الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 274الرجوع إلى "الرسالة"

مائة صورة من الحياة

Share

٨ -  سائل

في ميدان (المرجة) أكبر ميادين دمشق وأهمها، وفى محطة (الترام) أظهر بقعة فى ذلك الميدان وأحفلها على ضيقها بالناس، سائل طويل بائن الطول، أعمى قبيح العمى، يقوم حيال عمود الكهرباء وكأنما هو لطوله عمود ثانٍ، لا يريم مكانه ولا يتزحزح  عنه، ولا يفارقه لحظة من ليل أو نهار، فهو أبداً يزحم الناس  بمنكبه الضخم العريض، وثوبه الدنس القذر، ويؤذيهم بصوته الأجش الخشن ونغمته القبيحة المملة، وكلماته التى لا تتبدل ولا تتغير: (من مال الله يا أهل الخير، والله جوعان ! الله لا يجوعكم والله كاس العمى صعب ...) لا يكف لسانه عن ترديدها، كما أن لسان صبيه الذى يحمله دائماً لا يكف عن البكاء والعويل ..

وكنت أمر بالميدان نهاراً، وآتيه نصف الليل، وأجئ  تارة عند طلوع الشمس، فأجد ذلك السائل قائماً فى الحالات كلها بجانب العمود، وكفه مبسوطة كأنها طبق ... ولسانه ولسان صبيه عاكفان على السؤال والبكاء، كأنما هما اسطوانة تدور دائماً وأبداً لا كلل ولا ملال ... فكنت أتألم منه حيناً وأنقم من الشرطة أنها لا تباليه ولا تحفل مكانه، وأشفق عليه حيناً فأعطيه من بعض ما أجد حتى رآني رفيقي فلان، فقال لى:

- ماذا ؟ أتعطى مثل هذا ؟ - قلت: ولم لا أعطيه وهو أعمى مسكين، يسأل الليل  والنهار لا يفتر ؟ فلو كان سؤاله تسبيحاً لكان من الملائكة ... ويقسم أبداً أنه جائع، وولده على كتفه يبكى من الجوع ... أفأضنَّ عليه بقرش واحد يقيم صلبه ؟

فضحك رفيقى وقال: - لا هو بالجائع، ولا الولد ولده، وإنه لأغنى منى ومنك .. - قلت: هذا لا يكون - قال: فتعال معى ... ودنا من السائل، فهمس فى أذنه ... - يا أبا فلان؟ ألا تؤجرنا دارك التى فى (الشاغور) ؟

ففتح الأعمي عينيه. . . فنظر فى وجهه. فلما عرفه قال: - بلى، ولكنى لا أنزل بها عن عشرين ليرة ذهبية ... - قال رفيقي: ألم تؤجر الدار الأخرى بثمانى عشرة؟  فهذه مثلها ...

- فقال: هو ما قلت لك ... وعاد يصيح بنغمته القبيحة المملة، وصوته الأجش الخشن: (من مال الله يا أهل الخير، والله جوعان، الله لا يجوعكم !  والله كاس العمى صعب ...) !!

اشترك في نشرتنا البريدية