الكيمياء علم طواف جوال سلك من العالم مسالك لم يدانه فى سلوكها علم ، ونزل من الأرض منازل لم ينزل فى مثلها عرفان , فطورا تراه فى البلقع الأجرد ينقر الصخر وينكت فى الترب يستخرج معادنه ويتعرف جواهره ، وطورا تراه فى الريف الأخضر يطعم النبات بالقوت الأنسب ويسقيه بالقدر الاوفق ، واذا مرض طببه بصنوف الأدوية وحماه من الحشر بشتيت العقاقير ، وطورا فى المدينة فى الحديقة الفسيحة ، وفى الجنينة الصغيرة الأنيقة يعنى بزهرها ووردها وبنفسجها ، أو بعنبها وتفاحها وبرتقالها ويوسفيها ،عنايته بسنبلة القمح ولوزة القطن فى الحقل فى ظاهر البلد ، وتجده فى البيت إما فى المطبخ قد سبق الطاهى اليه لا بصنوف الاطعمة المستطابة فحسب بل بالآنية والنار ، وإما لدى غانية الدار جلس فى متزينها ينتظرها بدقيق الأرز ودهن الحيوان وزيت الازهار وصبغة الارض ترطب بها جلدا وتورد خدا وتصبغ رمشا وتزجج حاجبا ، ويغنيك عن هذا التعداد المفصل أن تسير فى كل حجرة من حجر البيت , وتنظر الى كل ركن من أركانه ، بل الى جدران هذه الحجرات وسقوفها وأرضها ، فلن تجد شيئا فيها لا تدخله الكيمياء . كذلك تجد علم الكيمياء فى الشارع وفيما فيه من ذى حركة أو سكون ، وفى المصنع تصنع فيه الابرة الصغيرة أو القاطرة الكبيرة ، وفى المستشفيات وفى المقابر ، وفى كل مظهر من مظاهر المدنية ومظاهر الحياة من مأكول وملبوس ومركوب ، وكذلك فى مظاهر الموت .
ولهذا الاتساع انقسمت الكيمياء الى أقسام عدة : فالكيمياء
العضوية وغير العضوية والكيمياء الطبيعية والهندسية والحيوية وهلم جرا . ولكن كل هذه موضوعها المادة ، موضوعها الاجسام الملموسة الموزونة ، سواء فى ذلك الأجسام الجامدة والأجسام الحية ، وهى اذا عالجت الأجسام الحية فهى لا تعنى أو لم تكن تعنى - الا بمادتها الصامتة وهيولاها الجامدة دون حياتها وروحها . ولكن العلم طموح ، والكيمياء علم ، فكان من هذا أن بدأت تطمح الى ما طمحت اليه وعجزت عنه القرون ، تطمح الى لمحة وراء المادة ، ونظرة تختلسها من خلف ذلك الحجاب الأزلى الكثيف الذى فصل ما بين الأجسام وأرواحها ، تطمح الى تفهم العقل ، لا من حيث الخلايا المخية التى هى مركزه ، بل من حيث هو اسم لكل مظاهر الذكاء والغباوة والحب والبغض والغضب والحلم واليقظة والنوم . فتكون من ذلك أو كاد يتكون علم جديد لا أجد اسما أنسب له من " كيمياء الروح "
وطريقة هذا العلم الجديد كطريقة كل علم ، يبدأ بالمعلوم ليتعرف المجهول . والمعلوم هنا الجسم والمجهول النفس ، فهو يحدث تغيرات فى الجسم ويرقب أثرها فى النفس . وليست علاقة الجسم بالنفس بجديدة ، فقديما عرفنا الصيام يشحذ الفكر الى حين ، والطعام الكثير يثلمه حتى يسلم صاحبه الى النوم . وسمعنا الفلاسفة والمفكرين فى قديم الأزمان يعافون الطعام رغبة فى صفاء البصيرة وجلاء الذهن . ونسمعهم اليوم يترسمون فى ذلك سنة السلف ، فغاندى يعيش على اللبن والبرتقال ، واينشتين يقنع من اليوابس والسوائل بالقليل الميسور الذى لا يقنع الولد الصغير . ولكن هذه ملحوظات يلحظها الأنسان عفوا وهو لا يدرى أين يلحظها ولا متى ، وان هى حانت فهو لا يتعمد لحظها الا إذا ملكت عليه انتباهه . ولكن هذا العلم الجديد ينتظر الحوادث ويجثم على مرقب
عال طلبا للفرص التي قد تمر ، وهو إلى جانب هذه الحوادث وتلك الفرص السانحة بخلق لنفسه الحوادث ويفتتح مواطن للتجارب يكون هو العامل الأكبر فى إحداثها ، والمهيمن الأول على إدارتها وتوجيهها
جاءت الحرب العالمية فأجاعت كثيرا من الخلق فى الأمم المختلفة ، وكان من أشدهم جوعا ألمانيا ، وكان من أشد أهلها تأثرا بذلك أطفالها ، فتهيأت الفرصة للبحث ، فجاء هذا العلم يبحث فى الغذاء الذى كانت تتعاطاه تلاميذ المدارس أيام السنوات العجاف ، فى مقداره وفى نوعه وعناصره ، ويبحث بعد ذلك لا فى أثر ذلك فى أجسامهم فحسب ، بل فى أثره فى عقولهم ونفسيتهم وروحهم ، لا اجمالا بل تفصيلا ، فعاهات النفس كعاهات الجسم ، وخلل الروح كخلل المادة التى تتقمصها ، أى أنها مثلها تختلف فى الكيف كما تختلف فى الكم ، ولكل عاهة اسم ان كان الآن فيه كثير من الابهام ، فانه ابهام ينجلى لا شك بطول البحث وكثير من الأناة والجلد . وخرج العلم من هذا البحث على أن أربعين فى المائة من التلاميذ فقدوا مقدارا كبيرا من طاقتهم العصبية العامة بسبب فقدهم عناصر هامة فى الطعام ، وخرج على أن اختلافات خاصة فى الشخصية وتغيرات محدودة فى الطبع ترتبط بنقص فى بعض جواهر الغذاء الذى كان . ومن النتائج التى خرجوا عليها علاقة بينة بين مرض عصبى خاص ، مظهره اضطراب وخوف ، وبين خلو الطعام من الشحوم الفسفورية والأحماض الدهنية غير المشبعة ، ومن الاستيرولات . وليس معنى هذا أن هذه الشحوم مفيدة دائما فى كل مرض . فقد درس شارل مرسيه عالم الاعصاب الانجليزى المعروف عدة من المرضى بعقولهم فزاد غذاءهم من الشحم والسكر والنشا ونقصه من اللحم فوجد ان الجمع بين هذه الزيادة وهذا النقص زاد المرضى سوءا على سوء . ولم يجد هذا هو الحال فى كل المرضى ، دليلا على أن المرض يختلف ، ولو جمع المرضى ظاهر واحد نسميه الجنون . على أننا قديما قلنا الجنون فنون ومن الدراسات الأحدث أثر " الفيتامينات " فى نفسية الاصحاء ". والفيتامينات " طائفة من المواد الكيمياوية موجودة بالطبيعة فى كثير من الاغذية ولا سيما الفاكهة ،
ولتشابهها وتعددها أعطوها حروفا ا ، ب ، حـ وهلم جرا بمثابة اسماء لها . درسوا الأثر الناشئ من قلة الفيتامين ح فى الغذاء أو انعدامه فيه فوجدوه يسبب فى النفس همودا تستتر وراءه حدة فى الطبع وقابلية للتهيج شديدة . وهذه النتيجة تتفق تماما مع ما لاحظه رواد القطب الشمالى من المستكشفين لما قلت مواردهم وخف زادهم ، وهو زاد قليل الفيتامينات أو عديمها بطبيعة الحال . فانهم كانوا دائما يجدون الكسل فى نفوسهم وحب الشجار فى قلوبهم ، يثورون اليه للسبب الحقير التافه كانما يجدون فيه متنفسا من ضيق
وهناك نوع من الجنون يصحبه مثل هذا الهبوط فى النفس ، يعترى الرجل وقد اكتمل نموه وبلغت حيويته أقصاها . دخل هذا المرض فى دائرة علم الكيمياء الروحى من سنوات قريبة واسترعى همة كثير من البحاث ، وقد بدأوا يصلونه لا بخلل نفسى محض بل بخلل فى الجسم واضطراب فى وظائفه . أى أن ذلك العقل ساء لما ساءت كيمياء التربة التى انبثق فيها ، وتلك الشخصية الوقورة ضاع اتزانها لما ضاع اتزان بين الغدد التى تهيمن فى الجسم على دخل السكر اليه وخروجه منه واختزانه فيه . ومصداق هذا أن المرض الذى نحن بصدده يكثر فى الأسر المصابة بالبول السكرى ، ولعل هذه الحقيقة هى أول ما لفت البحاث الى تلك الغدد ودرس وظائفها فى هذا الصنف من المعتوهين
والنوم ، ذلك الطلسم الذى أعيا سره الأولين والآخرين ، بدأوا يسلطون عليه شعاعات من ذلك العلم الجديد لعلهم يردون أصله الى الكيمياء ، وحديثا نشر ( هرمان زندك ) نظرية بناها على دراسات مبدئية لم تنضج بعد ، مؤداها ان الغدة النخامية ، وموضعها بقاعدة المخ , بها مادة كيميائية تسمى بالهرمون . وهى واحدة من عدة مواد توجد فى الجسم تسمى بالهرمونات ، وهرمون هذه الغدة به عنصر البروم ، فاذا بدأ النوم يخرج هذا الهرمون البرومى الى سائر المخ شيئا فشيئا حتى يضيع كله ، فاذا استيقظ الأنسان أخذت هذه الغدة تحشد البروم ، حتى اذا تكون فيها بقدر معلوم أتى المرء النعاس ، وخرج البروم يسير سيرته الاولى . بالطبع هذه النظرية فى حاجة الى بحث كثير
من غير واحد لتأييدها ، ولكنها اذا تأيدت واتضح لنا ان النوم ما هو الا محاولة الجسم أعادة اتزان كيميائى فى الرأس لكان فى الامكان أحداث هذا الاتزان فى المعمل والاستغناء عن النوم ، وبذلك يتضاعف عمر العامل المنتج .
لا نريد ان نعدد كل ما صنع هذا العلم ولا كل النتائج التى خرج عليها ولا الظنون التى لا تزال تساوره ولم تدخل بعد فى مضرب الحقائق ، فانه علم وليد ، ولكنا نريد ان نؤكد العقيدة
البارزة فى كل أعماله وهى ان مظاهر الروح الخارجية وثيقة الارتباط بالتفاعلات الكيميائية للجسم الذى تسكنه ، وان الأنسان اذا أنصت يفكر فى ضحولة أو عمق ، أو تكلم يقرع الحجة بالحجة ، أو اذا هو سر فضحك فزاط وقصف ، أو تجهم واكتأب فتجرع الحزن فى هدوء وصمت ، أو اذا هو أحب أو أبغض أو خاف أو تجرأ ، فانما يفعل ذلك بجسمه لا بروحه ، أو إن شئت فقل لا بروحه وحدها ، يفعل ذلك بالعقاقير الكيميائية التى بدمه ولحمه وغدده وعصبه وخلاياه جميعا ، وان هذه الانفعالات تسبب شدتها وكثرتها اجهادا للمراكز الجسمية التى تصنع هذه العقاقير ، وأخص تلك المراكز الغدد التى تقوم بسبب العقاقير التى تفرزها بموازنات عدة لتفاعلات متناقضة شتى ينشأ من أختلالها اختلال الجسم والروح . ولا أدل على هذا من نظرة يلقيها المرء فى معترك الحياة التجارية فى هذه المدنية الحاضرة حيث نتصارع قوى العيش الهائلة وتصطدم العواصف والآمال تصادم الجبال ، اعنى بذلك البورصات ، فقد دل الاحصاء على ان عدد الأصابات التى سببها تلف يعترى تلك الغدد ، كالبول السكرى
وصنوف معروفة من الجنون ، يزداد بعد كل زوبعة من زوابع المضاربات .
وان كانت انفعالات الروح الطائشة تتلف معمل الجسم الكيميائى الذى فى صلاحه صلاحها ، كان من الطبيعى اذا اعترى التلف الروح - ذلك السر المعجز - ان نبحث عن سبب هذا التلف فى حجرات المعمل ، وان نرد غازات كريهة نشمها ولا نراها تخرج من مداخن النفس ، الى الاسباب التى سببتها فى بوادق البناء وقواريره . وهذا عمل العلم الجديد " كيمياء الروح " ،
