لم أكن أحب أن تنتقل المناقشة بين الاستاذ العقاد وبينى من نقد اللاتينيين ونقد السكسونيين الى الثقافة اللاتينية والثقافية السكسونية. ولست أحب أن تتنقل هذه المناقشة الى هذا الموضوع. ولست أريد ولا أستطيع أن أجارى الاستاد العقاد فى المفاضلة بين هاتين الثقافتين.
ذلك لأنى أحب الثقافتين جميعاً وأوثرهما جميعا وأريد أن أتثقف بهما جميعا بل أريد أن أتثقف بكل ثقافة أستطيع أن أصل اليها أو أن أظفر منها بحظ سواء كان ذلك من طريق القراءة فى النصوص الاولى أو من طريق القراءة فى التراجم. واذا كنت اشكو شيئا أو أضيق بشىء فهو أن قدرتى ووقتى لا يسمحان لى بأن أقرأ كل شئ وأن آخذ من كل ثقافة بطرف قوى أو ضعيف طويل أو قصير. ولم أفهم قط مناقشة فى تفضيل ثقافة على ثقافة أو ايثار ثقافة على ثقافة بالقياس الى أديب كالاستاذ العقاد، أو الى رجل مثلى كل همه أن ينتفع ما استطاع بالثقافات الانسانية على اختلافها.
بل أذكر أن مسألة الثقافات المختلفة قد فرضت نفسها فرضا فى بعض الاوقات حين كنت أستطيع أن أوجه التعليم فى بعض البيئات المصرية بعض التوجيه: فكرهت دائما أن أؤثر ثقافة على ثقافة، ووقفت دائما موقف الخصومة العنيفة من الذين كانوا يريدون أن يفرضوا على مدارسنا الثقافة اللاتينية أو الثقافة السكسونية، ودعوت وسأدعو دائما إلى أن تكون مدارسنا وجامعاتنا ملتقى لاعظم حظ ممكن من الثقافات، وأن يترك للطلاب وأسرهم حق الاختيار بين هذه الثقافات. وقد دعوت وسأدعو دائما الى ألا تفرض على طلابنا وتلاميذنا لغة بعينها من لغات أوربا الكبرى، وانما تدرس هذه اللغات الكبرى كلها فى المدارس ويختار منها الطلاب وأسرهم ما يشاءون. وحجتى فى ذلك أن للثقافات كلها قيمة خصبة وأن منفعتنا الصحيحة انما تتحقق يوم نأخذ منها جميعا بحظوظ مختلفة فلا نكون أسرى الانجليز ولا أسرى الفرنسيين ولا أسرى الألمان وانما نكون مصريين قبل كل شئ يأخذون بحظهم من الثقافات الحية حسب أمزجتهم ومنافعهم وحاجاتهم وطاقاتهم أيضاً. واذا كان هذا مذهبي فى الصلة بيننا وبين الثقافات الحية فمن غير المعقول أن أجادل فى تفضيل ثقافة على الأخرى، والذين قرءوا الفصل الذى
كتبته فى الرسالة يذكرون أنى لم أوثر اللاتينيين على السكسونيين ولم أفضل هؤلاء على اولئك، وانما أنكرت وما زلت أنكر على الاستاذ العقاد زعمه أن النقاد اللاتينيين يؤثرون الظواهر والاوضاع الاجتماعية ويتتبعون النكت ومراسم الصالونات على حين يعنى النقاد السكسونيون ببساطة الطبيعة وبالرجل من حيث هو رجل.
هذا بالضبط هو موضوع الخلاف بين الأستاذ العقاد وبيني. ويسرنى أن الاستاذ قد برئ فى الفصل الذى كتبه ردا على من أن يكون قد أراد أن يعم اللاتينيين كلهم بهذا الحكم. فهذه البراءة فى نفسها انصاف لهؤلاء النقاد اللاتينيين اللذين جنى عليهم مدح الأستاذ أنطون الجميل لشعر شوقى رحمه الله.
وليس الدفاع عن النقاد اللاتينيين تعصباً لثقافتهم اللاتينية أو تنكراً لثقافة السكسونيين وانما هو العلم ينبغي أن يقر الأشياء فى نصابها. وليس من الحق بحال من الأحوال أن نقد اللاتينيين كله أو أكثره أو نصفه أو ثلثه كما أراد الأستاذ العقاد أن يصوره؛ وإنما النقد اللاتينى كان دائما وما زال نقداً جدياً يقصد الى طبيعة الكاتب أو الشاعر فى بساطتها. ويقصد الى الرجل من حيث هو رجل، وقد يصطنع فى ذلك التأنق والظرف ولكن ذلك ليس عيباً له ولا غاضاً منه وانما يعيبه ذلك ويغض منه لو لم يكن فى النقد اللاتينى إلا تأنق وظرف؛ فأما وفيه بحث وتحقيق، فأما وفيه التماس لطبيعة الكاتب والشاعر فى بساطتها. فقد يكون التأنق والظرف شيئاً لا بأس به ولا معنى للزهد فيه.
وعجيب جداً من الاستاذ العقاد أن يكره الاعتراف بأن النقد الحديث كله يقوم رغم تطوره واختلاف المذاهب الحديثة فيه على الثقافة الأدبية اليونانية واللاتينية وعلى ما شرعه ارسططاليس فى كتاب الخطابة والشعر من أصول البيان. غريب جداً كره الاستاذ العقاد لهذه الحقيقة. فأن العقل الأوربى كله مهما تكن بيئته ومهما تكن جنسية اصحابه ومهما يكن حظه من التطور وليد العقل اليونانى الرومانى سواء رضينا أم كرهنا. ولست أدرى لماذا يقبل الاستاذ العقاد أن تكون طبيعة ارسططاليس ومنطقه والهياته ورياضيات اقليدس اصولا لطبيعة الأوربيين المحدثين ومنطقهم والهياتهم ورياضياتهم ولا يرضى أن يكون نقد اليونانيين والرومانيين أصلا للنقد الحديث، مع أن اتصال الأدب الحديث بالأدب اليونانى واللاتينى مازال أقوى وأشد وأمتن
من اتصال العلم الحديث بالعلم اليونانى . ولست ادرى لم يرضى الاستاذ العقاد أن يكون تفكير اليونانيين والرومانيين فى السياسة والتشريع أصلا من أصول التفكير الأوربى الحديث فى السياسة والتشريع ولا يؤمن للنقد بمثل هذه الصلة؟ أم هل الاستاذ العقاد ينكر أن يكون بين العقل الاوربى الحديث وبين العقل اليونانى الرومانى صلة ما بين الاصل والفرع؟ فأن كان هذا مذهبه فليس من السهل أن نلتقى أو أن نتفق، بل ليس من السهل أن يلتقى الاستاذ أو يتفق مع الاوربيين انفسهم.
ومن الذى يزعم ان رقى النقد الحديث وبعد ما بينه وبين أصله القديم يقطع الصلة بينهما؟ وما عمل التطور اذن فى حياة الاحياء؟ وهل بيننا نحن المتحضرين المترفين وبين آبائنا الذين كانوا يسكنون الكهوف والاغوار ويهيمون فى الاحراش والغابات صلة! ام هل نحن قوم قد خلقنا انفسنا وابتكرناها ابتكاراً؟ ومن ذا الذى يستطيع أن يوافق الاستاذ العقاد على أن النقد لا يمكن أن يكون علما يذكر قبل أن يوجد علم النفس الحديث؟ أما انا فلا أعرف أن النقد علم ولا أحب له أن يكون علما وانما أرى كما قلت فى غير هذا الموضع أن يكون النقد مزاجاً من العلم والفن وهو على هذا النحو قد وجد منذ عهد بعيد، وجد منذ كان السفسطائيون يعلمون الناس فى صقلية واثينا صناعة الخطابة وفن الجدل. وجد حين كان ارسطوفان يوازن بين ايسكولوس وايروبيدس أمام النظارة من اللاتينيين وهو يمثل لهم قصة الضفادع أو عيد سبرس، وجد حين وضع ارسططاليس فن الخطابة وفن الشعر واستمر فى روما عند سيسرون وعند خلفائه من نقاد الرمان، ووجد كذلك عند العرب. ووجد عند الاوربيين المحدثين قبل أن يوجد علم النفس الحديث. انما الذى نستطيع أن نوافق الاستاذ عليه هو أن هذه الفنون من النقد القديم قد أصبحت الآن لا ترضينا ولا تغنينا كما أصبحت طبيعة ارسططاليس وطب ابن سينا وفلك جالينوس لا تعجبنا ولا تغنينا، ولكن هذا شىء وما يذهب اليه الاستاذ العقاد شىء آخر. اما أنا فاعتذر الى الاستاذ من أنى لا أستطيع أن آخذ الاشياء هذا الاخذ السهل الهين القريب ولا أن اقف بها عند أصولها القريبة وإنما أحب أن اتبعها وأن اتبعها الى ابعد ما أستطيع أن اصل اليه من الاصول، وقد يكون ذلك عيبا من عيوب الثقافة العربية التى نشأت عليها أو من عيوب الثقافة اللاتينية التى تأثرت بها ولكنى حريص على هذا العيب لأنى اراه الأصل الصحيح لكل بحث علمى له صبغة من الجد. ولست أشك فى ان الاستاذ العقاد نفسه حريص على هذا العيب لأن الثقافة السكسونية تكبره أشد الاكبار ويخيل الى ان قد كلن سكسونيا ذلك الرجل الذى لم يرضه ان ينتهى بالانسانية الى آدم فترقى بها أو تنزل فى طبقات الحيوان الاخرى. ولست ادرى لم نقر دروين حين يرد الناس الى القردة ولا نقر الاديب الذى يرد النقد الحديث إلى نقد ارسططاليس؟
وبعد فايهما انشأ صاحبه: أهو علم النفس الذى انشأ النقد أم هو النقد الذى انشأ علم النفس الحديث؟ مسألة غريبة بعض الغرابة لأن المعروف أن علم النفس فرع من فروع الفلسفة قد تطور حتى أصبح الآن علما تتناوله المعامل بالدرس والتحليل، والنقد فن من فنون الادب. ومع ذلك فهذه الغرابة لا تثبت اذا فكرنا فى ان هذا النقد انما هو تحليل للآثار الادبية وأن هذه الآثار الادبية انما هى صور لنفوس الادباء الذين أنشأوها ولنفوس القراء الذين استمتعوا بها. فدراسة الآداب دراسة للنفس الانسانية. وليست هذه الفكرة جديدة ولا عصرية وانما هى قديمة جدا عليها اعتمد ارسططاليس فى كتاب الخطابة والشعر وعليها اعتمد العرب انفسهم فى فنون البيان. ومن المحقق الذى لا شك فيه أن الدراسات النقدية التى نشرها (سانت بوف) قد أعانت جداً على تكوين علم النفس الحديث. ومن المحقق الذى لا شك فيه ان (تين) كان ناقداً ولكنه ألف كتاب العقل الذى لا يزال له خطره العظيم فى علم النفس الحديث. فليس وجود النقد الحديث نتيجة لنشأة علم النفس، وانما النقد مؤثر جدا فى نشأة علم النفس ومتأثر جداً بهذا العلم، وكلاهما قديم وضع اليونان أصوله الاولى. وانا معتذر الى الاستاذ العقاد من الرجوع دائما الى اليونان فقد أراد الله أن نرجع اليهم دائما كل ما أردنا تاريخ مظهر من مظاهر الحياة العلمية أو الفنية أو الادبية.
وهنا أريد أن أعاتب الاستاذ العقاد عتابا رفيقا. فقد زعم الاستاذ ان (سانت بوف) لا يشهد لمذهبى فى نقد اللاتينيين، وانما يشهد لمذهب الاستاذ لان ما فى (سانت بوف) من مزايا راجع الى تأثره بالثقافة السكسونية والدم السكسونى. ذلك أن أم سانت بوف من اصل انجليزى وأنه كان يؤثر الشعر الانجليزي على الشعر الفرنسى فى بعض الفصول التى كتبها عن الانجليز، وفى بعض رسائله الخاصة.
أما أن (سانت بوف) كان يؤثر الشعر الانجليزي على الشعر الفرنسي فذلك شىء مشكوك فيه جدا لأن (سانت بوف) لم يكن يؤثر شيئا أو قل كان يؤثر كل شىء أو قل ان اردت التحقيق ان اخص ما يمتاز به هذا الناقد العظيم أنه كان شاكا مسرفا فى الشك يقر اليوم شيئا ويعدل عنه غدا ويجوز ان يرجع اليه بعد غد. ولقد اراد (اميل فاجيه) أن يشخص عقلية (سانت بوف) فقال انه لم يؤمن بشىء ولم يقتنع بشىء ولم يؤثر شيئا على شىء حتى حين اعتنق الكاثوليكية فى الدين والرومنتسم فى الادب، وخدع عن نفسه زعماء الدين حتى هم (لامنيه) أن يستصحبه الى روما، وزعماء الرومنتسم، حتى فتن عظيمهم (فيكتور هيجو) .
كان (سانت بوف) إذا عنى بشىء جديد من شعر أو نثر أو تاريخ فتن به فتنة المؤمن الفانى فى الايمان حتى اذا أتقنه وقتله بحثا وفهما زهد فيه وانصرف عنه ونفر منه نفورا شديدا. ولم يكن هذا دأبه فى حياته العقلية والادبية
فحسب. بل كان دأبه فى حياته العملية والشعورية. فقد كلف بالمذاهب السياسية كلها وزهد فيها كلها وكلف بالكاثوليكية حتى فتن الكاثوليك وبالبروتستنطية حتى شغف به البروتستنطيون. وقال عنه (فاجيه) انه لم يكن يستطيع ان يحب امرأة بعينها أو كان يستطيع أن يحب النساء جميعا. وإذن فلا ينبغي ان يخدعنا (سانت بوف) حين يثنى على الشعر الانجليزى ثناء المفتون به، فلعله لم يكد يفرغ من هذا الثناء حتى انكره. وهو كذلك قد اثنى على الشعر الفارسى حين ظهرت ترجمة الشهنامة ثناء المفتون به وهو مع ذلك لم يعرف الفارسية ولم تفتنها ثقافته حقا، وهب هذا الناقد العظيم قد آثر الشعر الانجليزى حقا على الشعر الفرنسى ولم يخدع نفسه ولم يخدع الناس عن رأيه الصحيح فى ذلك فمن ذا الذى يزعم مخلصا ان هذا يكفى لاثبات ان الناقد مدين بمزاياه للثقافة الانجليزية؟
أؤكد للاستاذ أنى لم أعتقد يوما من الأيام انه هو مدين حتى بوحى الاربعين وغيره من دواوينه ولا بكتابه عن ابن الرومى ولا بكتابه عن جوت ولا باحاثه الكثيرة الممتعة لثقافته الانجليزي الخصبة التى يحبها ويذود عنها. وانما هو مدين بهذا كله كما يرى (سانت بوف) لشخصيته ولبيئته الخاصة التى نشأ فيها عقله والتى لا تكاد تتجاوز الكتب التى قرأها والمعانى التى فكر فيها والمسائل التى عرض لدرسها. فحب (سانت بوف) لشعر الانجليز ان صح لا يجعله مدينا بأدبه للإنجليز. وأين يقع تأثير الثقافة الانجليزية فى (سانت بوف) من تأثير الثقافة الفرنسية فيه؟ والذى كتبه سانت بوف عن الانجليز وعن الاجانب كلهم ليس شيئا يذكر بالقياس الى ما كتبه عن الفرنسيين فى كتبه الضخمة المدهشة فى هذه المجلدات الستة عن بورويال وفى هذه المجلدات الثمانية عن الصور، وفى هذه المجلدات الثلاثة والعشرين التى سماها أحاديث الأثنين، وفى هذين المجلدين عن شاتوبريان وأصحابه. أين يقع ما كتبه (سانت بوف) عن الانجليز مما كتبه عن الفرنسيين بل مما كتبه عن اليونانيين واللاتينيين؟
فالاستاذ العقاد يعلم بالطبع أن (سانت بوف) عين أستاذاً للادب اللاتينى فى الكوليج دفرانس، ولما منعه الطلاب من القاء دروسه عن فرجيل لأنه كان يؤيد سياسة الامبراطورية الثانية طبع الدروس التى لم يستطع القاءها فكان منها كتاب قيم عن صاحب الانيادة. وقد كتب (سانت بوف) عن كثير من الشعراء اليونانيين وعن الاسكندريين منهم خاصة. فما بال الأستاذ العقاد يرى تأثر "سانت بوف" فى نقده بالثقافة الانجليزية ولا يرى تأثره بالثقافة اللاتينية واليونانية لأنه أحب شعراء اللاتين واليونان، وبالثقافة الإيطالية لأنه كتب عن شعراء إيطاليا فى عصر النهضة، وبالثقافة الألمانية لأنه كتب عن جماعة من الألمان وعن جوت؟
أما أن أم الناقد العظيم كانت من أصل إنجليزى فالأستاذ يبالغ فى
نتيجته، فقد كانت أم (سانت بوف) نصف انجليزية كما تقول دائرة المعارف البريطانية، وذلك أن أباها كان بحاراً فرنسياً وأن أمها كانت إنجليزية. فإذا كان الأستاذ العقاد يرى أن هذا يكفى ليكون (سانت بوف) مدينا بمذهبه فى النقد للانجليز فليسمح لى بألا أذهب معه فى هذه الطريق لأنها طريق شديدة الالتواء. للوراثة أثرها فى تكوين الفرد ولكن من الاسراف أن نذهب فى تقدير هذا الأثر مذهب الأستاذ ومن الغريب أن الذين أرادوا أن يدرسوا مذهب (سانت بوف) فى النقد لم يحفلوا بهذا العنصر الانجليزي فى تكوينه، فلم يلتفت (فاجيه) ولا (لنسون) الى أم (سانت بوف) كثيراً.
أما تين فرأى الأستاذ العقاد فيه عجيب، فهو يرى أنى لم أوفق حين استشهدت به أيضا لأن عمه علمه الانجليزية فى صغره ولأن تين شغف بالآداب الانجليزية فكتب لها تاريخاً، ولكن الأستاذ العقاد نفسه تعلم الانجليزية صغيراً وشغف بها وقرأ كثيراً من الآداب الانجليزية. والثقافة العربية ضعيفة بالقياس الى الثقافة الانجليزية. ومع ذلك فأنا لا أطمئن الى الحكم بأن الأستاذ مدين بأدبه للإنجليز. فكيف اذا عرفنا أن الثقافة الفرنسية التى نشأ فيها تين ونبغ بفضلها قوية تستطيع أن تثبت للثقافة الإنجليزية، وأن تين لم ينبغ بتاريخه للآداب الانجليزية وإنما نبغ بكتب أخرى أجل خطراً من هذا الكتاب، نبغ بكتابه عن لافونتين الذى نال به الدكتوراه من السوربون، ونبغ بكتابه الضخم الذى أرخ فيه فرنسا الحديثة، ونبغ بكتابه عن العقل، ونبغ بكتابه فى فلسفة الفن. فهل يظن الاستاذ بعد هذا كله أنى لم أوفق حين اتخذت سانت بوف وتين أعلى مثل للنقد اللاتينى الفرنسى؟ وما ذنبى أنا اذا كان الله قد أراد أن يكون هذان الرجلان رمزين خالدين لحياة الأدب الفرنسى فى القرن الماضى؟
وقد بعدنا جداً عما كنا بسبيله من تشخيص النقد الفرنسى اللاتينى، أهو نوع من تتبع النكتة وتأنق الصالونات أم هو نقد بأدق معانى كلمة النقد؟ لن ينفع الأستاذ العقاد أن يحتاط وأن يقول انه لم يرد النقاد الفرنسيين جميعاً، وانما أراد كثرتهم أو قلتهم، فليس من الحق أن كثرة النقاد الفرنسيين أو قلتهم كما يظن الأستاذ. وإنما الحق الذى لا سبيل إلى الشك فيه أن السمة الفنية الخالصة هى أظهر ما يتصف به النقد الفرنسى، وأن من ظلم العلم والحق أن يقال فى هذا النقد غير ذلك. وأما بعد فهل يسمح لي كتاب آخرون أرادوا أن يخوضوا معنا فى هذا البحث بأن أتحدث إليهم حديثاً قصيراً ولكنه لا بد منه . فأما أحد هؤلاء الكتاب فالأستاذ سلامة موسى الذى تفضل
( البقية على صفحة ٤٦)
( بقية المنشور على صفحة ٤٢) فجلس مجلس القاضى وأصدر بين الثقافاتين حكم الواثق المطمئن وفى أسطر ما أحسبها تتجاوز العشرة ٠ ووجد طريقا الى أن يقارن فى هذه الاسطر القليلة بينالانجليز والفرنسيين وبين اناطول فرانس وبرناردشو وان يقول ان الفرنسيين فادوا العالم فى القرن الثامن عشر وان الانجليز يقودون العالم الان . أظن أن الاستاذ سلامة موسى يوافقنى على أن هذه المسألة أعر وأعظم خطرا من أن يقضى فيها بجرة قلم وبهذا الانجاز الذى لا يمكن أن يوصف بأقل من أنه يدعو الى الانتقام.
وأما الكاتب الآخر فهو الاستاذ محمد على غريب . فقد كتب الأستاذ فى البلاغ فصلا أشهد أنه أضحكنى وأضحكنى ضحكا فيه اعجاب كثير . فهو يسخر من العقاد ومنى لانا نتناقش فى حالة كهذه لا تصلح موضوعا للمناقشة ولا تنتهى المناقشة فيها الى نتيجة عملية وله كل الحق فى أن ينكر هذه المناقشة لولا أنه يخطئ حين يطلب الى كل بحث أو مناقشة أن تكون له نتيجة عملية قد تكون المناقشة خيرا فى نفسها وقد بكرن من القصور أو التقصير ألا يكتب الناس الا ليحققوا غرضا عمليا . وقد يكون احقاق الحق فى نفسه أهم غرض ينبغى أن يكتب من أجله الكتاب . وقد يكون الأستاذ مخطئا أيضا حين يزعم أن "ليس فى مصر نقد أدبى مصرى وبكنى أنه هو ينقد الاستاذ العقاد وينقدني . وقد يكون الاستاذ مخطئا أيضا حين يزعم أننا نجادل فى الادب الاجنبى ولا ننتج شيئا ، فأنا أظن أن الاستاذ العقاد قد أنتج شعرا ونثرا واظن أن لم أنفق حياتى عبثا . وأنا أحب أن ينقدنا الناقدون بل أنا شديد الحرص على هذا النقد وقد أفتن به أحيانا ، ولكنى أحب أيضا أن يتلقى هؤلاء الناقدون نصحنا لهم لقاء حا ، لعل أحسن ما ننصح به لهم ألا يسرفوا على أنفسهم ولا على الناس .
