبا بشيء من الغلو، وللقارئ العذر في ذلك)  ولقد صدق  المؤلف في هذا الاستدراك.

على أننا وإن أخذنا هذه المآخذ على الكتاب نرى أنه فتح  جديد في التأليف الحديث، ونشكر للدكتور الفاضل والمؤلف  النابه الهدية الثمينة التي أهداها إلى قراء العربية.

اشترك في نشرتنا البريدية