الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الخامسالرجوع إلى "الرسالة"

مجمع البحور وملتقى الأوزان

Share

يحسن بنا كلما دخل الأدب العربى فى طور جديد، أو ظهرت  به بدعة جديدة، أن نقف لحظة لنحقق أمر هذا الطور الجديد،  وهذا المنهج الذى يريد بعض الأدباء أن ينهجه. وبديهى أن الكائن  الحى يجب أن يكون فى تدنى أبدا وفى تحول. لكن يجمل بنا من  آن لآن أن نقف قليلا لنحلل هذه الاتجاهات الجديدة، لكى نكون  على بصيرة من أمرنا، ولكى نمشى على علم وهدى. فان بعض السبل  الجديدة يؤدى الى الخير، وبعضها لا يفضى الى شىء.

وقد ظهر فى عصرنا هذا ضرب جديد من الشعر، لم يعرفه  الأوائل ولا الأواخر، ولا نعرف فى شعراء الشرق من عرب  وترك وفرس من نحا هذا النحو، ولا فى شعراء الغرب فى الأدب  الأنكليزى والفرنسى والألمانى، ممن له شأن وخطر، من سلك  هذا السبيل: وإن كان بين قراء (الرسالة) من يعرف شاعرا  ذا شأن طرق هذا الباب من قبل. فقد يسرنا أن نعلم عنه ما جهلناه.

أما هذا الضرب من القريض -وقد سميناه مجمع البحور-  فانه يسوغ للشاعر فى المنظومة الواحدة والموضوع الواحد، أن  يجمع بين ما شاء من بحور الشعر، بلا قيد ولا شرط؛ فينتقل كما  شاء وشاء له الهوى من وزن إلى وزن بلا سبب ظاهر وبدون أية قاعدة  مفهومة أو غير مفهومة. فيبدأ منظومة بالخفيف مثلا، ويمضى فيه  الى بيتين أو الى أبيات، ثم يعرج على البسيط فينظم فيه أيضا بيتين  أو ثلاثة. ثم يميل فجأة الى الرمل ثم لى الكامل. وهكذا لا يزال  ينتقل من بحر الى بحر. ويثب من وزن الى وزن، والمنظومة  واحدة والموضوع واحد.

ليس من شك فى أن هذا الضرب من الشعر جديد. ولو أن  المتنبى وهو الآمر الناهى فى مملكة القريض، قيل له إن فلانا  ينظم القصيدة الواحدة فيجعلها من بحور شتى، لقال لمحدثه: (يا هذا  إن شاعرك مثله كمثل الطاهى الذى يخلط الحلو بالحامض، والمائع  بالجامد، والرطب باليابس، والصلب بالشهد؛ ثم يرجو بعد هذا  أن يكون فيما طهاه شفاء وغذاء.

مفهوم أن يكره الانسان التقيد بالقيود من أى نوع كانت.  والنفس تثور من آن لآن، تحاول تحطيم السلاسل التى تقيدها  وتمنعها من ارتياد منهل الحرية عذبا نميرا. وقد رأينا منذ زمن كيف

ابدع بعض الشعراء نظم القريض مرسلا، من غير قافية ثابتة؛  لكن مع الاحتفاظ بالوزن. وكان لهذا الضرب من القريض  أنصاره، الذين نادوا فى الناس بأنه سيرقى بالشعر العربى الى سماء  ما طاولتها سماء. ثم لم تلبث تلك النار أن باخت، وتلك الأصوات  أن خفتت. وأصبحنا اليوم وأكثر الأدباء متفق على أن إرسال  القافية لا يلائم الشعر العربى؛ فلم نكد ننعم بتلك الحرية حينا حتى  عدنا بأنفسنا طائعين إلى حمل السلاسل والأغلال، مضحين بتلك  الحرية العروضة التى لم تنتج لنا إلا كل فاتر تمجه النفس.

ثم جاءه بعد هذا بدعة أكبر وأخطر. وهى بدعة (مجمع  البحور) التى وصفناها. ومما يؤسف له أن يكون شاعر من أجل  الشعراء شأنا وهو (شوقى) على ما به من قدرة ومكانة، وهو  الشاعر ذو النفس الطويل. الذى ما كان يعييه أن ينظم فيطيل ما شاء  الأطالة. وهو الذى نظم (صدى الحرب) و(مقدونيا)  و (نهج البردة). أنه برغم هذا رأى ألا يلتزم وزنا واحدا فى  رواياته التى كتبها أخيرا. فأحيانا كان شخص من أشخاص الرواية  يسأل السؤال فى وزن، فيرد عليه بوزن آخر. وكثيرا ما ينتقل  المتكلم الى وزن جديد، وموضوع الحديث لم يتغير.

لقد قيل أن لشوقى فى ذلك أسوة بكبار الشعراء الروائيين أو  القصصيين، وهذا ليس بصحيح. فان جميع روايات شكسبير  من وزن واحد وهو المسمى lanbic pentaneter وملحمتا هوميروس  كلتاهما من بحر واحد، والفردوس الضائع لملتون كلها من وزن  واحد. والشاهنامه والمثنوى كلها ذات وزن واحد. وبرغم ما قيل  وما يقال عن روايات شوقى، فان كثيرا من الناس يقر بأن هذا  الأكثار من الأوزان قد افقدها قسطا كبيرا من الحسن.

ونحن نسوق هنا على سبيل المثال قطعة من (قمبيز) وهى الرواية  التى تفوق صواحبها فى هذا الأمر.

جاء فى المنظر الأول من الفصل الأول الحوار الآتى  بين نتاتس وعمها فرعون (أمازوس): نتاتس: نفريت يأبى المسير هب لى  مكانها منك يا أمازوس فرعون: أنت التى تذهبين،  نتاتس: لم لا ؟  فرعون: هذا هو النبل يا نتاتس (١)

بخ بخ بنت أخى (٢) نتاتس (فى استنكار): أنت يا قاتل عمى لا. . أبى يأبى وأمى (٣) فى هذا الحوار القصير الذى يتألف من ثلاثة أبيات ومصراع

واحد، ثلاثة أوزان مخلع البسيط ومنه البيتان الأولان  ومجزوء الرجز ومنه المصراع الذى يليهما. ثم مجزوء الرمل  ومنه المصراعان الأخيران.

وقد يرى بعض الناس أن من الغلو فى الحرية أن يكون أحد  المصراعين فى البيت الواحد والثانى من بحر آخر. ولكن فى الحق  أن هذا هو التطور المنطقى لمجمع البحور. فاذا كان مستحسنا أن  يغير الأنسان الوزن بعد بيتين أو ثلاثة، فليس هناك معنى لأن  يمتنع المرء عن تغييره فى كل مصراع، بل وفى أقل من مصراع وقد فعل ذلك أحد الأفاضل فى الجزء الثالث من (أبولو) فى  قصيدة من هذا النوع عنوانها (الشراع) جاء فيها:

وانتزع عنك كساء الليل ثوبا: (رمل) شحبا (؟) تحتك اللجة السحيقة تدوى (خفيف) فوقك اللانهاية الابدية (=) وأمامك الأفق البعيد يضلل (كامل)

والقارئ الذى يهمه هذا الضرب من الشعر يجب أن يرجع  إلى هذه القصيدة لأنها خير مثال له بين أيدينا. ولولا ضيق المقام  لتمثلنا بكثير من أبياتها.

وقد جاء فى العدد الرابع من الرسالة منظومة للشاعر الفاضل  إيليا أبو ماضى عنوانها الشاعر والسلطان الجائر. وقد أعجبنا بما  فيها من خيال بديع، وكان افتتاحها بنوع خاص منبئا بأن المنظومة  من الدرر الغوالى. الا أن هذه الدرر كانت ذات نظام مختلط إذ  جعل الشاعر يغير من وزنها ست مرات أو سبعا. فلا تكاد الأذن  تطمئن الى نغمة، حتى يستبدل بها نغمة تخالفها وتغايرها. والذين  اكتفوا بقراءة القطعة الأولى حكموا بأن القصيدة من أحسن  الشعر؛ وأما الذين قرأوها الى النهاية فقد أسف كثير منهم على  أن الشاعر قد أفقد المنظومة حسنها لهذا الاضطراب فى النظم؛ لأن  لكل بحر أثرا خاصا فى النفس، وهذا التقلب السريع مما يزعج  الخاطر وينفر الأسماع.

لسنا بحاجة لأن نسرد للقارئ أمثلة أخرى ندل بها على هذه  الظاهرة الجديدة، التى بدت فى كتابات بعض الشعراء، وليس من  شك فى أن (مجمع البحور) هذا سيكون شأنه شأن الشعر المرسل،  سينادى به بعض الكتاب حينا، وقد يستفحل أمره زمنا ما. ثم  لا يلبث أن تخمد جذوته، ويذهب كما ذهب أخ له من قبل ،

اشترك في نشرتنا البريدية