من ولاة العصر العباسي الذين عرفوا بالخير والعدل واكتساب محبة الأهلين موسى بن عيسى الذي ولي مصر ثلاث مرات. فقد أشتهر بالعدل في البلاد وتحبب إلى النصارى فأذن لهم ببناء الكنائس التي هدمها سلفه علي بن سليمان وقد أشار عليه بذلك قاضياه الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، بحجة أن إرجاع الكنائس المستحدثة في الإسلام من مستلزمات عمارة البلاد. ومما يدل على عناية هذا الوالي بالعمارة ما كان من زيادته في جامع عمرو.
وكان عنبسة بن إسحاق (٢٣٨ - ٢٤٢هـ) آخر من ولي مصر من العرب. وكان من أحسن الولاة الذين ولوها في هذا العصر، مما حدا بالمؤرخين إلى القول بأنه أظهر من العدل ما لم يسمع بمثله في زمانه. وقد بلغ من تورعه وبغضه للمظاهر أنه كان يروح من دار الإمارة إلى مسجد العسكر ماشياً. وكان آخر من أموا الناس في السجد. وقد بنى المصلى الجديد سنة ٢٤٠هـ إذ رأى أن المصلى القديم ضاق بالمصلين. وكذلك حصن دمياط وتنيس بعد أن أغار عليها الروم سنة ٢٣٨هـ فبقيت دمياط في يد المسلمين إلى أن استولى عليها الصليبيون سنة ٦١٦هـ
على أن عدل عنبسة وورعه لم يكسباه حب الناس جميعاً، فقد كان مكروهاً من البعض لاعتقاده بمذهب الخوارج مما دفع بالفضل أبن يحيى إلى أن ينحى فيه بالملائمة على الخليفة لتوليته إياه مصر. وما قاله أيضاً من شعر يتهم فيه هذا الوالي بالتراخي عن طرد الروم من هذه البلاد وقت استيلائهم على دمياط وتنيس كما تقدم
مَن فتى يبلغ الإمام كتاباً ... عربيا ويقتضيه الجوابا
بئس والله ما صنعت إلينا ... حين وليتنا أميراً مصابا
خارجيا يدين بالسيف فينا ... ويرى قتلنا جميعا صوبا
مر يمشي إلى الصلاة نهارا ... وينادي السحور، ضل وخابا
ومن هنا نتبين كيف كان اعتقاد عنبسة بمذهب الخوارج - إن صح أنه كان يعتقد به - سبباً في الحط من شأنه وإظهار ما أتاه في حكمه من عدل وما أظهره من ورع، بمظهر العسف والظلم حتى أدى ذلك بالفضل إلى اتهام هذا الوالي بالقعود عن نصرة المسلمين حين أغار الروم على مصر، فقال الفضل للخليفة المتوكل:
أنرضى بأن يعطى حريمك عنوة ... وأن يستباح المسلمون ويحربوا
حمار أتى تينيس والروم وثب ... بتينيس رأي العين منه وأقرب
مقيمون بالأشتوم يبغون مثلما ... أصابوه من دمياط والحرب ترتب
فما رام من دمياط شبرا ولا درى ... من العجز ما يأتي وما يتجنب
فلا تنسنا إنا بدار مضيعة ... بمصر وإن الدين قد كاد يذهب
لم يل مصر بعد عنبسة وال من العرب كما تقدم، فقد وليها بعده يزيد بن عبد الله (٢٤٤ - ٢٥٣هـ) من موالي المنتصر العباسي وكان كغيره من الأتراك من السنيين الغلاة. وكان شديداً صارماً وأتى في عهده بكثير من الإصلاح وقضى على كثير من معايب المجتمع، فمنع النداء على الجنائز وضرب من نادى عليها، وعطل الرهبان وتتبع العلويين فلحقتهم منه شدائد وأهوال
وورد إليه كتاب الخليفة المستعين بالاستسقاء لقحط كان في العراق، فاستسقى الناس في يوم واحد. وفي عهده خرج بالإسكندرية رجل يقال له جابر بن الوليد واجتمع إليه خلق كثير من العرب والقبط والنوبيين فاستولى على الكريون وسنهور وسخا وسمنود، فأنفذ الخليفة مزاحم بن خاقان مدداً لواليه على مصر. وظلت ثورة جابر ابن الوليد على حالها طوال عهد يزيد بن عبد الله الذي صرف في ربيع الأول سنة ٢٥٣هـ وولي بعده مزاحم بن خاقان فواقع جابر بن الوليد في أرض الجيزة والفيوم حيث أسر في جنْبَويه من كورة البدقون (المكتبة الجغرافية
ج٦ ص٢٨٢، ٨٣ - المقريزي خطط١ ص٧٣) وبعث به إلى العراق في رجب ٢٥٤هـ(1)
هذا وكان عامل مزاحم بن خاقان على الشرطة أُزجور التركي فقد منع النساء من دخول الحمامات ومن زيارة المقابر وسجن النوائح ومنع من الجهر بالبسملة وأمر بتمام الصفوف عند الصلاة وعهد إلى رجل من العجم فكان يستعمل السوط في تنفيذ هذا الأمر. ومنع من استعمال المساند والحصر للجلوس في المسجد ومن التثويب ومن أن يؤذن المؤذن يوم الجمعة في مؤخر المسجد. ثم صرف أزجور عن الشرطة في ذي القعدة سنة ٢٥٣هـ وولي مصر أحمد بن مزاحم باستخلاف أبيه له فجعل أزجور على الشرطة ثانية ثم وليها أحمد إلى أن مات (١ من ربيع الآخر سنة ٢٥٤هـ) فولي مصر أزجور وظل على ولايتها إلى رمضان من هذه السنة فوليها بعده أحمد بن طولون
