الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثامن عشرالرجوع إلى "الرسالة"

لم لا تقول الشعر (١)؟, الحمى داء ودواء

Share

كتبت الى أيها الأخ الكريم تسألنى (لماذا صمت بعد  تغريد، ونضبت بعد فيض، وسكنت بعد المرح، واكتأبت  بعد الفرح؟ وما هذا الوجوم والإطراق بعد التهلل والاشراق؟  أين قلبك الهدار، وقلمك المكثار؟ وأين شعرك الشاعر،  ونظمك الساحر؟ ليت شعرى، وقد أمكنك القول، لم  لا تقول الشعر؟)

يا أخى بماذا اجيبك؟ لقيت الحياة مبتسما، ونشأت مترنما،  أطالع تباشير الصباح مرحا كالأطيار، مترنحا مع الاشجار،  تروقنى ألوان الأفق، وتدهشني طلعة ذكاء فى مواكب الضياء،  أراقب الأضواء، فى الصباح والامساء، وأساير الظلال، بالغدو  والآصال. وأخلو الى القمر أشرب ضياءه، وأحس فى نفسى صفاءه، وأقول:

البر والبحر ذوب من سنا قمر   تردد الطرف فيه فهو حيران

وأتأمل الأزهار فى شعاعه، وأقبل الورد فى لألائه.

وأساير النيل أجرى مع مائه. واضطرب مع أمواجه،  وأقف على البحر فرحا بآذيه المهتاج، معجبا بسلاسل الأمواج،  أرقب العراك المتواصل، بين الماء والساحل.

وكم طربت لزقزقة العصافير فى نور الصباح، وتنزيها على متون  الرياح، وضحكت لبكور الغراب، سابحا فى الضباب.

وكم فتننى الوجه الجميل والخلق النبيل فقلت:

فى كل حسن أرى سرا يجاذبنى   نفسى، ومالى بهذا السر عرفان

أرى الجمال فتطبعه زجاجة العين على صفحة القلب فاذا  هو على لسانى وقلمى. فانطلق قائلا معجبا. ومنشدا مطربا،

وكل شىء يبعث الأمل، ويحدو الى العمل، وكأن القضاء  طوع الخيال، وليس فى الدنيا محال. وكأن الانسان يستطيع  أن ينحت الجبال بقلمه، وينزف البحر بفمه. والمستقبل  وضاء، وكل ما فى العالم ضياء.

ثم نفذ الى الفكر الى ما وراء الظاهر، وتطلع الى ما فى السرائر،  وجاوز القشر الى اللباب، وخاض الضحضاح الى العباب،  وكشف المجاز عن الحقيقة، وطالع ضمائر الخليقة. فأنبهم  العالم واستعجم، فاذا كل شيء مبهم، فالفكر فيما وراء الحجب  جائل، وكل سر هنالك هائل. الضوء هنالك ضباب، والبصر  حجاب.

فامحت الأشكال وخفيت الألوان، وعيت الريشة فى يد  الراسم، وحار القلم فى بنان الشاعر، وبهِت المنطق دون البيان،  وجمد اللفظ على اللسان. ويبقى السر المحجب آبيا على كل  مطلب، أو يبص من الحقيقة حاجب يعظم عن ضيق الألفاظ  ويكبر على سلاسل القوافى والأوزان.

ورحم الله الشاعر سنائي إذ يقول: "رجعت عما قلت إذ ليس  وراء الألفاظ معان، وليس لما ندرك من المعانى ألفاظ.

أهم بالامر الصغير فاذا هو حلقة فى سلسلة, وطريق الى كل معضلة, وجزء من كل حقيقة هائلة.

وأحاول الأمواج فتنفتح عن الأعماق، فيضل الفكر  وتزيغ الأحداق. وأعالج حمرة الشفق، فاذا وراءها خبيئات  الأفق، واذا الأفق صلة الأرض والسماء، وكيف بما فيهما  من حقائق - وكيف بما أستسر من أسرار الخالق؟

وأهم بالكلام عن الحيوان فاذا أنا فى لجة الحياة، وهى  السر العجاب، وسطها فوق الأرض وطرفاها فى التراب.

وأريد أن اصف الذرة فاذا هي والشمس سواء - باهرة  الحقيقة رائعة الضياء. أنظر الى الصغير فيكبر، وأعمد الى  الواضح فيستعجم

والأمل تكسرت أمواجه على صخور الحقائق, وضل سرابه فى صحارى الحياة

يا أخى: ها أنا على ساحل المحيط الأعظم حائر الطرف بين  اللجة والشاطئ، مقسم الفكر بين الظاهر والباطن. ولست أدرى  أأبقى صامتا مبهوتا، أو أهجم على الأهوال، وأغوص فى  الأعماق، ثم أبين عن عرفاني وجهلى، وإدراكى وعجزى، أو  أرجع الى العهد القديم أصف الألوان والأشكال والضياء والظلال. . . .؟

اشترك في نشرتنا البريدية