جرت عادة الناس من الزمان البعيد أن يفرحوا أو يتكلفوا الفرح كلما طالعتهم دورة الأيام بعام جديد. وكثير منهم من يتخذ من مطلع العام عيداً، بليس فيه جديد الثياب، ويحتفل لتهنئة الصحاب واستقبال الهناء من الصحاب، ويتفرغ من كل عمل ليتوفؤ ومن يحمل من الأهل والولد على إصابة ما يتهيأ لهم من اللذائذ والمتع، وتقليب العطف فيما يتيسر من ألوان النعيم. ذلك جرت عادة الناس، أو عادة أثر الناس
ولو قد راجع المرء نفسه في هذا، ورح يتحسس الأسباب والعلل في ذلك الذي يكون منه في مطالع الأعوام، فليت شعري بِمَ هو في غاية الأمر راجع؟. أتراه فرحاً بأنه طوى من عمره عاماً؟. أم تره فرحاً بأنه سينشر من عمر عاماً؟
وإن عجباً دونه كل عجب أن هذا الانسن الأثِر، المتشبث بأسباب لحياة، مهما تذلل وتوجع، يفرح بطي صفحة من حياته، وقطع مرحلة من عمره، فيدنو من الغاية المحتومة التب ما ذكرها إلا مليء منذكرها فرقاً ورعباً!
وإن عجباً لاينتهي منتهاه عجبٌ أن هذا الانسان الجبان المنخلع القلب، الذي لا يرى إن يقيناً وإن وهماً، فيل قنيه من ثنايا الغيب، وفي كل منعطف من منعطفات الدهر، إلا ما يرتصد له، ويتربص به الدوائر، ويرميه ما أصحرت به الأيام بالوان المكلره والمخاطر - اللهم إن عجباً لاينتهي عجب أن يفرح هذا الانسان باستقبال ل هذا الذي يتوقع من أذى طارقات الليال!
إذن ففيم فرح الانسان بدورة الأيام، وأغتباطه ذاك بالتخلص من عام لاستقبال عام؟
ليت شعري أتراه يضيق بالحياة ويبرم بها، ويسر كلما طوى من كتابها صفحة، واقترب من غايتها خطوة. اللهم إن الأنسان لأ كلف بالحياة، وأود لو تطر به إلى غاية الزمان، وإلى ما بعد غاية الزمان! أليس أبر عزائه في هذه الحياة إذا عرض ذكر
الموت، ولا مفر منه، أنه مبعوث من بعده لحياة لا يدركها عدم ولا يلحقها فناء؟
إذن ففيم فرح الأنسان بدورة الأيام، واغتباطه بالتخلص من عام لأستقبال عام؟
الاَ إن أعجب من هذا كله أن يراجع الأنسان نفسه، ويسائلها فيم اغتبطاها وفرحها من حيث يجب أن يتداخلها الاسى وتلح عليها الحسرة من كل مكان؟!
اللهم إنه ليكلف بطول العمر، ويكلف بقصر العمر، وإنه ليشغف ببسطة الأيام، ويشغف بنفاد ما بقي بين يديه من الأيام!. اللهم إنه لا يستريح إلى هذا المحال، إلا من كان به مس من جنون أو مس من خبال!
ليس الانسان مجنوناً ولا مخبلاً؛ بل إنه ليفر فيحسن التفكير، ويقدر فيصيب التقدير، ويدبر فيُحكم التدبير. وإن عقله الجبار ليأبى إلا يستذل عنف الطبيعة كل يوم. وها هوذا لا يفتأ يسخر لحاجاته جوها وماءها، وأرضها وسماءها، بما لا يحتاج معه إلى قيام دليل على صحة العقل وسلامة التفكير!
ما لنا بعد هذ بد من التدسس إلى قررة النفس، والتسلل إلى ثناياتها، علنا نصي الوجه ونستخرج العلة في ذلك الذي نحسبه في المحال!
ها نحن اولاء نتحرى خطرات النفس، ونتقرى خلجات الحس، فنسير وراءها حيثما سارت، وندور معها كيفما دارت. حتى إذا بلغت سائلها القرار، تهيأ لنا أن نروى عنها أصح الانباء واصدق الاخبار.
هذ الانسان العاقل المفكر الدبر، يجزع حقاً أشد الجزع لما ينطوي من أيام عمره، ولقد يهش حقاً لما يستقبل من بقايا أيام الحياة. غبر انه لا يعقد أية صلة بين هاتين النزعتين القويتين فينفسه، فهذه تكون منه في حال، وهذه تكون في خال، فليس ثمت في الأمر للمحال. فاذا طلبت بياناً فاليك البيان:
إن علة العلل في كل هذ الذي ترى من تناقض الانسان، وخلاف نزعات نفسه بعضها لبعض، إنما هي فيما طبع عليه من
الأثرة وشدة الكلف بالنفس. فهذه الاثرة هي التي تدخل عليه الفزع لما فنى من سني العمر، وهذه الأثرة هي التي تدخل عليه السرور بما يستقبل من بقية أيام الحياة، وإن شئت قلت بما يقبل على استهلاكه من بقايا أيام الحياة !
أما أن الأثرة هي التي تدخل عليه الجزع لما يتصرم من أيام العمر، فيدنو به خطى إلى مهواه من القبر، فذلك ما لا يحتاج إلى توجيه ولا إلى تعليل، وأما أن هذه الاثرة نفسها هي التي تدخل عليه السرور بما يُقبل على استهلاكه من بقايا أيام العمر. فذك بأنه ما يثفنى من حياته يوماً إلا أطمعته أياماً، ولا يَطوي من عمره عاماً إلا بسطت بين يديه أعواماً: فالانسان، على إيمانه بالموت، وجزمه بألا مهرب منه، لا يفتأ يدافع الأجل كلما تقدم خطوة إلى الأجل، وهكذان حتى لو قٌدر في الزمان أن يبسط في عمر إنسان الى ألف عام، لوسوس له تأمسل الاثرة بعدُ بالمزيد!
وعلى هذا فمهما يَطْوِ الانسان من سنه، ومهما يفن من عمره، فان ما خلا يكاد يسقطه من مساحة العمر بما يجد له التأميل كل يوم من بسطة الزمان بين يديه! فيعيش كذلك ما يعيش، وأنما يمتح من بحر لجي ما لمائه من نفاد!
وكذلك القول في تطامن الانسان لمستقبل الايام وإستبشاره، في غالب الأحيانن بمقدمها، وقلة احتفاله لما عسى أن يكون قد جُن له من المكاره في ضمائر الغيوب، فان هذه الأثرة نفسها لتأبى إلا أن تطالعه بألوان التأميل، فلا ينتظر له من واردات الليالي إلا كل مشتهى وكل جميل! بل انها لتدخل عليه أحسن العزاء بما سيلقي من الخير والعافية عما كان قد أصابه من الخيبة فيما سلف من الزمان!
فقد بان لك أن الأثرة في الأنسان هي علة العلل، وهي مصدر ما يُحسب عليه من خطأ في الحساب ومن خطل
وبعد، فلو قدر أن الله أمكن للمء من طبعه، وهيأ له أن يسوي منه ما شاء على ما يشاء. افتراه يعتمد هذه الخلة فيه، أعني الاثرة، فينتزعها من فطرته انتزاعاً، فلا تعود تخدعه وتختله، ولا تزيغه عن الواقع ولا تضلله؟ لاشك في انه إن فعل سلم تقديره، واستقام له القياس،
وأدرك الحقائق على ما هي عليه لاعلى ما يشهى أن تكون؛ لأن هذه الأثرة كثيراً ما تلبس المنى بالحقائق الواقعة. وقد تستدرج الانسان إلى المطامع البعيدة بما تهيء له من إجراء القياس، في شأن نفسه، على ما يقع من الأمور النادرة في شئون بعض الناس. وبهذا وبهذا تسيء تقديره، وتفسد حكمه على الاشياء أيما إفساد. وأنت بعدُ خبيرٌ بأن السعادة في هذه الدنيا لا تُرجى بخير من الأصابة، والتهدي إلى جوهلا الحقائق، وسلامة التقدير وصحة التدبير. وتلك الطرق الواضحة، لاشك، لأسعاد الحال، وإدراك المبغى من ميسور الآمال.
ولكن. . . . ولكن إذا قدر هذا في الطبيعة، وتهيأ للانسان ففعل، فعلى أية صورة ترى يتمثل له العيش في الدنيا، و [اي شعور يتلقى آثار هذه الحياة؟
إنك مهما تبحث من أصول هذه الأثرة النغروسة في طبيعة الانسان، فانه، ولابد، يألم إذا دخل عليه ما يعدو إلى الالم. وهو، لابد، يلتذ بما يصيب من المتع، إنه ليستريح إلى العافية، وإنه ليفرح بما يصيب من النعم، وإنه ليحزن إذاطرقته داعياتُ الحزن؛ وتلك أدنى مطالب الحس في الحيوان، بَلْهَ الانسان
فلو قدرنا أن الانسان قد استوى في عيشه إلى الحقائق الواقعة، وأجرى حسابه في جميع أسبابه عليها، فهل تراه يعدل ما يصيب في الدنيا من لذة ومتاع، بما يعاني من شدائد وبُرح وأهوال وأوجاع؟. اللهم لا! على انهما لو تكافآ فاضحى خارج الحساب صفراً، لأمسى التشبث بهذه الحياة من غحدى المعابث!
على أنه الأملث، أملُ المعني المبتلي في العافية، وأمل المعافي إن كان في الدنيا معافي، في صعود الجد، وفي إقبال الزمان بما تتطلع النفوس إليه وتهفوله - هو الذي يرجح كفة الربح ويشهى الينا الحياة، ويغرينا بالحرص عليها أيما إغراء!
وما كانت هه المُنى فينا لتقوى وتستمكن، وتستحفل وتستحصد، لولا هذه الأثرة التي تذلل لأوهامنا عصى الىمال، وتسوي لنا في صورة الممكن ما تظمته الطبيعةُ في سلك المجال!
هذه الاثرةُ التي تغبينا عن كثير من الأشياء، حتى إنها لتغيبنا عن أدنى ما يحيط بنا من الأسباب، با إنها لتغيبنا عن أحق الحق الذي لانستطيع مدافعته ولو بالأوهام، أعني الموتَ
الذي لا مهرب منه لهارب ولو تعلق من السحاب، بعلائق وأسباب!. نعم إنها لتغبينا عنه لأننا ما ذكرناه أبداً إلا رأينا منا بعيداً، وقد نون منه على رمية حجر!
إذن لقد خرج لنا من كل هذا أن قيام الانسان في الدنيا إنما هو مدين لهذه الأثرة في طبعه، فيها يحرص على الحياة ويتشبث، وبها يرضي عن الحياة ويكلف، وفي سبيلها يحتمل الأوجاع والاسقام، ويسيغ كل من تعتريه به الليالي من أحداث جسام. فمن فاتته فيها المتع ففي الآمال متع ومناعم، ومن ألح عليه الضيق ففي المني سعة ومغانم. بل إنه ليفرح كلما مضى من عمره عام وأقبل عام، بما توسوس له من المنى وعدله من كواذب الأحلام. ألا عاشت هذه الاثرة ليعيش في ظلها هذا الانسان. . .

