الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الرابعالرجوع إلى "الرسالة"

مشروع مقالة

Share

جلست إلى مكتبى وأمسكت بالقلم واستعرضت ما مر على أثناء الأسبوع لأختار منه موضوعا أكتب فيه، فخطر لى:

أن أكتب فى المساجلات الأدبية التي دارت بين شيخ  العروبة والأستاذ مسعود فى (الطرطوشي ولاردة)، وبين  الدكتور زكى مبارك والأستاذ عبد الله عفيفي فى كتاب  (زهرات منثورة)، وبين الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد  فى (اللاتينيين والسكسونيين). وقلت أن هذا موضوع طريف  جدير أن يكتب فيه الكاتب ويعرض فيه لنوعى النقد اللذين  ظهرا فى كتابة هؤلاء الأدباء؛ فأحد النوعين قاس عنيف  تورط فيه الأربعة الأولون حتى يخيل إلى أنه لم يبق إلا  أن يتسابوا بالآباء، أو يتضاربوا بالأكف، أو يتبارزوا  بالسيوف! والآخر عفيف خفيف كالذى سلكه طه والعقاد،  فيه لذع، ولكن بالإيماء والإشارة، وفيه مهاجمة عنيفة، ولكن  للفكرة لا لقائلها، ويخيل إلى أنهما إذ تقابلا تعانقا.  ومهما أطالا فلن يتباغضا، ليس فى أسلوبهما إدلال وفخر  وإعجاب وعجب، كالذى بين شيخ العروبة ومسعود، وليس فيه  إسفاف وتنابز بالألقاب وإدخال للعمامة والقبعة فى وسط  المعمعة، كما بين عبد الله عفيفى وزكى مبارك! يدعو أحدهما الآخر  إلى التلمذة له، ويلقى كلاهما درسا فى النحو على أخيه، ويذكر أن  من الألفاظ ما لو ذكرته لهاج بى قراء الرسالة يوسعوننى تأنيبا

وتجريحا، ولغضب على صاحب الرسالة فعاقب مقالتى بإهمالها.

وقلت من الحق أن تصرخ فى وجه هؤلاء، وأن تعلن أن نقدهم يعجبك موضوعا ولكن لا يعجبك شكلا، وأن الذوق اذا  رقى اكتفى فى الخصام بلمحة، وأن الأديب يعجبه التعريض  والتلميح، ويشمئز من الهجو المكشوف والتصريح، وأن العامة  إذا تسابوا أقذعوا، وأن أولى الذوق إذا تخاصموا كان لهم فى  الكناية ومراتبها، والإيماء ودرجاته، والتعريض ومقاماته،  مندوحة من الأسلوب العريان والصراحة المخزية، وأن الحقيقة  الواحدة يمكن أن تقال على ألف وجه، يتخير الأديب أحسنها،  على حين لا يعرف العامى إلا وجها واحدا يتلو الضرب،  وأن فى أعناق شيوخ الأدب حقا للناشئة من المتعلمين الذين  يضربون على قالبهم ويسيرون على منوالهم، وأن هؤلاء الناشئة  ليجدون فى هذه الصحف والمجلات مدرسة تثقفهم وتغذيهم،  ثم هم بعد قادة الأدب وهداة الأمة، فلو أنا علمنا النشء هذا  النقد الذى لا يرعى صداقة ولا يأبه لوفاء كان علينا وزرهم،  ووزر الأجيال بعدهم، وكانت مدرستنا التي ننشئها قاسية  البرامج فاسدة الطريقة.

وقلت: ان هذه الطريقة لا تخدم الحق كما يزعم أصحابها،  فلسنا نطلب منهم أن يسكتوا على باطل، وأن يغمضوا عن خطأ.  بل نحمد منهم جدهم فى خدمة الحق، وسهرهم فى كشف الصواب،  ولكنهم يسيئون إلى الحق إذا ظنوا أنه لا يؤدى الا بهجر،  ولا يكشف إلا بسباب، والحق إذا عرض فى أدب كان أجعل  وأجدى على رواده، وإذا عرض فى سفه حمل المعاند أن يصر  على عناده، وحمل الخجول أن يكتم آراءه فى نفسه حتى لا ينهش  عرضه ولا تبتذل كرامته، فقل التأليف وضعف الإنتاج.

جال كل هذا فى نفسى، ولكنى خفت أن أكتب مقالتى  فى هذا الموضوع، وقلت انك ان فعلت هاجوا بك وتركوا

خصومتهم لخصومتك، وتصادقوا لعداوتك، وقالوا أتلقى  علينا درسا فى الأدب ونحن أساتذة الأدب؟ ومن أنت وما  شأنك؟ وجلسوا منى مجلس الملكين يسألون ويسفهون. وأنت  ما أغناك عن هذا الموقف! وما أبعدك من هذا المأزق! فتركت  هذا الموضوع وعدلت عن المشروع. ففيم أكتب إذن؟

كنت فى الترام عصر يوم من هذا الأسبوع، فصاح بائع  الجرائد: المقطم! البلاغ! فلم ألتفت إليه لأنى كنت قرأتهما.  فلم يصدق أنى سمعت فصاح صيحة أنكر من الأولى، فكان  موقفى منه هو موقفى، فأمعن فى الصراخ وأمعنت فى البرود،  فما وسعه إلا أن صعد لترام ومسنى بالمقطم والبلاغ، فاضطررت  إلى أن أقول أنى قرأتهما ليصدق أنى سمعت وفهمت!

وقلت: إن هذا موضع للكتابة طريف، أدعو فيه  إلى دقة الحس ورقة الشعور وظرف المعاملة، فان ذلك  لو كان لأغنانا عن كثير مما نلاقى من عناء وجفاء، وما معاملاتنا  الا كالآلة بلا زيت: تسير ولكن تصدع.

على أننى قلت أن هذا الموضوع من جنس الأول، فلو أن  أساتذة الأدب رقوا فى نقدهم، لرق بائعو الجرائد فى عرضهم. فعرضت عن هذه إذ عرضت عن تلك.

وجلست فى مجلس يجمع طائفة مختارة من الأدباء، فعرضت  بعض القصائد والمقالات، فما من قصيدة أو مقالة إلا استحسنها  قوم واستهجنها آخرون، ورأيت من استحسن لم يستطع أن  يقنع من استهجن، ولا من استهجن قد استطاع أن يقيم الدليل  على من استحسن، ورأيتهم إذا تناقشوا فى المعقولات أطالوا  حججهم وسددوا براهينهم، وذكروا لقولهم الأسباب والنتائج،  وهم أعجز ما يكون عن ذلك فى الفنون والآداب.

فقلت هذا موضوع جيد، أليس من الممكن أن يوضع  للذوق منطق كما وضع أرسطو للعقل منطقا؟ فلتكتب  فى "الذوق الفنى" ولتحاول أن تبين أسباب الخلاف ووجه  الصواب ووجه الخطأ، وترسم سلما للرقى فى الذوق تعرف به  

من اخطا ومن أصاب ، وتبين به علة بالخطأ فى المخطئ والاصابة للصيب ، وكيف تحكم على ذوق بأنه أرقى من ذوق. كما تحكم على عقل أنه أرقى من عقل.

ولكنى رأيت الموضوع عميقا يحتاج إلى أن أفرغ له وأهجم  عليه ابتداء من غير أن أشتت فكرى فى موضوعات مختلفة  فأرجأته إلى حين.

وقلت: ما الذى يمنع أن أجعل مشروع المقالة مقالة؟ فليكن!

اشترك في نشرتنا البريدية