الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثانيالرجوع إلى "الرسالة"

مدام دى لوزى

Share

من (علبة الصدف)

-1- دخلت فمدت بولين دى لوزى إلى يدها. ثم لزمنا الصمت حينا.  وكانت قد ألقت فى شىء من الإهمال على أحد الكراسي طرحتها  وقبعتها من الخوص

وفتحت على المعزف صلاة أورفيه. ثم دنت من النافذة, ونظرت  إلى الشمس تهبط في الأفق الدامي. فقلت لها آخر الأمر, أتذكرين  الكلمات التى نطقت بها منذ عامين يوما بيوم, فى أسفل هذا التل,  وعلى شاطئ هذا النهر الذى تديرين إليه عينيك الآن؟ أتذكرين  انك, وأنت تديرين حولك يدى المتنبئة, قد أريتنى معدما أيام المحنة,  أيام الجرائم والهول؟

لقد وقفت على شفتى إعلان حبي إليك وقلت: (عش, وجاهد  فى سبيل العدل والحرية!) سيدتى, لقد مضيت جريئا منذ دلتنى  على الطريق يدك التى أغمرها كما كنت أحب بالدموع والقبل. لقد  أطعتك, فكتبت, وخطبت. أنفقت عامين أجاهد فى غير هوادة  أولئك الأغمار الجياع الذين ينشرون الاضطراب والبغض, والزعماء  الذين يسحرون الشعب بهذه المظاهر العصبية يصورون بها حبا كاذبا,  والجبناء الذين يضحون فى سبيل الفوز القريب .

فاضطرتنى إلى الصمت بحركة من يدها وأشارت أن استمع!  هنالك سمعنا فى ثنايا الهواء العطر, هواء الحديقة حيث تصدح الطير, صيحات بالموت تأتى من بعيد: " إلى المشنقة أيها الأرستوقراطى!..  ليوضع رأسه على الرمح !".

وكانت شاحبة, ساكنة قد وضعت إصبعا على فمها . قلت, إنما هو الطلب يجد فى أثر أحد البائسين. فهم يهاجمون  الدور ويقبضون على الناس نهارا وليلا في باريس. ولعلهم يدخلون  هنا. يجب أن أنصرف حتى لا أعرضك للشر. فمع أنى لا أكاد  أعرف في هذا الحي, فأنا فى هذه الأيام ضيف خطر.

قالت: أقم! وللمرة الثانية مزقت الصيحات الهواء الهادئ فى المساء. وكان  يخالطها وقع الخطى وطلق النار. كانوا يدنون وكنا نسمع: "سدوا  المنافذ, لا يفلت الوغد!"

وكانت مدام دى لوزى ظاهرة الهدوء, يعظم حظها منه كلما  قرب الخطر . قالت لنصعد إلى الطبقة الثانية؛ فقد نستطيع أن نرى من ثنايا  النافذة ما يحدث خارج البيت .

ولكنها لم تكد تفتح الباب, حتى رأت فى الدهليز رجلا ممتقعا  مختلط الهيئة, تصطك أسنانه, وتصطدم ركبتاه من الاضطراب.  وكان هذا الشبح يغمغم بصوت مختنق: أنقذوني خبئوني!...  هاهم أولاء... لقد اقتحموا بابى؛ وأغاروا على حديقتى.. هم يدنون..

- 2 - عرفت مدام دى لوزى "بلونشونيه" الفيلسوف الذى يسكن  الدار المجاورة, فسألته فى صوت شديد الخفوت : هل بصرت بك طاهيتي؟ فهى يعقوبية أجاب لم يرنى أحد . قالت الحمد لله, أيها الجار :

ثم قادته إلى غرفة نومها حيث تبعتهما. ولم يكن بد من الحيلة,  ولم يكن بد من أن تجد مخبأ تخفي فيه (بلونشونيه) أياما, أو ساعات  على الأقل, حتى تخدع الطالبين وتتعبهم. واتفقنا على أن أراقب  المسالك إلى البيت حتى إذا آذنتهما أنسل الصديق البائس من باب  الحديقة الصغير.

ولم يكن فى أثناء ذلك يستطيع أن يثبت على قدميه. كان  رجلا مصعوقا .

وحاول أن يفهمنا أنهم يجدون فى طلبه, هو عدو القسيسين  والملوك, لأنه إئتمر بالدستور مع مسيو (دي كزوت) وأنضم فى 10 أغسطس إلى المدافعين عن قصر التويلري. ولم يكن هذا كله الا اتهاماً  دنيئاً. إنما الحق أن (لوبان) كان يتبعه بحقده وموجدته؛ كان لوبان  جزاره, وكثيرا ما هم أن يضربه بالعصا ليأخذه بأن يحسن وزن اللحم,  ولكنه الآن يرأس لجنة الحي الذي يقوم فيه حانوته .

وبينا هو يغمغم بهذا الاسم مختنق الصوت, خيل إليه أنه يرى  لوبان نفسه, فأخفى وجهه بيديه. وكان لوبان يصعد حقا في السلم.  فأحكمت مدام دى لوزى رتاج الباب ودفعت الشيخ خلف ستار.  ودق الباب, وعرفت بولين صوت طاهيتها, التي كانت تصيح بها  أن افتحى, وان لجنة البلدية بالباب ومعها الحرس الوطنى, يريدون  أن يفتشوا, يزعمون أن بلونشونيه فى البيت, وأنا واثقة بأنهم  مخطئون, فما كنت لتخفى وغدا كهذا, ولكنهم لا يريدون تصديقى .

فصاحت مدام دى لوزي من وراء الباب حسن! فليصعدوا!  أطلعيهم على البيت كله من أسفله إلى أعلاه .

وسمع البائس بلونشونيه هذا الحوار فأغمي عليه خلف ستارة,  ولم ترد عليه الحياة إلا بعد مشقة حين نضحت صدغيه بالماء. فلما أفاق  قالت الغادة للشيخ في صوت خافت: اعتمد على صديقي, واذكر  أن النساء مكرة .

ثم أقبلت في هدوء ودعة كما لو كانت تعاين بعض شؤون البيت  إلى السرير, فجذبته من مكانه قليلا, وفضت الغطاء واستعانت بى فهيئنا  بين وسائده الثلاث فراغا مما يلى الحائط .

وبينا هى فى ذلك إذا ضجيج عظيم للأحذية, والقباقيب,  والكرانيف والأسواط الغلاظ يسمع فى السلم. فقضينا ثلاثتنا دقيقة  ملؤها الروع, ولكن الضجيج صعد قليلاً قليلاً فوق رءوسنا.  فعرفنا أن الحرس قد بدءوا بقيادة الطاهية اليعقوبية يفتشون على  البيت. وكان السقف يضطرب, وكان يسمع للقوم نذير, وضحك  غليظ, وضرب بالأرجل والحراب فى الجدران. فتنفسنا ولكن لم  تكن فى الوقت سعة. واعنت بلونشونيه علي أن يدخل فى الفراغ  المهيأ بين الوسائد .

وكانت مدام دى لوزى, تهز رأسها وهى تنظر إلينا. فقد كان  للسرير بعد هذا العبث شكل مريب. فحاولت أن ترده إلى هيئته  الأولى, ولكنها لم تفلح .

قالت : لابد من أن أنام فيه . ثم نظرت فى الساعة , فاذا هى السابعة مساء .

فقدرت أن إسراعها إلى النوم فى هذه الساعة سيبعث الريبة.  ولا سبيل إلى التفكير فى تكلف المرض: فان الطاهية اليعقوبية  خليقة أن تفضح هذا المكر .

فلبثت على هذا النحو مفكرة لحظات, ثم إذا هى فى هدوء  وبساطة وحياء, ملؤه الجلال تخرج من ثيابها أمامى, ثم تدخل فى  سريرها وتأمرنى أن أخلع نعلى وأتجرد من ثيابى وهى تقول: يجب  أن تكون خليلى وأن نفاجأ فى هذه الحال. فإذا أقبلوا لم تجد من الوقت  ما تهيئ فيه زيك وتصلح من شكلك. فتفتح لهم فى لبسة المتفضل  وقد أنتثر شعرك ...

وكان كل شىء قد تم كما قدرنا حين هبط الحرس الوطنى صاخبا ساخطا .

وأخذ بلونشونيه البائس رعشة عنيفة كان السرير يضطرب  لها اضطراباً .

وكان تنفسه من القوة بحيث كان يجب أن يسمع من خارج الغرفة . قالت مدام دي لوزي: يا للخسران لقد كنت شديدة الرضى  بهذه الحيلة. وبعد فلا ينبغي أن نيأس فلعل الله أن يعيننا .

واضطرب الباب لصدمة قوية . قالت: من الطارق؟ فأجيبت: هم ممثلوا الأمة . قالت: ألا تنتظرون حينا؟ قيل: افتحى وإلا كسرنا الباب . قالت: هلم فافتح يا صاحبى . وما هى إلا أن كانت المعجزة فانقطع اضطراب بلونشونيه  وزحيره فجأة .

- 2 - وكان أول الداخلين لوبان وقد اتخذ منطقته وتبعه اثنتا  عشرة حربة.

فأدار بصره بين مدام دى لوزى وبينى ثم قال: بخ, بخ! لقد  استكشفنا عاشقين! معذرة أيتها الحسناء  ثم التفت إلى الحرس وهو يقول: إنما الأخلاق للثائرين. ولكن  هذه المصادفة رغم حكمته قد ملأته سرورا .

فأقبل حتى جلس على السرير وأخذ بذقن الحسناء الأرستقراطية  وهو يقول: نعم أن هذا الفم لم يخلق ليردد فى الليل والنهار: أبانا  الذى فى السماء !

ولو قد فعل لعظمت الخسارة, ولكن الجمهورية قبل كل شىء.  إنما نبحث عن الخائن بلونشونيه. هو هنا, لا اشك فى ذلك. لا بد لي  منها. لأتقدسه لتضرب عنقه. ولأكونن بذلك سعيداً .

قالت : فتشوا عنه اذن . فنظروا تحت الاثات وفى الخزائن ,وأدخلوا الحراب تحت السرير , وجسوا الوسائد بالخناجر .

وكان لوبان ينظر إليه بمؤخر عينه وهو يحك أذنه. فأشفقت  مدام دى لوزى أن يوجه إليه أسئلة محرجة, فقالت انت تعرف البيت  كما أعرفه يا صاحبى. فخذ المفاتيح وطوف بمسيو لوبان بكل مكان.  وأنا اعلم انك ستجد لذة وسرورا فى إرشاد المخلصين للوطن.

فقادتهم إلى الكهف حيث نثروا ما فيه من حطب وشربوا عددا  ضخما من القناني. ثم شق لوبان بكرنفته الدنان المترعة. فلما خرج من  الكهف الغارق فى النبيذ أذن بالرحيل. فصحبتهم حتى أغلقت من  دونهم الباب, وأسرعت أعلن إلى مدام دى لوزى أن قد نجونا . فلما سمعت هذا النبأ عطفت رأسها إلى الفراغ بين السرير والحائط,  ونادت: مسيو بلونشونيه! مسيو بلونشونيه.

فأجابها رجع نفس ضئيل . هنالك صاحت الحمد لله! لقد روعتنى فقد كنت أرى أنك  قضيت!. ثم التفتت إلى قائلة: مسكين أنت أيها الصديق لقد كنت  تجد لذة عظيمة فى أن تقول لى من حين أنك تحبنى, لن تقولها   لى بعد اليوم.

اشترك في نشرتنا البريدية