الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 59الرجوع إلى "الرسالة"

مرشد المتعلم، ترجمة الأستاذ محمد أحمد الغمراوي

Share

كثيراً ما هممت أن اكتب في أمر من أمور التعليم إلى  الرسالة الغراء، عالماً أن صدرها الرحب يتسع لذلك البحث لما فيه  من مساس بناحية حيوية من نشاطنا، غير أني كنت كلما هممت  بذلك قعدت بي معان صدتني عن عزيمتي. فأنني معلم بي ما بصاحب  الفن من حب لفنه وانصراف بقلبه إليه. غير أن التعليم مرتزقي،  وسبيل الأرزاق غير حبيب، فما يكاد الرجل ينصرف من  مضطرب عيشه حتى يود أن يتناسى ما اعتراه في ذلك المضطرب،  فتراه يقبل على كل حديث غير حديث فنه، ويحب الخوض فيما  يبعد به عن ذكر صناعته. ومع ذلك قد رأيتني أقرأ كتاباً أهداه  إلي صديق كريم قد ترجمه عن الإنجليزية إلى العربية، وهو الأستاذ  محمد أحمد الغمراوي، فبدأت قراءته لأنه كتاب صديق، ثم  رأيتني أسير في قراءته مقبلاً عليه لما فيه، واضمحلت صورة  الصديق شيئاً فشيئاً من ثنايا السطور حتى صرت بعد لا أجدها،  وصرت أعاود الكتاب لنفسه، وأطلب صحبته وحديثه لما أجده  فيه من فائدة ولذة ونشاط.

ذلك الكتاب سفر قيم. أقل ما أصفه به للشبان أن قراءته  ضرورة لازمة لهم إذا شاءوا أن يخرجوا من دراستهم على أكبر  قسط من الفائدة من وراء جهدهم وعملهم. وإذا كنت أخاطب  الشبان بذلك فأني أفعل ذلك لعلمي بأنهم أحوج الناس إلى قراءة  مثله، ولكن ليس معنى هذا أن من هم من طبقة أعلى من الشبان  سناً قد بعدوا عن أن يجدوا في قراءته فائدة، أو استغنوا عن أن

ينتفعوا بما فيه من بحوث طريفة فأني أقول غير مجامل ولا مبالغ  أنني قد خرجت من قراءة ذلك الكتاب وقد علمت كثيراً مما  كنت أجهل، واستوضحت كثيراً مما كان غامضاً مبهماً عندي،  وغيرت كثيراً مما كنت متجهاً إليه، قانعاً به. وفضل ذلك  الكتاب لمن يقرؤه من الكبار أنه يوحي إليهم معاني جديدة بما  يأتي به، مما قد يكون معلوماً لهم، فيرى القارئ المعاني تهم في  نفسه وهو يقرأ كأنما تلك القراءة تثيرها وتوقدها.

قلت أن الطالب الشاب لا غنى له عن قراءة ذلك الكتاب،  وذلك لأنني أعرف أن الطالب الشاب في حياته اليومية يسير سيراً  غير مهتد. فلا هو يجد من يهديه ولا هو إذا وجد من يهديه  بآخذ عنه نظاماً تاماً شاملاً يستطيع أن يهتدي به في كل جهوده  وأعماله على اختلافها. فالطالب يقرأ، ولكنه وهو يفعل ذلك يتجه  إلى حيث تدفعه المصادفة أو المثل، وقد يكون موفقاً في طريقته  كما أنه قد لا يكون موفقاً، ولكنه على أي حال لا يكون في اتجاهه  مرتكناً على أساس قوي علمي. ولا أظن أن بين المعلمين  أو أساتذة الجامعة من يجد فرصة في وقت درسه يستطيع أن  يرشد الطالب فيها إلى خير الطرق التي يسلكها في دراسته، فإن  الوقت مخصص كله لمادة الدروس بطبيعة الحال. ولقد كان من  أشد الأمور إيلاماً لنفسي أن أرى في بعض الأحيان بعض  تلاميذي وهم ينكبون على دراستهم انكباباً غير موفق إذ  يتبعون في ذلك طريقة تجعلهم كمن يحاول السباحة في وجه التيار،  فلا هو موفر جهده، ولا هو سالك سبيله. وكنت إذ أرى ذلك  أحاول جهدي أن أرشد بمقدار علمي، ولكني كنت لا أستطيع  أن أبسط المعنى بسطاً تاماً يستقر في النفس استقرارا متمكناً،  ويحيط بالمصاعب من جميع أطرافها. فكنت أتمنى لو أتيح  لهؤلاء المساكين كتاب يستطيعون أن يجدوا فيه الهداية.

وما كنت أجد تلك الطلبة حتى أتحف الصديق الغمراوي  قراء العربية بكتابه.

يبدأ ذلك الكتاب بمقدمة ككل كتاب في مثل موضوعه،  يهيأ فيها المؤلف عقل الطالب إلى أن يدخل على عمله بذهن  مفتوح وعقل فاحص يقظ، وهذا هو الفصل الأول وعنوانه  (تولى المرء أمر نفسه) ثم يلقي عليه في الفصل الثاني خطة العمل  ويسميها (خطة الغزو) يبين له كيف يقسم وقته للمذاكرة  والدراسة، وما مقدار الوقت الذي يجب عليه أن يجعله لتلك  المذاكرة، وطريقة تقسيم ذلك الوقت على مختلف المواد، وأي  المواد يبدأ بمذاكرتها، وأيها يؤجله في ترتيب المذاكرة، ثم يبين  للطالب أي الطرق أصلح في توزيع لوقت على الدروس: هل  الإصلاح أن يجعل لكل مادة قسطاً صغيراً كل يوم، أو أن يجعل  قسطاً أطول من ذلك بين حين وحين، وهو في كل ذلك يستضيء  بنور التجارب العلمية الثابتة.

وأسلوبه في ذلك البيان أسلوب حي بديع، فهو يقول مثلاً، (ومن الخطر الكبير في استعمال جدول المذاكرة الجمود. أن  من الصعب أن نفرغ من عملنا في كل مادة في اللحظة التي يحل  فيها وقت مادة أخرى، وقد يخطر لنا تخلصاً من هذه الصعوبة أن  نفرد كل ليلة في نهاية المذاكرة حصة صغيرة، قل خمس عشرة  أو عشرين دقيقة نجعلها كزمن احتياطي ننهي فيه أي شيء صغير  قد نكون اضطررنا إلى إغفاله في أية حصة عادية من حصص  المذاكرة، لكن هذه الخطة محفوفة بالمخاطر.) وهكذا يسير  بالطالب حتى يستقر معه على خير الخطط وأوثقها.

ومن خير ما جاء في هذا الفصل ما كتبه على التعب وماهيته  في المذاكرة، وطرق التغلب عليه أو تقليل ضرره.

وفي الفصل الثالث بحث طريف في (تصريف الذاكرة)  وطرق الحفظ، ويليه في الفصل الرابع بحث آخر في مثل طرافته  في (طبيعة الدراسة والتفكير) والفصل الخامس بيان   (طريقة  المذاكرة) وهو بحث عملي لا يستغني عنه الطالب، وقد أفاض  فيه المؤلف إفاضة أحاطت بالموضوع من أطرافه

وأجد نفسي ضنيناً بأن أترك باباً من أبواب الكتاب  لا أكتب عنه كلمة، بل أجد نفسي ميالاً إلى أن انقل إلى القارئ  منه نموذجاً لعله يعرف أي قول فيه وبأي أسلوب، غير أني أعود  إلى نفسي فأذكر أنني إنما أنوه بكتاب رأيت فائدته، على صفحات  مجلة قد لا تتسع لكل ما أريد ذكره من ذلك. ولكن لابد

أن أنوه بالفصل الثامن الذي يعالج فيه المؤلف (الإصغاء وأخذ  المذكرات) فإن هذا الفصل يسد حاجة ماسة عند طلبة المدارس  ولا سيما طلبة الجامعة والمدارس العليا

وقد أضاف المعرب فصلاً بعد الفصل العاشر ألحقه بالفصل  السابع وجعل موضوعه (كتب المراجعة في اللغة العربية).  والحق أن هذا الفصل بحث عميق في تراثنا اللغوي والعلمي، وفق  فيه المعرب كل التوفيق، وأصاب في أضافته كل الإصابة، وقد  تناول فيه أمهات المراجع العربية بالوصف والتحليل فكان فصله دليلاً  يرجع إليه من شاء المراجعة في تلك الأمهات ليهتدي إلى أيها شاء. فأزف إلى الأستاذ المعرب إعجابي الذي لا حد له بذلك الكتاب  وأرجو أن ينتفع به أبناؤنا في جهادهم العلمي، وأوصي من يطلع  على كلمتي هذه من الأخوان أن يصفوه لمن حولهم من الأبناء،  ففيه خير عون لهم ونعم الهادي.

اشترك في نشرتنا البريدية