الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 702الرجوع إلى "الثقافة"

من أدب العرب :, حديث النحل فى شعر هذيل

Share

-٢-

طريقة الاشتيار :

وينبغى أن نذكر الصيد هنا مرة أخرى ؛ فثمة علاقة طبيعية تربط بينه وبين اشتيار العسل . فكل منهما قائم على القصص ، وإن كان الصيد يقوم إزاءه قصص حزين لا يسرد مشاق الصياد ولا يعرض لمخاطراته ، وإنما يصور حال هذه الدنيا التى لا يبقى على حدثانها أحد . ومن هنا يختلف عن الاشتيار ، فينفرد هذا ، بمطابقته للواقع بعد خلقه خلقا فنيا جديدا .

وأطرف ما يلقانا فى ذلك ما يقوله أبو ذؤيب عن رجل من بنى خالد ، وكانت لهم - على ما يبدو - شهرة باشتيار العسل :

فلما رآها الخالدى كأنها

حصى الخذف تكبو مستقلا إيابها

أجد بها أمرا وأيقن أنه

لها أو لأخرى كالطحين ترابها

فقيل : تجنبها حرام ؛ وراقه

ذراها مبينا عرضها وانتصابها

فأعلق أسباب المنية وارتضى

ثقوفته إن لم يخنه انقضابها

تدلى عليها بين سب وخيطة

بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها

والنحل من عادتها أن تأتى الجبل فتصل فى صخرة ملساء وسطه ، فيقدم الشائر صاعدا من وراء الجبل حتى يصير فى أعلاه فيضرب هناك وتده ، ويشد فيه الحبل ويدعه يهوى ، ثم يتدلى عليه حتى يصل إلى الصخرة . ويقول أبو ذؤيب إن الخالدى رآها كأنها الحصى يرمى بالأصابع ، وكانت حين أوقت على مكانها تزل من لينه . فأحكم أمره وعقد عزمه

على أن يصل إليها أو يهوى إلى الأرض ممزقا . وقال له قائل : يا حرام دعها فالوصول إليها عسير ؛ ولكنه أبى وركب رأسه ؟ ذلك أن عسلها أعجبه . وتاق هو إلى أقراصه الشهية . ومن ثم علق حباله وتدلى عليها دون أن يخشى انقطاعها به . ووصل فعلا إلى الصخرة الجرداء التى تشبه فى استوائها بساط الأديم والتى يزل عنها ظفر الغراب ولا يثبت فوقها لملاستها .

وفى وسعنا أن نلمح كيف أجاد الشاعر فى نقل " الأشكال " فى إطار بارع جميل . غير أن الإجادة هنا إجادة مصور يثير الحركة فى كل ما يصوره . ولا يظنن أحد أن تلك الصور التى رسمها سمت لأنها نقلت الواقع فى أمانة ، بل لأنها نقلته نقلا فنيا ، وإلا فلن يختلف عمل شاعرنا عما تعمله آلة التصوير ، ونعود بالشعر إلى حيث ظن بعض قدامى اليونان أنه نقل مباشر عن الطبيعة وتقليد لها .

ونرى الإجادة نفسها فيما يقوله ساعدة ، ولكنه يسجل فى لقطة بارعة صورة العسال وهو يتأرجح فى الهواء ، ثم يسجل فى لقطة أخرى صورته بعد أن اشتار

وكأنه حين استقل بريدها      من دون وقيتها لقسى يتذبذب

فقضى مشارته وحط كأنه     خلق ولم ينشب بما يتسبسب

فأزال ناصحها بأبيض مفرط    من ماء ألهاب عليه التألب

وليس يتسنى لأحد أن يرى ذلك المنظر دون أن يؤخذ ؛ وإنه لمن الضرورى أن نقر للشاعر بمهارته ، فقد أبى أن يقف بلوحته وقفه جامدة أو باهتة ، وإنما دفعها أو دفع الحياة إليها حين جعل المشتار يتدلى على حبل كأنه ثوب خلق - وهو دائما فقير - ويتذبذب ويتطوح ، حتى إذا قضى مشارته هبط إلى الأرض خفيفا نشيطا دون أن يتلطخ بالعسل الذى يسيل ، والرجل يعرف ماذا يفعل بعد ذلك إذ يقصد إلى مهواة فى الجبل ويمزج العسل بمائها الصافى يظلله شجر التألب .

ومن الممكن أن نقف على سر براعة الهذليين وإجادتهم إذا علمنا أنهم نفخوا روحهم فى ذلك الشعر ، وما الفن إذا لم يكن كذلك ؟ يخطئ من يظن أن الخلق الفنى عملية تكوين من العدم ، فما شئ يوجد من لا شئ ؛ وليست البراعة فى بناء الهيكل وبسط الصورة كما يفعل المهندسون ، إنما هى فى اختيار زاويتها المثيرة لتسكب فيها الروح وتسدل عليها الكسوة ، وذلكم هو الابتكار .

فموضوع النحل قديم ، ضرب الله لنا بها مثلا لقدرته . . فكانت زاوية غير تلك الزاوية التى التقط منها الهذليون صورهم وكونوا أشكالهم . الأولى سجلها تعبير تصورى خالص ، والثانية كان قوامها الإحساس بما فيها من جمال وإثارة .

ولكن أطرف مارأينا فى تلك الزاوية التى وقف عندها الهذليون عناء الشائر وتكبده المشاق فى سبيل الوصول إلى الوقية ، وهنا يحق لنا أن نسأل : لماذا كان الهذليون يقبلون على هذا النوع من الحياة وفيه من الخطورة ما فيه ؟ أما الإجابة فتتلخص فى أن ذلك النوع فضلا عن أنه يلائم نفوسا طبعها الإقليم على حب المغامرة - وكذا كان الهذليون - فإنه كان يهيئ لهم رزقا مضمونا ، والهذلييون كانوا فى معظمهم ضيقى الرزق ، شقت عليهم طبيعة إقليمهم بالكثير الكثير .

أسلوب الاشتيار الفنى:

وقبل أن نمضى فيما نريد هنا نحب أن نبين شيئين لهما من الخطورة ما لا يقدر على إنكارهما أحد . أما الأول فهو مكان حديث النحل فى القصيدة الهذلية ، والثانى الطابع العام لهذا الحديث ، ويمكن بعد ذلك أن نزعم أنا مهدنا السبيل لفهم الأسلوب الذى اتبعه الشاعران فى حديثهما عن النحل .

أما عن مكان الحديث فى القصيدة فهو يأتى فى معرض الغزل ، وكثيرا ما يقترن بالخمر فتكون ثمة موازنة ؛ فثغر الحية أشهى من العسل وألذ مذاقا من الخمر أو هو أطيب من الاثنتين ممزوجتين فى ساعة صفو وسلام ( قد يؤنث العسل).

وهذا ساعدة يتغزل ويقف عند ثغر صاحبته ويصفه وحين يتخيل حلاوة طعمه يطرحه جانبا ليتفرغ إلى أرمى الجوارس ، ويستطرد إلى بعض ما يبناه أو كله حتى يمزج العسل بالخمر ليذكرنا ثانية بأن رضاب صاحبته أشهى وأطيب . يقول :

ومزاجها صهباء فت ختامها

قرط من الحرس القطاط مثقب

فكان فاها حين سقى طعمه

والله أو أشهى إلى وأطيب

والقرط هو الخمار ، ويريد بالحرس القطاط العجم الجعاد ، يريد أن فاها ألذ مذاقا من طعم الخمر ممزوجة بالعسل .

ويفعل ذلك راويته أبو ذؤيب ، فبعد حديث طويل عن الخمر وتعقب مستفيض المواضع التى نزلها صاحبها قال :

أتوها بريح حاولته فأصبحت

تكفت قد حلت وساغ شرابها

بأرى التى تهوى إلى كل مغرب

إذا اصفر ليط الشمس حان انقلابها

وكالعادة يدع الخمر إلى النحل ويمضى فى أناة فيصفها ويقف معها عند وقيتها ، ويتتبع الشائر ويصف نشاطه فى سبيل الوصول إليها ، حتى يدخن عليها ويأخذ العسل ، ثم يقول عارضا للخمر فى نفس الوقت :

فما إن هما فى صحفة بارقية

جديد حديث تحتها واقتضابها

بأطيب من فيها إذا جئت طارقا

من الليل والتفت عليك ثيابها

وتلك نهاية الحديث دائما كان يأتى استطرادا ، حتى ليخيل للقارى ، أنه مقحم فى القصيدة إقحاما ، ولكن عناية الهذليين ، وانصرافهم له يريانا أنه لم يكن بالأمر الذى يستغنى عنه .

ذلكم شىء ، وأما الشئ الثانى - وهو عن طابع الحديث كما بينا - فيعنينا فيه أن نقول إن النظرة الصحيح فى الفن الفولى ، ولاسيما الشعر ، تقفنا على نوعين من النصوص التى تقرؤها ؛ فثمة نص لنتأثر به يجب أن نتحلى الحالة النفسية التى يرمز لها ، وثمة نص آخر لنتأثر به ينبغى أن يكون

قادرا علي أن يوحى لنا بما يدل عليه من أشكال " forms الأول أساسه نفسى ذاتى ، والثانى أساسه حسى واقعى ، أو قل مادته الطبيعة الخارجية ، وقد نرى فى كل شيئا من الآخر ، فيكون هذا أرقى ما يصل إليه المنفتن ، ولأجل ذلك سما شعر وردزورث wordswarth فى الطبيعة لأن الشاعر سكب فيه روحه وأودعه حياته .

وشعر الهذليين فى النحل من النوع الثانى . . النوع الذي يؤثر فينا ويروعنا ، لأنه يقيم أمامنا أشكالا حية ، هو فى الطبيعة ، إلا أن الشاعر خلفه خلقا فنيا وعرضا مثيرا فيه قوة وفيه جمال ، وقد يقف المتأمل فيه حائرا لا يستطيع الإحاطة بما وراءه من أخيلة وحياة . فعليه فى هذه الحالة ألا ينكر قيمته ، لأن ما وقف حالا دونه ليس إلا اللفظ الغريب ، وشعر هذيل يميزه هذه الظاهرة لأن لغته عاشت متبدية دون أن تختلط بلغة أحد .

على أن هذه الصعوبة ليست كل شئ ، إذ أن معجمات اللغة تعيننا كثيرا على فهم مدلولات الألفاظ . إنما الصعوبة الحقة فى إدراك حقيقة هذه الروح المغامرة التى تتحدى الطبيعة والتى تريد أن تقف دوين الشمس والتى تتذبذب فى الهواء كالثوب الخلق ؛ ولأجل ذلك ينبغى أن نقرأ هذا الشعر فى جانب من تقاليدهم وعاداتهم الاجتماعية.

ومع ذلك فالغرابة والواقعية الفنية لينا كل شئ فى أسلوب الهذليين الفنى . إنما هناك أيضا المنزع القصصى إذا فهمنا من القصة أنها حادثة اجتماعية لتطور شخصياتها مع تطور الحوادث ، وقد لا يروق هذا القول بعض القراء فيرى للقصة حدودا أخرى وقواعد خاصة ؛ غير أنى أكتفى بأن أقول إن الشعر الفرنسى يحفل الآن بما يسموه شعر الـ  ballade  وهو قصص صغيرة منظومة كانت تنشد أولا أثناء الرقص ثم استغنى عنه وقامت هى وحدها .

وحديث النحل لا يختلف كثيرا عن " البالاد ( فأنت تراه قصة لذلك الرجل الفقير الذى يخرج كل يوم حاملا وراء ظهره متاعه . ويذهب صعدا فى الجبال حتى يعثر على موضع للنحل ، فيبدأ صراعه مع الطبيعة ويتعلق بالحبال ويقضى مشارته ثم يقفل راجعا راضيا بما غنم ، ومن هنا

كان ذلك الشعر من الأدب الموضوعى إلا فى حالات نادرة يظهر فيها عنصر الذاتية .

والشئ الأخير الذى نلاحظه فى أسلوب الهذليين الفنى هو ميلهم إلى التمثيل وبراعتهم فى التصوير ، حتى إنه يمكن أن نجد لهم بعض لوحات خلدها الزمن كما خلد لوحات رميراندت Rembarndt ورفائيل Rraphael وغيرهما . وأما عبارة الهذليين فى ذلك فتدل على فهمهم للروح الداخلية للأشياء كما تدل على سعة فى الخيال الحسى ، وتلك موهبة لا يمكن أن يدرك الفن إلا بها .

وأنا أعلم أن الشعر الجاهلى كله فيه ظاهرة التميل ، غير أن قبيلة لم تعرف به قط كما عرفت هذيل . وقد نجد فى شعر امرئ القبس وزهير والنابغة وغيرهم فى العصر الإسلامى كجرير وذى الرمة بالذات تصويرا قويا ، إلا أن هؤلاء كانوا أفرادا ولم يتفرغوا له تفرغ الهذليين ، ولهذا امتاز مذهب هؤلاء بالتصوير وفيه ما فيه من الأصول التقليدية التى لم يكن لهم سبيل إلى التحول عنها .

اقرأ هذا البيت . . بل انظر إلى هذه اللوحة الحية التى عمل على إخراجها روح شاعر مصور موسيقى :

وكأنه حين استقل بريدها  من دون وقيتها لقى يتذبذب

إنه ذلك الرجل الذى يريد أن يصل إلى النقب فيه العسل . لقد تدلى من القمة بحبله فأخذ الهواء يدفعه هنا وهناك . . فى حركة رتيبة منتظمة ، فبدا فى ذبذبته تلك ثوبا ممزقا يتطوح فى الفضاء ، ولا تنس أن الشائر دائما بالى الثياب ؛

وقد أخذنا أنفسنا بأن نحتفل بصورة " العارية للرسام بلانشو Blanchot  ونعجب باللوحة النادرة التى أقامت الكنيسة البابوية خلال الصف الثانى من القرن السادس عشر والتى صور فيها " كرافادجيو " القديس متى والملاك . . فهل تدرى لماذا ؟ ليست صراحة العارية وفتنتها ، وليس روعة القديس والملاك ما كتب الخلود لهذين الأثرين الجليلين إنما الذى هيأهما لذلك الحياة التى شاعت فى كل .

لم تكن العارية تصرخ فيها رغبة الأنثى ولكن كانت تمثل الأمومة البرة والأنوثة الطاهرة . . فى صورتها حنو وعطف يظهران فى وضع الطفل على كتفها ، ثم فيها أنوثة

شابة ، ولكنها حيية ترتعش فى هذه الروح التى أشاعها الرسام الفرنسى فى كل جزء من أجزاء جسمها . وأما صورة القديس والملاك فيكفى أن صاحبها تعرض لغضب البابا لأنه أودع القديس حياة صاخبة حمقاء ؛ ففى جلسته فوضى ، وفى نظرته شراهة وشراسة ، حتى لكأنها ترمز إلى ذلك الشر الكامن فى نفس كل مخلوق !

خلود العمل الفنى إذا فيما يدل عليه من حياة ترعاها قوة ويهزها جمال . فانظر إذا إلى هذه الأشكال المتحركة النابضة بالحياة التى وقف عندها أبو ذؤيب :

وأشعث ماله فضلات ثول      على أركان مهلكة زهوق

قليل لحمه إلا بقايا . .          طفاطف لحم ممحوص مشيق

تأبط خافة فيها مساب           فأضحى يقترى مسدا بشيق

على فتخاء يعلم حيث تنجو     وما فى حيث تنجو من طريق

كلا . فلا يروعنك اللفظ ؛ فالطفاطف ما استرخى من لحم إلى الخاصرة ، والممحوص الهزيل ، والمشيق الضامر والفتخاء اليد فيها فتخ أى لين . الصورة وضحت الآن . . هى عن ذلك الرجل الذى يدب على المهلكة الملساء . انظر إليه وتأمل ضموره وهزاله ، ثم امض معه وقد تأبط قربته وبدأ يهبط الحبل بيديه المعروقتين الشديدتين . إنه الشاعر الذى يتحرك وليس الرجل .  إنه أبو ذؤيب الدقيق الحس الواسع المخيلة الخبير بالتمثيل ، قد عرف كيف يخلد فى شعره صورة المشتار فى صدق وصراحة وحياة

وقف مرة ثانية أو ثالثة عند ذلك البيت التالى ، فلا شك أنك سوف تعجب .

بأرى التى تهوى إلى كل مغرب

إذا أصفر ليط الشمس حان انقلابها

لم يزد الشاعر إلا أن أودع بيته ألفاظا موحية ، حتى لكأنه يبدو أنه نموذج فنى التقط من زاويتين بارعتين ، حرص الشاعر فيهما على التناسق وتسجيل الحركة ؛ فالنحل تهوى وتغيب عن عينى الشاعر فلا يدرى أين ذهبت ، ولكنه يعلم أنها وراء تلك القمة العالية . هناك وراء المجهول الذى لا يعرف عنه أمرا ، ولهذا قال " إلى كل مغرب "

ثم ينتقل سريعا إلى زاوية أخرى ؛ فالشمس تجنح للغروب ويبهت لونها ويشحب ، فتعلم النحل أن نهاية الكد قد أزفت ، فتنقلب راجعة إلى موضعها ، أرأيت صورة النحل وهى تندفع كفتر الفلاء ؟ إنها هنا تطير والشمس لا تزال عند الأفق . تضئ لها الطريق بطرف أصفر واهن كأنها تخشى عليها أن تضل الطريق .

ذلك ما كان يفعله الهذليون . فى صورهم حياة وجمال ونظام وهذا هو روح الفن وآية الحلود ، فإذا سكتنا هنا فليس إلا لأنا ندرك أننا فتحنا السبيل أمام القراء ليطلعوا على شعر الهذليين فى النحل ، وليقرءوا أيضا شعرهم فى كل ما تحدثوا عنه . إنهم كانوا يعملون دائما فى الجو الذي يندمجون فيه بروحهم ؛ فتأثروا التأثر الفطرى . وانفعلوا الانفعال الصادق ، وعبروا التعبير الموحى فشقوا لأنفسهم طريق البقاء .

أحمد كمال زكى

اشترك في نشرتنا البريدية