كان له صفتان تتناقضان عند كل إنسان إلا عنده : الكرم والبخل ، الكرم إلي حد الاسراف ، والبخل إلي حد التقتير!
يشترى كل يوم خمس ورقات من ورق اليانصيب ، لأنه - كما يزعم- مؤمن بأن الجمعيات الخيرية أجدر الهيئات بالمساعدة والبر ، فهى تؤوى الآيتام ، وتعالج المرضى ، وتطعم المساكين ، وإذا لم يوالها الناس بالعطف والتشجيع ، تعرضت للافلاس والفشل ، وتعرض معها آلاف من تؤيهم وتطعمهم المتشرد والموت ، جوعا أو مرضا .
وبقدر هذا الايمان كان زهده فى الربح ، فهو لا يفتأ بقسم أغلظ الأيمان - كلماهم بتمزيق الأوراق التي اشتراها ولم تريح - بأنه لو قدر له الربح يوما ، ما امتدت يده إلى مليم واحد مما يربحه ، بل سيكون سبيل هذا الربح أن يعود إلى الفقراء ، لأنه - كما يصر - لا يقبل أن يأخذ من مال المحتاجين .
كان هذا من مظاهر كرمه ، أو كل مظاهر هذا الكرم ، التي يعرفها عنه زملاؤه ويمروهم منها شئ يشبه الشك كلما حدثت فى صباح كل يوم.
وكان يتسلل فى خفة كلما اشتد به الظمأ إلى (( الحنفية)) المعدَّة للغسيل ، فيهل منها حتى يتصبب العرق من جبينه ، ولا يفكر مرة ان يطلب من الفراش كوباً من الماء المثلوج ، لأنه لا يعامل الفراش فيشرب من القهوة أو الشاى
ما يبيح له ثمنه أن يطلب ماءً مثلوجآ. فاذا خطر لأحد زملائه أن يسأله لمَ لا يعد َّ الفراش من هؤلاء الفقراء الذين يتأكل قلبه حنانآ عليهم ، أجاب فى استنكار :
أأَحْسِن’إلى غشاش ، وأسىء إلى معدتى فى- وقت واحد ؟أتظنون أنكم تشربون قهوة ؟ ياللعبط إنه فول سودانى محمص...
وإذا طال لسان خبيث آخر ، فسأل فى تظاهر بحسن النية ؛
ولم لا تشرب ليموناً أو ((كازوزة )) أو حتى- ماءً مثلوجاً فقط ؟
عندئذ يعتدل هو فى مقعده ، ويصلح من رباط رقبته المتداعى ، ويقول فى لهجة الخبير:
يا مساكين ! هل أتلف صحتكم غير السموم- المهلكة :الكازوزة المصنوعة من حامض الكبريتيك والليمون المشبع بالحموضة ، والماء المثلوج ، وهو أكبر متعب للمعدة وجالب للصداع...
وتمر لحظة سكون يكتم الجميع فيها ضحكات ساخرة تتربص الفرصة لتنطلق ، حتى ينبههم صوته مستفسراً عن مدى إيمانهم بصحة ما يقول ، وعندئذ تمتد شفاههم وتهتز رؤوسهم وقد جمع منظرهم بين التأمين على ما يقول ، والأسف والحسرة على ما مضى من العمر ، وضاع من السنين ، قبل أن يوقعهم الحظ الحسن فى يد أستاذ ما هى مثله ، ولا يفتأون يرددون الاعجاب بآرائه السديدة
ومعلوماته فى الطب ، متجنبين أن تذكر كلمة الاقتصاد على لسان واحد منهم ، أنهلم لا ينسون أبدا ما تثيره هذه الكلمة فى نفسه من ميل شديد المحاضرة عن نفسه ، وكشف نواحى الإسراف فى حياته ، والحديث عن كراهيته واحتقاره للمادة والماديين ؛ حتى لقد أثار مرة نقاشا هائلا حول مصار الاقتصاد لأن أحد زملائه أراد أن يصفه بأنه رجل مقتصد و (( موزون )) ، نقاشا لم ينته إلا بملخص "موجز لصورته هو بريشته " (( هو ))
أنا مقتصد ؟ أنا ؟ ماهيتي كلها عشرة جنيهات ، - أسكن بثلاثة والباقي كله على الأكل والشرب ؟ أنا مقتصد ، ومقدار ما ينفق على الفاكهة فى بيتى جنيهان ، ولحم وخضار وعيش وورق بانصيب بالباقي ، واحد بهذا الشكل يقال ... عنه إنه مقتصد ؟
كان ذلك أبلغ درس ألقاء عن كراهيته لأن ينعت بالاقتصاد ، فقد انتهى ذلك اليوم المشهود وهو لا يزال يدفع عن نفسه مهمة الاقتصاد فى حرارة وشدة ، مصرا . على أنه أكبر مبذر عرفه التاريخ
ظل كذلك فى حصانة من محاضراته من كل اتهام بالبخل أو تهكم بالاقتصاد ، حتى أقبل يوم تعيس ، لم ير في . حياته أتعس منه
أقبل عليه قريبان من بلدته يزورانه حتى لا يفوتهما حين يعودان إلى البلدة أن يتحدثا بفخر عن زيارتهما (( للوزارة )) ، وشربهما القهوة عند قريبهما صاحب . المكانة فيها
أقبل الضيفان على الحجرة فما رآهما حتى هب من كرسيه محييا فى شوق وفرح ، ومضي يعدو فى الردهة باحثا عن مقاعد ، حتى استطاع آخر الأمر أن يجلب مقعدين من إحدي الغرف ، قدمهما للزائرين الكريمين ، وانطلق يسألهما عن أحياء البلدة حبا حيا ، وعن أهلها واحدا
واحدا ، متشاغلا بالحديث ، وبإظهار غبطته وسروره للقائهما وزيارتهما ، عن القيام بواجب الضيافة التافه وهو . تقديم فنجانين من القهوة
إلى هنا وكل شئ يسير فى مجراه الطبيعى ، فهو مشغول بالحديث عن البلدة وأهلها وأحيائها طورا ، وعن عمله الحكومى ومتاعبه ومسئولياته الخطيرة طورا آخر ، على حين قد أنهمك الزائران فى الإنصات لحديثه الخطير الشائق تتنازعهما كل عوامل الزهو والفخر ، لتمتعهما بحديث . رجل خطير الشأن هو فى الوقت ذاته قريب عزيز
لا يدري أحد أية ريح شريرة حملت الفراش فى تلك اللحظة إلى ولوج الغرفة حاملا بضعة أكواب من الماء ؟ ولايدري أحد أيضا ماذا أصاب أقدامه فتثاقلت أمام مكتب صاحبنا ، وكلاهما لا يعامل الآخر ؟
أدار الزائران رأسيهما فى حركة طبيعية ، ونظرا إلى الفراش تلك النظرة المعتادة ، التى ينظرها الضيف دائما فى انتظار الحوار التقليدى بينه وبين المضيف عما يطلب من شراب ، ذلك الحوار الذي يبدأ بالعرض وبنتهي بالقبول . ويتخلله التمنع
ولكن هذا الحوار لم يدر بالمرة ، فهو لم يعرض ، وأصحابنا لم يتمنعوا ، كل ما حدث أن رأسه هو قد دار ، دار يمينا وشمالا يبحث عن مخرج ، نظر إلى سقف الحجرة عله يجد نقوشا يتلهى بتأملها فلم يجد ، فرجع بصره إلى أنانها يتفقده قطعة قطعة ، وإلى مكاتب زملائه كان لم يرها من قبل الآن ؛ وآخر الأمر لجأ إلى درج ففتحه وانهمك في تقليب أوراقه كأنما يبحث فى خلالها عن مخرج من هذه المحنه . وحين رفع رأسه ثانيا متوقعا زوال العاصفة كان الفراش قافلا فى طريقه إلى الباب يحمل أكوابا قد خلت . من الماء المثلوج ، عدو المعدة اللدود
كأنها مؤامرة مدبرة أن تتناقل أقدام الرجل للمرة
الثانية ، وأن يحتك رداؤه ببعض الأوراق المتناثرة على مكتبه ، فتقع الأوراق ، فيضع هذا الرجل الخبيث أكوابه وينحنى لانتقاط الأوراق ويعيدها إلى موضعها على المكتب فى بطء شديد ، بينما أنظار الزائرين ترقب كل حركة من . حركاته ، وتتعجل حوار الضيف والمضيف
للمرة الثانية أيضا لم يدر الحوار ، وإنما دار رأس صاحبنا وأسرع فى دورانه هذه المرة ، وكأنما هبطت رحمة الله عليه فجأة ، فقد أبرقت أسارير وجهه ، وانتفخت أوداجه ، ومال علي كرسيه فى كبرياء ، وأرسل صوته فى :قوة واتزان
!هات ثلاثة تمر هندى يا حسن - كان يعلم أن الإجابة على هذا السؤال هى اعتذار الفراش ، فقد سمع منذ ساعة أعتداره لأحد زملائه وقد طلب نفس الشراب بأنه قد نفد ، لذلك لم يخالجه الشك فى أنه انتصر ، وأن المسألة بعد ذلك لا تعدو محاضرة للزائرين فى فضائل هذا الشراب وفى الاعتذار من نفاده ، ثم يعود .الحديث ثانيا إلى البلدة وأخبارها والعمل وخطورته
، انفرجت شفتا الفراش فعلا عن كلمة الاعتذار المنتظرة ولكن سوء الحظ الملازم أبى إلا أن يضيع صوته في ثنايا صوت مزدوج فيه كل صراحة الريف ووضوحه ، انبعث من فم الزائر فقطع على صاحبنا حبل الآمال ، وأطار من :رأسه محاضرته واعتذاره
لا ، هات قهوة أحسن ، لا داعي للتمر هندى- .ولكن - أولا - أسعفنا بالماء
قبع صاحبنا فى كرسيه ، وقد اتهد كيانه كأنما مالت على أكتافه صخرة ، وعقد لسانه فلم يحاول أن يشرح لضيفيه وجع المعدة الذى يحدث من شراب القهوة المصنوعة من القول السودانى المحمص ، أو شرب الماء المتلوج . ألماء
عن معد الناس أن معدته هو كانت إذ ذاك كأنها مستودع هائل من الآلام والأوجاع ، كأنما قد صب فيه -- دفعة واحدة -- قنطار كامل من الفول المحمص ونهر من الماء المتلوج ، وكان رأسه يدور للمرة الثالثة فى شدة وعنف ، يضرب نصف القرش فى اثنين ، ويحول القرش الكامل إلى مليمات ، ويتصاعد بالمليمات إلى مضاعفات المليم ، و تعب رأسه واختل دورانه او تعلم بالحقيقة المرة ، فنجانان . من القهوة لا فتجان واحد
كانت هذه الحادثة ذات أثر كبير فى حياته ، ولا يدرى أحد هل معدته هى التى استحالت إلى أنون ، أم أن آراءه ومعتقداته فى الطب هى التى عرضت لأشد المحن فخرجت منها . وقد تحطمت ، بل انقلبت رأسا على عقب ؟
لا يدرى أحد ما حدث بالضبط ، وإنما تعترى الدهشة زملاءه فما رأوه من حين إلى حين ، يصيح فى الفراش طالبا كوبا من الماء المتلوج ، ولا ينقضى اليوم قبل أن .! بشرب أكثر من خمسة أكواب ، كأنه يتزود لسفر

