الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 45الرجوع إلى "الرسالة"

مشروع زواج

Share

جلس الصديقان يتسامران بعد العشاء، وقد انبسطت  أعضاؤهما فوق الأرائك الناعمة الوثيرة، يرسلانها على  هواهما، ثم يعبثان بما ينشأ عن دخان التبغ فى الفضاء من متعرجات  وأشكال. . .

وتلك ساعة حلوة عذبة، تنشرح لها الصدور، وتشرق فيها  الوجوه، وتنطلق فيها الألسن بالكلام، وتجيش فيها القلوب  بنوازى الحياة وشتى العواطف والأهواء، وكلها تنزع الى الظهور  والافصاح، وتطلب السفور والإعلان من غير التواء ولا تحجب.  وكان ضوء المصباح نحيلا شاحبا، يضطرب كالمحتضر على جدران  الغرفة الرحبة، ثم لا يكاد يبين ما يزينها: من طنافس مزركشة  وأسلحة مفضضة. إنما يبرز الى النصف بين الظلال الفاحمة رسم  امرأة فتية قد اتخذت وضعا مائلا نحو الأمام كأنما هى تتسمع  صاغية، وضاحة المحيا، صبوحة الوجه فى عينين زاهيتين، وفم  مطبق مرهوب تطفو عليه ابتسامة حيرى ذات معان!! وكان  الكرسى الصغير والنعال الدقيق المبعثرة ههنا وههنا توحى للخاطر  بوجود طفل وليد فى الدار، ومن الغرفة المجاورة كانت تنبعث  الحين بعد الحين أنغام شجية، وموسيقى متسقة منسجمة، إذ  تهدهد الأم الرؤوم فتاها كى ينام. فيمتلئ الجو بالنشيد روعة  وجمالا، ويشيع فيه عبير اللذة والهناء، فيصيح الشاعر مهتاجا:  "لك الحق يا أخى أن تتزوج وأن تنعم بالزواج، فليست سبل  السعادة كثيرة متشعبة. إنها هنا على مقربة منا. . . بربك التمس  لى فتاة أتزوجها" !

المصور - أنا ألتمس لك فتاة؟ ! تالله لن أخوض غمار ذلك أبدا

الشاعر - ولماذا؟

المصور - تسألنى لماذا؟ فاعلم أن أصحاب الفن ما ينبغى  أن يتزوجوا، وما ينبغى أن يكون لهم فى الحياة شركاء

الشاعر - يا للعجب! تقول ذلك ولا تخشى أن يغور نور المصباح  وتنقض على رأسك الجدران. إن حياتك الزوجية نصب مائل  للسعادة المنشودة والنعيم المقيم! ومثلك فيما تزعم كمثل أولئك  الأغنياء المترفين يكنزون المال ويضاعفون الثروة من آلام  الآخرين وشقاء العاملين، ويستطيعون نار الشتاء حين يذكرون  البؤساء الذين لا مأوى لهم ولا نار عندهم!!  

المصور - قل ما تشاء، شبهنى بما تهوى، فلن أكون لك الا  الصديق الوفى النصوح الذى يرى الخطر فلا يقف مكتوف اليدين  متبلد الحس، جامد الشعور  

الشاعر - أراك تسرف فى كره الزواج اسرافا كبيرا مع  أنى استروح أريج السعادة هنا كما أتنفس الهواء الطلق فى الحقول!  المصور - نعم إنى سعيد كما تقول، أحب زوجتى حبا جما  وأرى فيها وفي ولدي كل جمال الوجود والحياة. لقد كان زواجى  مرفأ هانئا آمنا تحفه المياه الوادعة، أقلني وما زال يقلنى الى  ما أصبو اليه من مواطن الراحة والسلام. وإنتاجى أحصب وسما،  ولعل خير رسومى قد أبدعتها فى عهد الزواج. . .

الشاعر - وما بالك تنأى بى اذن عن عالم السعادة؟

المصور - ها. . . إن السعادة التى أنعم فى أحضانها انما هى أعجوبة  من أعاجيب القدر، لا يسمح بها الزمان، ولا تجود بها الطبيعة  على الناس جميعا. وأنا كلما أدركت ماهية الزواج فرحت لهذا  الحظ الضاحك الذى حبانى به الأله الكريم. فحالى تشبه حال من  فطن للهوة السحيقة المخيفة بعد أن اجتازها فاعجب بشجاعته ومضاء  همته، وشكر الله على سلامته!

الشاعر - وما هى مساوئ الزواج يا أخى؟

المصور - أولى المساوئ وأعظمها أن الأسرة تستهلك المواهب  وتميت الأبداع، وهذا أمر له وجاهته بلا ريب فى حياة الفن الجميل.  يكون الزواج استجابة طبيعية للغريزة الكامنة الحمراء، وقد يعلى شأن  بعض الرجال ويوسع إطار خبرتهم، ويدنيهم من الأرض والمدنية،  ثم لقد يكون ضرورة من ضرورات المهنة والمعاش. أما الفنانون  من شعراء ومصورين ونحاتين وموسيقيين لا يمتزجون بالناس  ولا يدخلون المجتمع، وانما يعيشون على حافة الحياة يرقبونها عن كثب  ويتأملون خطوطها وألوانها ثم يسجلون مشاهداتهم ويبدعون  آثارهم. فالمتزوجون فيهم على هذا ينبغى أن يكونوا قلائل نادرين

هذا "ديلا كروا" العظيم الذى تعجب به وتهيم برسومه قضى عمره  الطويل أعزب يدب وحيدا بين جدران بيته. لقد خطرت البارحة  على "شانروازى" ومتعت النفس بحديقتها النضرة المتزهرة. إنه  ظل عشرين عاما يغدو بها وبروح لا مؤنس له غير هديل الحمام  وتغريد العنادل. ترى ما قيمة إنتاجه لو كان أبا يهتم للكسب  والأولاد، يربيهم ويعنى بتعليمهم، وقد يمرضون فيسهر على مداواتهم  ولا ينام؟!

الشاعر - ذكرت لى ديلا كروا مثلا، فهلا ذكرت فكتور  هوجو. . . أتعتقد أن شؤون الاسرة قتلت ملكاته وأخذت عليه سبيل  الأنتاج الأدبى الخالد؟  

المصور - أنا لا أرى ذلك ابدا، ولكن الفنانين المتزوجين  ليسوا كلهم عباقرة تهضم الفن والعائلة قواهم النفسية. . .

الشاعر - ما عجبت لشىء عجبى لحكاية متزوج سعيد لا يحب  لغيره الا العزوبة والوحدة!

المصور - ان الحكم الذى أضعه بين يديك ليس مصدره  حياتى الخاصة! إنما كونته عندى تلك الشرور القائمة كثير من  الأسر التى عرفتها واتصلت بها. والباعث على الشرور التباين  العقلى والنفسى بين الفنان وزوجه. أتذكر ذلك النحات الماهر  الذى ترك الأهل والوطن وهاجر إلى حيث لا يدرى مصيره  أحد من الخلق؟ لقد كان يعبد مهنته ويفنى فيها وقته وحواسه،  ولكن زوجه الذكية الحسناء كانت تريده على أن يحيط حسنها  بهالة من الثروة والجاه، فطفق النحات يكد ويعمل طوال عشر  سنين، وربما تدفع به وبنفسها فى بعض الأماسى الى الابهاء  الرفيعة الأرستقراطية تدخلهن واحدة بعد أخرى وتذيع فيهن  مالها وبهاءها، ولقد تقطع عليه عمله فى النهار لتزور ويزور  صويحباتها، ثم يرتادان معا أماكن اللهو ومجالس الأنس. ستقول  إنه يستطيع لو شاء ألا يحقق مناها، ولكن الزواج فى طبيعته  يضطرنا إلى أن نؤثر جانب الرفق واللين على جانب الشدة والعنف.  لا أنكر أن هواء البيت انما نتنفسه على الرغم منا، ولو لم يكن فيه ذرة  من القوة والمثل الأعلى لثقل علينا ضغطه وكثافته. ان الفنان ليودع  فى آثاره كل ما يملك من جهد وفكر، ويجرد لهذا الغرض العزم  والإرادة، ولكنه يقف من توافه الحياة موقف العاجز الضعيف،  يلين لزوجته حتى المهانة، ويخنس لسلطانها حتى العبودية، تأمره

فيمضى فى صمت وتقول فيفعل فى هدوء. على انه قد يثور اذا اطرد  الأستبداد واشتدت العبودية، فهذه العصائب المانعة للنور ان هى  عاقته عن الانتاج الفنى لا يلبث ان يطرحها فى نفور كما فعل المثال  المهاجر، وقد حزنت الزوجة لهذه الهجرة الفجائية فتساءلت "أأكون  أنا الجانية عليه؟ هل من إساءة وخزته بها؟" بلى! انها لم تعمد لى  الأساءة عمدا، وانما جرت مع طبيعتها الطائشة الغريرة دون ان تفقه  زوجها الحساس. فليس يكتفي ان تكون المرأة ذكية حصيفة لتصلح شريكة  الفنان فى الحياة، بل ينبغى لها فى النزعات نكران الذات والتضحية  بالنفس، وهذا ما لا تجده عند امرأة جاهلة بهرتها لذاذات الدنيا  وغشيتها الأنانية!! إنما يرغب النساء أن يكن رشيقات ساحرات،  وأن يتزوجن وجيه القوم كى يظهرن إلى جنبه متأبطات ذراعه.  فأما الفنان الصناع فلا يجد متسعا من الوقت حتى يتبرج مختالا  كما يتبرجن مختالات فخورات، أرأيت كيف تشقى الأسر وينتابها  الألم؟ أعرفت كيف يسقط الزوج ضحية الجلاد الأعظم. . .  وبالأمس زرت "دار حنتى" الموسيقار وكان يسمر مع خواته  الكثير، فطلبوا اليه فيما طلبوا أن يعزف على البيان، فقام يرجع  لحنا سائغا طرب له الحاضرون وصفقوا أيما تصفيق، ولكن زوجته  ما لبثت أن شرعت تتحدث فى خفوت، فما زال صوتها يعلو حتى ملأ  الغرفة وشغل الناس، فقطع الموسيقار لحنه ثم التفت إلى وهمس  فى أذنى "هكذا تصنع معى على الدوام. انها لا تطرب للموسيقى.!"

الشاعر - سهوت عن أمر جليل. إن الزواج يجلب الأنس ويطرد الوحشة والفراغ وفى الحياة لحظات خطرة هى لحظات  الخور والملال، يتشاءم فيها الفنان ويشك فى نفسه وفى قيمة فنه،  فالمتزوج انما يرى بقربه قلبا حبيبا يبثه أشجانه وشكوكه. والطفل؟  هذه الأبتسامة البريئة التى تتألق على وجه الغض، أليست تعزى  الشيخ وتجدد شبابه، وكل ما يخسره الفنانون يربحه أبناؤهم من بعدهم.  فهذه الشعرات البيضاء التى تتساقط المشيب يرونها تنبت سوداء  متجعدة على رأس مستدير بديع

المصور - وكيف يستطيع الشيخ الواهن إطعام الطفل الصغير؟  الشاعر -. . . . وعلى كل حال فالفنان انما خلقه الله للزواج  قبل أن يخلقه للفن، فاذا لم يتزوج كان فى الدنيا كالمسافر الجواب  قد أتعبه التشرد فسكن الى غرفة من غرف الفندق كتبت عليها هذه  العبارة المبتذلة "للإيجار ليلة أو شهر"

المصور - ولكن هذا المسافر المتنقل لن يتذوق طعوم اللذات.

الشاعر - كفى! لقد اعترفت بأن فى الدنيا لذات. . .

وبدا للمصور فنهض من مكانه الى درج رسومه يلتمس منه  كتابا مخطوطا باليا ثم عاد وقال "أما المناقشة على هذا النحو فلن  تفيد أبدا. لقد بسطت لك رأيى ولكنك تأبى الا الزواج، فهذا  كتاب خطته يد متزوج سعيد لابس أسر الفنانين ودرس ما يكابدون  من أسقام، ثم صور ذلك تصويرا طريفا دقيقا، ولم يطبعه بعد،  فاقرأه بأمعان فهو رادك بلا ريب الى جادة الصواب. . . "

عن (أزواج الفنانين) بتصرف

محمد روحى فيصل  

اشترك في نشرتنا البريدية