الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثانيالرجوع إلى "الرسالة"

مشروع القرش، دلالته على مبدأ التضامن القوى

Share

أذاعت جماعة مشروع القرش فى العام الماضى أكثر من نشرة  كتب فيها كبار الكتاب وذوى الرأي حتي لقد أصبح الانسان  يشعر حين يفكر فى كتابة شىء جديد للمشروع وأصحابه بشىء  من المشقة غير قليل. ذلك شأنى على الأقل لأننى لا أريد أن أتناول  موضوعا الا أن يكون له مساس أو اتصال بالقرش ومشروعه. وقد  طلبت الي جماعة القرش منذ اعتزمت اصدار هذا العدد من "الرسالة"  أن أكتب ففكرت وفكرت وفكرت حتى انتهيت أخيرا إلى  ما أكتب اليوم عن دلالة هذا المشروع من ناحية الاتجاه الاقتصادي وتأييده لمبدأ التضامن الاقتصادي Solidarile على غيره  من المبادئ وتأييده لهذا المبدأ فى حدود الاقتصاد القومي اكثر من  تأييده إياه في المدى الواسع الذى يعتبر العالم كله وحدة اقتصادية يجب  أن تعمها روح التضامن من غير تقيد بالتفكير القومي ومن غير خضوع  للمبادئ الاشتراكية المتطرفة.

أنا لا أظن أن الذين بدأوا التفكير فى مشروع القرش بدأوه متأثرين بهذا المبدأ الاقتصادى أو ذاك . بل أغلب الظن أنهم بدأوه متأثرين بخضوع مصر الاقتصادي لغيرها من الأمم خضوعا تستطيع

بشىء من المثابرة أن تتخلص من نيره. وإذن فهى فكرة الاستقلال  الاقتصادى تدفع إليها عاطفة وطنية كالعاطفة التى دفعت الى النهضة  فى سبيل الاقتصاد السياسى هى التي حركت فى نفوس السابقين الى  فكرة مشروع القرش الدعوة الى مشروعهم وإبرازه من حيز الفكرة  الى حيز العمل. لكن ذلك لا يغير شيئا من دلالة المشروع على نحو  ما قدمنا بل هو يزيده تأييدا. فلو أن فكرة الاستقلال الاقتصادي  وحدها هى التي كانت الدافع والمحرك ولم تخلطها فكرة التضامن  القومى لرأينا الدعوة الى هذا الاستقلال تلبس ثوبا آخر وتظهر فى صورة  أخرى. ومن قبل دعا الداعون الى تأليف شركة لإنشاء بنك مصر  تحقيقا لفكرة الاستقلال الاقتصادى ونجحت الدعوة نجاحها الباهر  ومن قبل فكر بنك مصر وألف الشركات المختلفة التي يساهم فيها  ويشرف عليها وكان لها من التوفيق الحظ الأكبر. وفي هذه  الظروف جميعا كانت فكرة الاستقلال الاقتصادي هي الحافز الأول،  وكانت العاطفة الوطنية التى تطمح الى هذا الاستقلال طموحا صادقا  هى أكبر عون على الاكتتاب ثم على النجاح.

كان ممكنا انشاء مصنع للطرابيش على الطريقة التى أنشئت بها  شركة غزل ونسج القطن، وشركة مصايد الأسماك، وكان ممكنا انشاء  مصنع للأصواف بالطريقة ذاتها. لكن مشروع القرش تأثر بالفكرة  التي قدمنا فوجهته في سبيل الاستقلال الاقتصادي وجهة جديدة!  وجهة تضامن عام فى حدود الاقتصاد القومي لا يطبعها الطابع الفردى  الذى يطبع الشركات المختلفة التى تصبو أولا وبالذات الى الربح، بل  يطبعها طابع الايثار من جامعى القرش ومؤلفيه ومنظمى استثماره الايثار  الذى يجعل المرء يحب لغيره ما يحب لنفسه ويعمل لخير غيره بمقدار ما يعمل  لخير نفسه، وان كان ايثارا محدودا بالحدود القومية. ولهذا الايثار القومى  عذره وفضله. له عذره فى أنه رد فعل طبيعي لثائرة الغرب وحرصه فى أن  يستأثر بخيرات العالم كله وأرزاقه تاركا للشرق ما يكفى لاقامة حياته كى يجد  ويشتغل أجيرا لحساب الغرب الذي يؤيد أثرته هذه بالمدفع والغواصة  والطيارة وله فضله فى انه إنهاض قومى لمصر كى تشعر بما تقدر عليه من غير  كبير مشقة أو تضحية. وإنهاض يقوم به شبابها فتيات وشبابا لخير  الوطن غير ناظرين جزاء الا أنهم أدوا للوطن خدمة شعروا بأن أداءها  واجب عليهم.

والشعور بالتضامن الاقتصادي على الوجه الذى يلقى شباب القرش  على الناس درسه مقدمة لحيوية قوية تربط الأمة بروابط التضامن

الأكيدة فيما سوى الميدان الاقتصادى من مرافق حياتها. فالرجل  الذي يدفع القرش ويلبس طربوشا مصريا بثمن معتدل يشعر بانه يؤدى  خدمة وطنية تعود عليه هو في الوقت نفسه بفائدة سريعة. وهذه  إحدى فضائل التضامن فى كل شىء. وهذا الشعور يجعل كل مصرى  يقدر أن كل خدمة يؤديها الانسان لوطنه وكل قرش يدفعه له يعود  عليه وعلى أمثاله بفائدة مضاعفة لما دفع. فكما أن قرشك الذى دفعته فى  العام الماضى سيجعلك تلبس الطربوش تدفع ثمنه خمسة عشر قرشا بدلا من  خمسين كذلك يجب أن تسأل عن كل قرش تدفعه ماذا يعود عليك  أو على الوطن من نفعه؟ فاذا لم يعد بمثل هذه الفائدة المضاعفة فاعلم  أن الذين ائتمنوا عليه يغتالونه وأنهم لذلك غير أمناء، وأنهم لا يقدرون  معنى التضامن القومي وواجبهم ازاءه بل يقدرون فائدتهم الشخصية  ناسين فائدة مواطنيهم، ناسين بذلك فائدة الوطن، مضحين بمصالحه  فى سبيل منافعهم الذاتية، وفى سبيل وصولهم السريع إلى الثروة على  حساب غيرهم.

اذا صدقت رسالة مشروع القرش التى قدمنا وكانت بشيرا بتقدير  المصريين لمبدأ التضامن ولو فى الحدود القومية فقد آن للمصريين أن  يستبشروا حقا بمستقبل قريب تتطور فيه النظرة الي الحياة من مختلف  نواحيها تطورا محسوسا. فنظرية التضامن لا تقف عند الميدان الاقتصادى  بل تمتد به إلى ميادين النشاط جميعا، وفى مقدمتها ميدان الإنتاج الفكرى  والفني. ونظرية التضامن لا يحدها زمن، بل هى تقوم على أساس أن  الثروة المادية والثروة المعنوية لأمة من الأمم هما جميعا ثمرة مجهود  الأجيال المتعاقبة، وأن لأهل القبور فيها نصيبا اكثر مما لأهل الدور،  وأننا جميعا وحدة متماسكة فى السعي والعمل بدأت من أول الزمن ان  كان للزمن أول وتستمر على الزمن ما بقى الزمن. فاذا وقر الشعور  بهذا الرأى فى النفوس كان من آثاره أن يحس كل بأنه مدين للمجموع  اكثر مما هو دائن له، وأن تضامنه مع المجموع فى المجهود العائد على  المجموع وعليه بالفائدة من خضوعه لسلطان الأنانية الغرور. وهنالك  يشعر حقا بان واجبا عليه أن يبني لا أن يهدم، وأن يكون منتجا  اكثر منه مستهلكا؛ وأن يعمل لخير غيره عمله لخير نفسه. وهنالك  تزول البغضاء من النفوس فتحل محلها المحبة وتتلاشى فكرة التنافس  لتقوم مقامها فكرة التعاون ويقضى فى النفوس على شهوات الحقد  والغيرة والغرور الكاذب لتقوم مقامها فضائل العطف والحنو والتواضع  الجميل. وأنت قدير متى صورت هذا التطور كله لنفسك أن تصور  الشجاعة الجديدة التى تغمر وادينا الخصب الجميل وأن تقدر سعة  الخطوات التي تخطو في سبيل الحق والخير والسعادة.

لعل شبان القرش وفتيانه يوافقونني على أن هذه النوازع النفسية  الجميلة تجول بخواطرهم مبهمة عند البعض أقل ابهاما عند الآخرين  ولعلهم اذا خلوا إلى أنفسهم وفكروا في الأمر يرون أنهم لم يفتحوا  عهد مصنع الطرابيش أو مصنع الصوف وكفى، وإنما هم يفتحون

السبيل إلى طور جديد يريدون أن يطبعوا به حياة وطنهم. ولعلهم  يقدرون عظمة هذا التطور الجديد وعظمة ما يجب على الشباب من  مجهود تنهض بعدته أجيال الشباب المتعاقبة لتزيده قوة وأثمارا. ثم  لعلهم يحسون أن فى الحياة قرشا غير القرش المادي الذي أدفعه من  جيبى. فيها القرش المعنوى والقرش الروحى الذي يعاون على اذكاء معنى  التضامن الروحى فى النفوس بمقدار ما يعاون القرش المادي على تحقيق معنى  التضامن الوطنى فى الحياة الاقتصادية. هذا القرش المعنوى، وهذا القرش  الروحي، الذى يستطيع كل مصرى أن يؤديه استطاعته أداء القرش المادى - فى أى ناحية يجب أن ينفق وأى مصنع يجب أن يقدم كأثر من آثاره؟!  هذا ما أترك للشباب البحث فيه ويقيني أنهم مهتدون الي خير ما يثمر البحث  فى هذه الناحية كما اهتدوا إلى خير ما أثمر البحث فى ناحية القرش.  وهم أقدر على تصوير التضامن المعنوى والتضامن الروحى وما يثمران!. .

اشترك في نشرتنا البريدية