الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الخامس عشرالرجوع إلى "الرسالة"

منهن ومنهن

Share

( وإن من النسوان من هى روضة  تهيج الرياضُ دونها وتصوَّح ) ( ومنهن غُلٌّ مقفل لا يفكه   من الناس إلا الأحوزى الصَّلنقَحُ )

يقول حكيم العرب : " إن النساء مختلفات فى طباعهن  وأمزجتهن وغرائز نفوسهن " :

فمنهن امرأة حسنة السجايا طيبة الأخلاق ، تشبه الروضة  فيما اشتملت عليه من خضرة وزهر، وطيب ماء، ورقة  هواء. بل أن الرياض الحقيقية ذات الخضرة والنضرة، قد  (تهيج) أى يصفر نباتها و (تَتَصوَّح) أى تيبس أو تذبل  أوراقها. أما تلك المرأة فهى روضة لا تهيج ولا تتصوَّح ،  وانما تبقى ناضرة الخضرة، طيبة الشذا طول حياتها. هذه واحدة من النساء يا سعادة مجتمعها بها.

ومنهن واحدة أخرى وصفها الشاعر فى البيت الثانى  بأنها كالغُلّ. وهو القيد المقفل أى المشدود على عنق الرجل أو  يديه، يمنعه الحركة ولا يقدر على فكه الا (الأحوذىُّ الصَّلَنقَحُ)

(الأحوذى) الحاذق فى السَّوق، الذى يعرف كيف  يسوق الدابة ويحملها على السرعة فى السير. فبينا ترى غيره  يقطع بها مسافة عشرة أيام تراه هو يقطع بها ثلاثة أيام.  وذلك لأنه (صَلَنقح) أى صيَّاح شديد الصوت. (وصلنقح)  كلمة غريبة وثقيلة على السمع، غير أنها قد تروج لدى القارئ  المنصف مذ يرى المقام يقتضيها، والسياق يواتيها، والقافية  تناديها.

ووصف امرأة السوء بالغل معهود عند العرب، ومنه  قولهم: (هى غل قمل. وجرح لا يندمل) ومعنى (قَمل)  أن الغُلَّ أحيانا يكون من جلد غير مدبوغ ويكون على الأسير

الذى يدوم أسره ويطول عهده بالاغتسال فيتسخ بدنه ويعشش  القمل فى غله ويأخذ يرعى فى تجاليده فيؤذيه ويمنعه طيب  المنام وهكذا حال امرأة السوء فى البيت الذى تعيش فيه .

قد يعترض معترض على البيت الثانى بأن فيه إحالة ، ومعنى (الاحالة) فى اصطلاح علماء النقد الأدبى أن يكون الكلام معدولا به عن وجه الصواب

وهنا قد شبه الشاعر امرأة السوء بالغل الموثق المحكم  الشد. ثم قال انه لا يفك هذا الغل الا سائق صيّاح شديد الصوت

ولكن هل من عادة القيود المحكمة الشد أن تفك وتحل  عقدها بكثرة الصياح والجلبة ؟

ربما كان فى هذا الاعتراض شيء من الحق. فماذا كان  يجب أن يقال اذن ؟

كان ينبغى أن يقال فى البيت الثانى هكذا : ( ومنهن مُهر شامسُ لا يروضه  من الناس الا الأحوذىُّ الصلنقح )

فيكون المعنى أن من النساء من تكون كالمهر الشامس  (أى الشموس) الذى يكثر شروده ولا يقدر على ترويضه  وتليين شكيمته الا الرجل الذى يعرف كيف يسوسه ويؤدبه  بالانتهار ورفع الصوت والصخب عليه .

فتقول : ولكن كلمة ( شامس ) غير مأنوسة الاستعمال  والمعروف (شموس) فماذا يمكن أن يحل محلها من كلمات  اللغة ؟

أقول يمكن أن يقال فى البيت هكذا : ( ومنهن مهر كوسَجٌ لا يروضه ... الخ .

و ( الكوسج ) من الخيل : الفرس الذى تريده على السير فلا يسير حتى تضربه .

فيقول القارئ معنى (الكوسج) حسن . ولكن لفظه اشتهر فى معنى خفة شعر اللحية فلا أرى استعماله هنا . هات كلمة سواها يا استاذ .

فأقول هاكها : ومنهن مهر خارط لا يروضه . . . الخ .

و ( الخارط ) الفرس الذى يجذب رسنه من يد ممسكه ثم يفلت شاردا لا يلوى على شىء.

ومثل (الخارط) الخَرُوط . ولذلك تسمى المرأة الفاجرة التى جذبت رسنها من يد أسرتها (خروط)

يقول القارئ : وكلمة ( خارط ) أيضا قبيحة اللفظ  وكفى ( بالخرط ) قبحا .

على أن استقباح القارئ لكلمة ( خارط فى غير محله . وليس معه حق فيه : اذ كيف يستثقل كلمة ( خارط ) وهذه  كلمة (خارطة) بمعنى الأطلس الجغرافى يتلفظ بها كثيرا .  ويسمعها من صبيانه وبناته وهم يدرسون فى بيته، ومن سائر  التلامذة وأساتذتهم يقولونها عشرات من المرات فى اليوم -  كل هذا لا تستثقل معه أيها القارئ الكريم كلمة (خارطة)  وتقوم الآن فتستثقل كلمة (خارط) وتتشاءم بها !!

ومع هذا فدونك كلمة رابعة وهى : ( ومنهن مهرٌ ضاغنٌ لا يروضه  الخ .

ومعنى (الضاغن) الفرس الذى لا يعطى كل ما عنده من  الجرى حتى يضرب، أو هو الفرس الذى اذا مشى كان كأنه  يرجع القهقرى. ويمشى الى الوراء.

وقبل أن يبادرنى القارئ بالتأفف من كلمة ( ضاغن ) أذكره بالأسرة اللغوية التى تنتمى اليها كلمة ( ضاغن ) - ولو لفظا -:

فان تلك الأسرة وجميع سلالتها مقيمة بيننا محببة الينا . شائعة على ألسنتنا :

فالضغن أم الأسرة ومن نسلها ( الاضغان ) و ( الضغينة ) و ( الضغائن ) و ( تضاغن ) القوم و ( اضطغن ) فلان على فلان

فهل بعد هذا يصح للقارئ ان يتجهم لكلمة ( ضاغن ) ويدعى غرابتها . ويطلب أن يستبدل بها سواها ؟

دمشق

اشترك في نشرتنا البريدية