- ٤ -
يهمنا هنا أن نتعرض بشيء من التفصيل للكلام عن تأميم البنك الأهلي المصري أو بالأحرى تأميم البنك المركزي المصري فالمفهوم أن فكرة التأميم في المشروعات والمرافق المتباينة إن احتملت بعض الكلام والأخذ والرد ، فليس يحدث ذلك في مجال مسألة التأميم بالنسبة للبنك الكبير في الدولة الذي يكون حلقة الوصل وبؤرة التوجيه في الأوضاع الاقتصادية .
ولقد أضحى البنك المركزي Central Bank في كل بلادنا أهمية قصوى في النظام المصرفي السائد فيه ؛ وذلك لما يقوم به هذا البنك عادة من وظائف ، وماله من اختصاصات ، وما يخوله سلطانه من وضع الأسلحة الماضية الحادة في يديه لينظم عن طريقها هذا النظام ، وليتحكم في عرض النقد وطلبه ، ويكفي أن نشير إلى ان البنك المركزي في المجتمع الذي يتعامل في ودائع المصارف ، أى في المجتمع الذي تمثل ودائع البنوك فيه الجانب الاكبر من عرض النقود ، يستطيع أن يفرض رقابته النافذة الفعالة بالاستعانة بما له من قدرة على زيادة أو نفص عرض النقد المتداول . ولقد كشفت هذه الخاصية الهامة للبنك الركزي فيما يتعلق بالرقابة والضبط بعد أن نشر كتاب الأستاذ Waltee Bageht الذي أسماه في عام ١٨٧٣Lambard Street
وكذلك يعرف الجميع أن البنك المركزي يقوم بعملية إصدار البنكنوت ، فضلا عن مركزه كموثل أخير يلتجيء إليه البنوك المالية الأخرى الموجودة في المجتمع ، وهو بعد هذا له الإشراف على عمليات التخالص بين سواه من البنوك ، فضلا عن أنه الخزينة التي تحتفظ هذه البنوك فيها بما يفرضه القانون عليها من قدر من احتياطياتها .
وتبدو أهمية البنك المركزي من الناحية الحكومية من قيامه دور المصرف الحكومي الذي تلتجئ إليه الحكومة
في أوقات الشدة وتعتمد عليه في أي وقت من الأوقات ، ويتبين من ذلك أن البنك المركزي له الإشراف على السياسة العامة لمالية الدولة كما له اتخاذ شتى الإجراءات للمحافظة على سلامة العملة ، فضلا عن بسط رقابته على السوق المالي Capital Market والسوق النقدي : Money Market . والسوق الأول عبارة عن سوق التعامل في الأموال والقروض الطويلة الأجل ، والسوق الثاني عبارة عن سوق التعامل في الأموال والقروض القصيرة الأجل .
لذلك ليس من العجيب ألا تتواني الحكومات عن إنشاء مثل هذه البنوك المركزية ، أو عن تحويل بنوكها التي تتميز بقيامها أو اضطلاعها ببعض هاتيك الوظائف التي تقوم بها البنوك المركزية والتي أسلفنا إجمالها ، من بنوك عادية إلى بنوك مركزية . . خاصة وأن المؤتمر الاقتصادي العالمي المنعقد في عام ١٩٣٣ ، قد قال بضرورة قيام البنوك المركزية في البلاد التي لا تتمتع بوجود هذه البنوك فيها .
ويقول الأستاذ Crowther: إن من حق الدولة بل من واجبها أن تشرف علي الأعمال التي تقوم بها المصارف والبنوك ! لأن في الإشراف على هذه الأعمال ما يتعلق بالصالح العام ، وحيث إن الحكومة هي القوامة على تحقيق هذا الصالح ، فلا اقل من أن تشرف على المصارف وأهمالها ، خاصة وأن هذا الإشراف كفيل أن يفرض وجودها وأثرها على الأوضاع النقدية والاقتصادية في البلاد !
ويقول فيما يتعلق بملكية هذا البنك : هل الأفضل أن تكون خاصة ، أو أن تضمها الحكومة إلى حظيرتها ؟ وبعبارة أخرى : هل الأفضل أن يبقى هذا البنك في الملكية الخاصة ، بالرغم من قيامه بهذه الأعباء والوظائف الخطيرة ، أم الأفضل أن تؤممة الحكومة فتنقل ملكيته إليها ؟
يقول : إنه لا مانع من عدم الإبقاء على الملكية الخاصة
للبنك المركزي ، أي تأميمة ، خاصة متى كان هذا التأميم تدعو إليه المصلحة العامة ، وتوجيه الضرورة الاقتصادية في البلاد .
غير أنه بدلا من أن يدلي لنا برأي قوي في هذا المجال ترك موضوع التأميم - على حسب تعبيره - للمبادئ السياسية ، لتدلي بدلوها فيه ؛ إذ في رأيه أن تأميم البنك ليس يهم الاقتصاديين في شيء . وإنما المهم هو قيام البنوك المركزية للتحمل بالأعباء والاختصاصات التى بها تستطيع أن تهيمن على الأوضاع الاقتصادية ، وأن تنظم الأحوال النقدية والمالية في البلاد .
ونحن من جانبنا - وإن كنا لا نقمط ما يقوم به البنك المركزي من أعباء ووظائف حقة - لا تهمل مسألة تأسيسه ونقل ملكيته الخاصة إلى الملكية العامة ؛ لأن هذا إجراء جوهري ، ليس الاقتصاديون في حاجة إلى التدليل عليه اليوم ، بعد أن فهموا - أو علي الأقل فهم غالبيتهم- ما في هذه الوجهة من حصانة ووجاهة .
والواقع أن الاعتبارات السياسية - كما أشار إلي ذلك العلامة Crowther- لها دخل كبير في مسألة التأميم علي خلاف المركزية في البنوك ، والواجب فحص حالة كل بلد على حدة واختبار الأوضاع السياسية فيه ، ليتبين الوضع الأصلح للبنك المركزي في الدولة .
على أنه يجب الإشارة أيضا في هذا الصدد إلى أن الاتجاه في العالم اليوم ، يرمي إلي تاميم هذه البنوك ، إذ يؤخذ من الإحصائيات أن الغالبية العظمي للبنوك المركزية تمتلكها الحكومات أو تشترك في ملكيتها ، وأن القليل الباقي في سبيله إلى التأميم .
وتأميم البنك المركزي إجراء تقتضيه طبيعة العمل الذي يقوم به ، والأعباء التي يتحمل بها ، والأسلحة التي تضعها الدولة في يديه ، لينظم بها النظام المصرفي والأوضاع النقدية ، ويكفينا الإشارة إلي أمثلة لهذه الأسلحة والوسائل التي يستطيع بها ان يقوم بدوره وأعبائه .
ففي إمكانياته ما يطلق عليه Bank Rate Policy وكذلك ما يطلق عليه Open Market Operations . فضلا عن أن له تأثيرا نسبيا من الناحية الأدبية على سواه من
البنوك كنصائحه وتوجيهاته وتصريحاته التي يدلي بها بين الحين والحين ، إلى غير ذلك من الوسائل والإمكانيات .
وقد قامت في مصر محاولات شتى لإقامة بنك مركزي ، لولا أن الظروف لم تشجع على تحقيق تلك المحاولات ، حتى صدر في العام الماضي القانون رقم ٥٧ لسنة ١٩٥١ بتحويل البنك الأهلي المصري إلى بنك مركزي ، وذلك وفقا لمشروع القانون الذي تقدمت به الحكومة في سنة ١٩٥٠ وقضى بتحويل البنك الأهلي إلى مركزي ، وتمصيره وزيادة إشراف الحكومة عليه
والمهم في ذلك أن هذا المشروع بقانون وقانونه الصادر في ٢٧ مارس من العام الفائت قد استبعد فكرة التأميم ، فلم يؤمم بمقتضاء البنك الأهلي ولا سواه من البنوك
ويمكن إجمال الحجج التي قبلت للعدول والقول بعدم تأميم البنك المركزي أو الأهلي المصري في أن تأميم البنك الأهلي فكرة ذات اتصال وثيق بمشكلة الارصدة الإسترلينية ؟ ذلك أن انجلترا ترحب بهذا التأميم ؛ لأنه سينقل ملكية البنك من الملكية الخاصة إلى ملكية الحكومة المصرية ، وآنذاك ينتقل الدين المصري على انجلترا إلي دين الحكومة المصرية على الحكومة الإنجليزية .
والديون بين الحكومات عادة تكون عرضة للتقلبات السياسية ، فيمكن الإبراء منها ، ويمكن تسويتها بطريقة تضر بالدولة الدائنة ضررا بالغا . . وهكذا ، وكذلك إذا ما خفضت بريطانيا قيمة الأرصدة الإسترلينية - كما فعلت - فإن الخسارة في هذه الحالة ستفع على الأغلبية الساحقة في مصر ، تلك الأغلبية التي تتحمل بدفع الضرائب العامة بعد أن كانت تقع في حالة بقاء البنك الأهلي غير مؤمم على عاتق البنك نفسه .
وهذا الكلام صحيح ولا غبار عليه ؟ ولكن الكلام الأسح أن يريطانيا سيان عندها أن يؤمم البنك ، أي يصير دينها بين حكومتين ، أو أن يبقى البنك غير مؤمم ، فهي تستطيع أن تخفض الأرصدة إذا رأت ظروفها تستوجب ذلك كما تستطيع أن تقوم بأي إجراء تراه في هذا الشأن . كما يلاحظ أن تخفيض الأرصدة الاسترلينية الآن مثلا . ليس من الأمور السهلة الهينة التى تأتيها بريطانيا دون تفكر
وتدبر ؛ ذلك أن هذه متصلة اتصالا وثيقا بالأوضاع النقدية السائدة في بريطانيا ، فضلا عن النظر إلي الأثر الذي يترتب على هذا التخفيض في جميع بلاد الاسترليني التي تدين لها انجلترا بالديون الاسترلينية أو تتعامل في أرصدة الاسترليني .
وطرافة الرأي الذي يقول بانتقال الدين إلي دين بين حكومات بمجرد تاميم البنك الأهلي والذي بمقتضاه تعدل عن تأميم هذا البنك ، أقول : إن طرافة هذا الرأي تبدو واضحة إذا ما وضعنا على بساط البحث الواقع والحاصل عملا ؛ ذلك أنه بالرغم من عدم تأميم البنك ، بل بالرغم من كل شئ . لم تحصل مصر على أرصدتها الاسترلينية بقيمتها الحقيقية ، إذ بفرض سير الأمور على حالها ووفقا للاتفاقيات المعقودة بينها وبين بريطانيا حتى ينتهي حصولها عليها . أقول : لم تحصل مصر من هذه الأرصدة على ما لا يجاوز نصف قيمتها
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، إلى اليوم لم تنته مشكلة التسديد ، وآخر اتفاقية معقودة بين البلدين في أول يوليو سنة ١٩٥١ ، تدلنا على مبلغ ما ستعانيه مصر من وقت عصيب وظروف شديدة ، تستنفذ فيها ما بقى من أرصدتها . وما ينتظر أن يحصل اتفاق أو اتفاقات بشأنه منها ؛ ذلك أنه وفقا لهذا الاتفاق الحاصل في أول يوليو من العام الفائت ، تتراوح المدة التي يفرج فيها عن أرصدة مصر المجمدة بين عشر سنوات وثلاث عشرة سنة ونصف ، ولا يتجاوز المبلغ الذي ينتظر الحصول عليه نتيجة للافراج مائة وخمسين مليونا من الجنيهات الاسترلينية ؛ أو أقل من ذلك تبعا للمقتضيات العملية التي تتعلق بالبند الوارد في الاتفاقية والقائل بالإفراج عن خمسة ملايين من الجنيهات إذا قل رصيد الحساب ) ١ ( في أحد الأعوام عن ٤٥ مليونا من الجنيهات ، بشرط ألا تزيد قيمة الفرج عنه في هذا الصدد عن ٣٥ مليونا من الجنيهات .
ونزيد على ذلك أن من سخرية الأقدار ، أنه لم تمض شهور على توقيع هذه الاتفاقية السالفة الذكر ، حتى طالعتنا الأنباء بأن يريطانيا تفكر في تخفيض المبلغ الذي اتفق على الإفراج عنه في كل عام إلى النصف ، وبأنها تتجه إلى تحقيق مآربها السياسية بالاستعانة بتنفيذ هذا الاتفاق المذكور ! أما الحجة الأخرى التي برر بها عدم الأخذ بفكرة تأميم
البنك الأهلي ، فتتلخص في الرغبة في إبعاد البنك المركزي عن المؤثرات السياسية ؟ والواقع أنه بالرغم من أن مصر بلد حديث العهد بالمسائل السياسية والاقتصادية ، وأن المؤثرات السياسية حقيقة قد تكون ذات باع في التأثير على البنك والحد من استقلاله ، إلا أن هذه مسألة إن دلت على شيء فإنما تدل على عجز مبين في إبعاد تلك المؤثرات ؛ إذ لا يعدو استقلال البنك من هذه الناحية اتخاذ بعض الاجراءات ووضع الحدود الكفيلة بذلك . والبلد الذي يعجز في نظرنا عن فصل مثل هذا البنك عن مؤثرات السياسة وتحقيق استقلاله لهو بلد قاصر عن بلوغ أي مأرب من مآربه مهما كانت تفاهته .
على أن خطورة عدم الأخذ بفكرة تأميم البنك المركزي في مصر تتضح في الاعتبارات التالية :
أولا : أن هذا يعتبر تخلفا عما وصلت إليه غالبية البلدان في العالم من تأميم بنوكها المركزية ، إذ وصل الأمر إلى حد أن أضحى التأميم خطوة واقعية لا محيص عنها فيما يخص ملكية البنوك المركزية .
ثانيا : أن المساهمين الأجانب في مصر يمتلكون ما يساوي حوالى الثلثين من أسهم البنك الأهلي ، والثلث الآخر من أسهم البنك للمصريين ، ولا يستطاع القول بأن القانون الصادر في العام الماضي بتحويل البنك الأهلي إلي بنك مركزي قد قام على أساس الرغبة في استكمال تمصير هذا البنك .
ثالثا : أن عدم تأميم البنك المركزي يؤدي إلى الحد من مقدرة هذا البنك على أداء وظائفه واختصاصاته كاملة ؛ إذ سيقصر في هذه الحالة عن تنظيم الأوضاع النقدية في البلد وعن الرقابة على أوضاع النظام النقدي فيه .
هذه هي الوجهات التي يمكن عرضها في هذه الفخة العابرة عن تأميم البنك المركزي في مصر ، وبصرف النظر عما ورد في شرحها والتعرض لها ، نحتفظ بوجهاتنا الخاصة في هذا الموضوع ، لأن مهمتنا هنا التعرض لمسألة تأميم هذا البنك على ما هي عليه ، وحسب الأوضاع الاقتصادية الراهنة . .

