الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 32الرجوع إلى "الرسالة"

لحظات

Share

أتعرف هذه اللحظات القصار المفاجئة التى تعرض لك  من حيث لم تكن تقدر ان تلقاها كأنما كانت تكمن فى بعض أنحاء  الزمان، حتى اذا قربت من مكمنها خرجت عليك بما يملؤها من قوة  وحدة، وبما تستطيع ان تثير نفسك من حزن عريض عميق  أو أمل واسع مبتسم. فوقفتك فى طريقك الزمنى واضطرتك بعد  وقفة قصيرة الى أن ترجع الى الماضى البعيد والقريب تستحضر  ما كان فيه من أحداث وتحس ما ترك فى نفسك من ذكرى، أو تضطرك  الى أن تثب وثبة بعيدة الى مستقبل الأيام، فاذا أنت تشيد القصور  وتتخذ من الخيال أحلاما حلوة تحبب اليك الحياة وتملأ قلبك  بالصفح عما جنت عليك من السيئات.؟

أتعرف هذه اللحظات القصار المفاجئة الخصبة التى لم تكن  تقدر فى وقت من الأوقات أنها ستعرض لك أو أنك ستعثر بها،  ولكنك خرجت ذات يوم من دارك تسعى فى ما يسعى الناس فيه  من جدة الحياة وهزلها، وتبلو ما يبلو الناس فى سعيهم من حلو الحياة  ومرها، فاذا لحظة من هذه اللحظات قد سقطت عليك كما يسقط الجدار  على الغريب الذى مر به مصادفة وهو يميل الى السقوط. أو عنت لك  ثم مثلت أمامك كما يعن الشىء النفيس لبعض المارة ثم يمثل بين  أيديهم حين يصلون اليه، واذا هم وقوف أمامه قد أخذتهم الحيرة ثم  غمرهم السرور؟ أتعرف هذه اللحظات القصار المفاجئة التى  يضمرها لك الغيب ويخفى عليك بوادرها وطوالعها ثم يفجأك  بها على غير انتظار، كما يلقاك الرجل تعرفه أو لا تعرفه فيلقى اليك  نبأ من الأنباء لا يرى له خطرا ولكنك لا تكاد تسمع له حتى  يحدث فى نفسك أعمق الآثار وأقواها، وأبلغها وأدعاها الى الحزن  والابتئاس أو الى الفرح والابتهاج؟

إنك تحسب هذه اللحظات حين تلقاها أو حين تلقاك  قصارا لأنك تحصيها بالدقاق والثوانى، وما هى بالقصار لأنها  تحمل فى وعائها الضيق الضئيل من العواطف والأهواء، ومن الأمل  والذكرى، ومن اللذة والألم، ما يضيق به كثير من الساعات بل  كثير من الأيام. إنك تحسب هذه اللحظات مفاجئة لانها عرضت

لك أو لأنك عرضت لها على غير انتظار ولا تهيؤ منها ولا منك  وما هى بالمفاجئة. فان قوى أخرى غير قوتك وغير قوتها قد عملت  منذ أزمان بعيدة فى تهيئتك لها وتهيئتها لك، وفى  دفعك  اليها ودفعها اليك، حتى التقيتما عن مفاجأة فى ظاهر الأمر، وعن  قضاء مدبر وقدر مقدر فى حقيقة الأمر. واذا كلاكما قد صنع  لصاحبه وقدر له تقديرا

هذه اللحظات القصار الطوال المفاجئة المدبرة لا تسنح للناس  جميعا، ولا تسنح للناس فى كل وقت، ولو عرفت وسيلة الى أن أتبين  كيف تسنح للناس ومتى تسنح لهم، ولأيهم تسنح لكنت من أكبر  المستكشفين والمخترعين. وكيف برجل يفضح سر القدر ويهتك  أستار الغيب؟! ولكنت بعد ذلك محسنا الى كثير من الناس لأنى  أعلمهم كيف يتقون كثيرا من الشر، وكثيرا من الألم اللاذع والحزن  المضنى للنفوس والقلوب. ومسيئا الى كثير من الناس لأنى أعلمهم  كيف يفقدون لذات قلما يظفر الناس بمثلها، وكيف يصدهم العلم عن  ضروب من السعادة لا ينعم بها إلا الجهلاء، ولحرصت أشد الحرص  على أن أجهل هذا العلم وأغلق نفسى من جميع أنحائها دون هذه القوانين،  لأنى لا أعدل بهذه اللحظات القصار الطوال المفاجئة المدبرة كثيرا  من أجزاء الزمن مهما تطل، ومهما تقصر، ومهما تمتلئ ومهما تفرغ،  وأى حزن ممض مرمض يشبه فى اللذة المحرقة اللاذعة، وفى السعادة  المظلمة القاتمة هذا الحزن الذى حملته لحظة من هذه  اللحظات فى ليلة من الليالى فوضعته فى قلبى ثقيلا خشنا  شاقا، ولكنه على ذلك كله حلو، ولكنى على ذلك أحببته وكلفت  به. ولكنى على ذلك حمدت هذه اللحظة القصيرة المفاجئة التى حملته  حتى إذا بلغت قرارة نفسي وضعته فيها هادئة مطمئنة الى من أقصى  الزمن، وأقبلت به متباطئة متثاقلة كما توضع الصخرة الثقيلة فى مكان  من الأمكنة فى غير عنف ولا سأم ولا كلال.

كنت مع جماعة من الأصدقاء نشهد التمثيل ونسمع الموسيقى والغناء  فى الأوبرا. قد فرغنا لما نشهد وما نسمع، وتركنا أعباء الحياة  وأثقالها جميعا فى تلك العربة التى كانت تنتظرنا بالباب، وقد حفظت  لكل واحد منا ما ائتمنها عليه من الودائع لترده الينا متى عدنا اليها،  ولم تكن ودائعنا تلك التى ائتمنا عليها العربة وتخففنا منها قبل أن  ندخل الأوبرا الا حياتنا اليومية وما فيها من مشقة ولين،  ومن مودة وبغض، ومن يأس وأمل، ومن ألم ولذة، ومن نشاط

وخمود. تخففنا من هذا كله وسللنا نفوسنا منه الى حين كما تسل  السيوف من أغمادها، وخلصنا بقلوبنا ونفوسنا نقية صافية  مصقولة كأنها المرآة نعرضها للممثلين لينعكس فيها ما يبدعون  من مظاهر الجمال الفنى فى التمثيل والغناء. وكنا لا نحس  الا ما نشهد ونسمع، ولا نفكر الا فى ما نشهد ونسمع فاذا وقف  التمثيل وتفرقنا فى أبهاء الدار أو لبثنا فى أماكننا لم نتحدث  الا بما شهدنا وسمعنا نصفه ونستمتع به، والإ بما سنشهد  ونسمع، نتوقعه ونتنبأ بما سيحمل الينا من اللذة والمتاع. وهل  ينبغى أن يدخل الناس دور الفن إلا على هذا النحو، قد خلصوا للفن  من كل شىء ومن ذكرى كل شىء، وفرغوا للفن لا يشركون معه  فى نفوسهم شيئا، وإنى لجالس فى ناحية من نواحي الدار مع أصدقائى  نتحدث بما كان فى الملعب ونتوقع ما سيكون، واذا صوت يخرج  أصدقائى ويخرجنى مما كنا فيه. . صوت لم أسمعه منذ أعوام وقد  كنت أسمعه كل يوم، صوت قد بعدت آماد الزمان والمكان بينه  وبين سمعى حتى تقطعت بينه وبينى الأسباب، وحتى كدت أنسى  نبراته، وكنت أفكر فيه تفكيرا بعيدا نائيا حين كان يحدثني  عنه المتحدثون. ثم دنا هذا الصوت ودنا، ثم امتدت يد فامتدت  اليها يدى. ثم كانت مصافحة ثم كانت تحية. ثم كان استئذان  فى الجلوس، وأذن به، ثم كان وجوم من صاحب الصوت،  ووجوم ممن كان يبلغه الصوت لم يطل، ولم يكن من اليسير أن  يلحظ، ولكنه مع ذلك كان طويلا ثقيلا. ثم كان حديث قصير  فى أشياء لا تغنى ولا تفيد ولا تدل على شىء، ثم شرب القهوة  واحرق السيجارة، ثم تحية الوداع، ثم الافتراق.

لست أدرى أذاق أصدقائى لذة التمثيل بعد ذلك أم شغلوا عنه؟  أما أنا فأعلم أنى لم أذق للتمثيل بقية الليلة طعما، انما كانت الأصوات  تبلغ أذنى ثم لا تصل الى نفسى وانما تقف من دونها وقوفا لأنى  كنت أفكر فى غير التمثيل، ولأنى صرفت عن الغناء والفن صرفا،  لم دنا الى هذا الصوت، وكان قد بعد وأمعن فى البعد؟ لم امتدت  إلى هذه اليد وكانت قد قبضت عنى قبضا؟ لم أتصل الحديث بين  صاحب الصوت واليد وبيني كانت قد انقطعت بينه وبينى الاحاديث،  بل كانت قد انقطعت بينه وبينى الصلات إلا أن نضطر اليها اضطرارا  حين تجمعنا المجامع، أو نلتقى على غير موعد ولا انتظار. ثم لا نستطيع  أن يهدى بعضنا الى بعض ما ينبغى من الاعراض فى مثل ما نحن

عليه من الجفاء. لم دنا لى هذا الصوت؟ ولم امتدت الى هذه اليد؟  ولم اتصل بيننا هذا الحديث؟ لقد كان الحياء يترقرق فى هذا الصوت  الذى كان يدنو الى مأخوذا حزينا ولقد كان الحياء يضطرب فى هذه  اليد التى كانت تصافحنى مترددة مرتعشة بعض الشىء. ولقد كان  الحياء يملأ هذا الحديث فيضطره الى الفراغ مما يعنى أو يفيد. ومع  ذلك فشهد الله ما شككت فى أن هذا الصوت قد دنا الى صادقا، وفى أن  هذه اليد قد امتدت الى صادقة وفى أن هذا الحديث قد اتصل بيننا  خالصا من كل رياء.

وا رحمتاه للناس! إن الضعف الانسانى ليحمل نفوسهم آلاما ثقالا.  وا رحمتاه للناس! إنما فى الحياة من اعراض زائلة ترغبهم فى الخير العاجل،  وتخوفهم من الشر العاجل، لتحمل نفوسهم آلاما ثقالا. وا رحمتاه  للناس! ان أجسامهم لتطغى على نفوسهم وان أهواءهم لتطغى على عقولهم،  وان منافعهم لتنسيهم حقوق الصداقة والصديق، وا رحمتاه للناس! ان رهبة السلطان والرغبة فى جاهه والحرص على قرب المكان منه لتفسد  عليهم من لذات الحياة الخالصة الصافية ما لا ينبغى أن يفسد، وا رحمتاه للناس  ان لهم على هذا كله لنفوسا لم تطبع على الشر، ولم يحل بينها وبين الخير،  وان هذه النفوس التى تضعف حتى تتورط فى ما لا ينبغى لها، لتختلس  الفرص الى القوة والخير اختلاسا، وتختطفها اختطافا، وتنعم منها  باليسير الضئيل فى اللحظة القصيرة المفاجئة، لم يكن تنتظر ولم يكن  يدبر السعى لها تدبيرا، وانما سنحت فاقتنصت كما يسنح الصيد وتمكن  منه الفرصة فيقتنص. وا رحمتاه للناس! لو علموا أن منافع الحياة  وأعراضها وأغراضها وما فيها من رغبة ورهبة، ومن مكانة وجاه  لا تزن كلها لحظة قصيرة مفاجئة يصفو فيها الود، ويخلص فيها  النصح، ويفرغ فيها الصديق للصديق، لغيروا من حياتهم ومن سيرتهم  الشىء الكثير.

عرضت لى هذه اللحظة القصيرة المفاجئة فى ليلة من ليالى  الأوبرا، وما أكثر ما تعرض هذه اللحظات القصار المفاجئة لكثير  من الناس فى هذه الأيام السود، فاللهم، ارفع عن الناس مقتك وغضبك  واللهم هىء للناس حياة لا يخاف الصديق فيها لقاء الصديق، ولا يختلس  الصديق فيها لقاء الصديق، ولا يقطع الصديق فيها أسباب الود والحب،  لا لشىء الا لأنه يخاف بأس السلطان أو يرجو رضى السلطان.

اشترك في نشرتنا البريدية