عزيزى الدكتور
قرأت الرد، ومرة أخرى أتأمل ما بيمينك. هذه العصا عجيبة التركيب، انك لا تلمس شيئا حتى ينقلب إلى حق، حق كبير يبتلع كل رأى، ويلقف كل حجة. تلك عصا الأستاذية. ما كنت أجهل أنك حاملها فى هذا العصر. نحن متفقان. ولا خلاف بيننا فى الغاية. وهو مطلبنا. هنالك تفاصيل افترق فيها عن الدكتور ولن أعود إليها. فأنا أفزع من النظر الى الوراء، خشية أن أتحول إلى تمثال من الملح، أو حتى الى تمثال من الذهب. نفسى تصدف أحيانا عن الفكرة الجامدة مهما تكن خالدة، ويحلو لى أحيانا أن أنثر الأفكار عابثا من نافذة قطار. ان رسائلنا فى حقيقتها لا تعنى أكثر من أثارة الغبار فى أرض نائمة مفروشة بالحصى. لسنا نصدر أحكاما بهذه الكتب السريعة. انما نحن نطرح مسائل ونلقى بفروض سوف يلتقطها ويجمعها الباحثون المنقطعون يوم تستيقظ الأجيال. اتفقنا اذن. أو ينبغى لنا أن نتفق على أى حال، حتى ننصرف إلى شىء جديد. إن البحث عن الجديد هو الخليق عندى بالمجهود. ولقد فتح لنا اليوم باب الجديد الأستاذ أحمد أمين. قال لى ذات مساء أنه يضع كتابا فى أصول النقد، ويود أن يولينى شرف المشاركة فى البحث من بعض وجوهه. النقد؟ لفظ رن فى أذنى. وذكرت للفور أن رسالتى الأولى للدكتور كان موضوعها "الخلق". وقلت فى نفسى ما يمنع من اتمام الكلام فى رسالة ثانية يكون موضوعها "النقد" واذا الأمر ينكشف لى عن قضية كبيرة: أنعد النقد كالخلق خاضعا لسلطان التيارات الفكرية الثلاثة التى ذكرها الدكتور: التيار المصرى القديم، والتيار العربى، والتيار الأوربى؟ أم نعد النقد كالعلم لا يخضع لمثل هذه المؤثرات؟ أما أنا فلن أجيب عن فورى عن هذا السؤال. فأنا أكتب ولا أدرى أين يحط بى القلم. دعنى أولا أنشئ على هذا النغم بعض "تقاسيم" دون أن أعنى الآن بالغاية. أن الغاية أحيانا رخيصة بجانب الوسيلة على الأقل فى نظر الفن. لأن الغاية فى الفن لا تبرر الوسيلة. الحياة كذلك، تلك القطعة الفنية التى أبدعها الخالق، أهى شىء غير وسيلة متينة التكوين؟ ألها
معنى فى غير ذلك الطريق المبين الذى أوله ضباب وآخره ضباب؟ خط هندسى رسم على لوح الوجود، كيف ابتدأ، كيف انتهى؟ لا يعنى ذلك علم الهندسة. إنه خط بين نقطتين وكفى. ليس لنا أن نسأل عن غاية الحياة، ولا عن غاية الفن، ولا عن غاية العلم. إن الغاية لا تهم. انما المعنى كله فى الوسيلة. الحياة هى الطريق. العلم هو الطريقة. الفن هو الأسلوب. أما الغاية فلا غاية. وهل يترجى من العلم أو من الفن أو من الحياة غاية مطلقة يوما من الأيام؟ محال. ما نحن إلا أسلوب الخالق. ما الكون إلا أسلوب. الأسلوب كل شىء عند كل خالق وفى كل خلق. إن الخالق أعظم من أن يحبس إرادته الخالدة فى حدود، غاية، لفظ يدل بذاته على معنى الانتهاء. فى اعتقادى أن كلمة "غاية" هى من صنع العقل البشرى الصغير. هذا العقل المحدود الذى يضع كل شىء دائما داخل حدود، ويأبى ألا أن يكون لكل شىء أول وآخر. إنما الخلود فى الأسلوب. لأن الأسلوب لا أول له ولا آخر، فهو شىء كائن دائما، لا علاقة له بالزمن. أن رجل الفن، وهو المقلد الأصغر للمبدع الأكبر، يدرك أن الفن لا يعيش بالغاية. لأن الغاية فانية كاسمها. وإنما يعيش الفن بالأسلوب. لقد انقضت الغاية من تشييد الأهرام، وفنيت الغاية من بناء البارتينون. دفن الموتى أو عبادة الآلهة الغابرين غاية قد ماتت وبقى أسلوب الفن وحده خالدا فى الأهرام والبارتينون. خدمة الأنسانية غاية العلم فى نظر البسطاء. لو سئل عالم فى ذلك لابتسم: "مالى وللأنسانية! إنما أنا أبحث عن سر أسلوب الصانع الأعظم. انما هى لذة البحث وحدها. إنما هى طريقة البحث وأسلوبه. ولولا ذلك السرور الذى يملأ نفسى إذ ينكشف لعينى الباحثة عن جمال أسلوب الله لما تجشمت النصب فى سبيل العلم، ولما كان للعلم هذا المعنى الرفيع." المخترعات كذلك ليست غاية العلم. هى تطبيق للعلم. إنما العلم هو البحث الخالص المجرد عن كل غاية وعن كل استغلال. لقد كان الاغريق يبحثون ولا يطبقون. فيثاغورس مثل من أمثلة الأسلوب الخالد للعلم الخالص. الأسلوب اذن هو محور النقد كما هو عماد الخلق، وكلمة الأسلوب رحبة عميقة كالبحر، فى جوفها كل كنوز المعرفة التى يصبوا اليها البشر. ولعل كل ما أوتيه الانسان من سليقة سامية منذ أول الأزمان ليس ألا انعكاس أسلوب الخالق فى نفس الانسان. هذا المنطق الذى نشأنا عليه، ونرجع اليه فى كل حياتنا، هذا الاحساس بالنتيجة والسبب، هذا الشعور بالتناسق والتناسب، هذا الادراك للصلة التى تربط الشىء بالشىء، من أين جاءنا هذا نحن البشر؟ أهناك مصدر آخر غير أسلوب الخالق؟ فتحت البشرية عينيها فألفته حولها.
فهو موجود قبلها وقبل الخليفة كما يوجد الرسم والتصميم قبل البناء. إن أسلوب المبدع فى صنع الخليقة هو وحدة المنبع الأزلى لهذه الصفات كلها: المنطق، ارتباط السبب بالنتيجة والشىء بالشىء. والجزء بالكل، والتناسق والتناسب. صفات هى بعينها صفات الأسلوب السليم لكل عمل فنى عظيم. أسلوب الله هو المعلم الأول والأخير. وما أول صورة رسمها الانسان على الأحجار وعظام الحيوان سوى اعلان شعوره الخفى بتلك الصفات، إن رجل الفن الأول هو أول انسان عرف "المنطق" صفة فنية بعد أن كان المنطق سليقة سامية تسبح فى أنحاء نفسه ولا يعرف ما هى. إن المنطق الذى شيد الأهرام صورة محكمة لهو المنطق الذى شيد الكون. ما المنطق؟ ما معنى المنطق؟ سره فى تلك المرآة العظيمة الصافية التى تحيط بنا كالجدران: الوجود، أجمل مثال للمنطق فى الأسلوب ينبغى لرجل الفن والأدب والعلم أن يطيل فيه النظر. كل شىء فى هذا الوجود مصنوع على طريقة واحدة وعلى قاعدة واحدة. ما القاعدة التى بنى عليها الوجود؟ هى القاعدة التى بنيت عليها الأهرام. هى قاعدة كل بناء: التماسك بين الأجزاء فى كل واحد متسق. هذا التماسك ما علته وكيف يكون؟ قانون أستطيع أن أفرغه كما يفعل الرياضيون فى صيغة بسيطة من لفظين: "الأخذ والعطاء". كل شيء فى هذا الوجود يحيا على نمط واحد. وكل حياة فى هذا الوجود لها مظهر واحد: أخذ وعطاء فى حركات متصلة متشابهة(١): زفير وشهيق عند الانسان والأحياء، اكتساب واشعاع عند النجوم والأشياء. الأخذ والعطاء قانون التماسك والاتصال فى حياة الفرد والمجتمع والأمة والأمم. وفى حياة الأخلاق والسياسة والاقتصاد. وفى حياة المادة والروح. وفى حياة الأرض والأجرام والسدم. ليس فى الوجود شيء لا يأخذ ولا يعطى. وليس فى الوجود شيء يعطى ولا يأخذ. كل شيء يعتمد على كل شيء فى هذا الكون. بنيان مرصوص يشد بعضه بعضا.وكل خلق بنيان. ولا بنيان بغير وحدة شاملة، ولا وحدة شاملة بغير تضامن بين الحجر والحجر، وبين الجزء والجزء. هذا التضامن وليد ذلك القانون: "الأخذ والعطاء" ليس هذا كل المنطق فى صنع الوجود انما المنطق فى تركيب ذلك القانون. ما قوام الأخذ والعطاء؟ هل يكون أخذ وعطاء إلا بين كائنات متشابهة؟ ما الحال لو أن الخالق أبدع فى وجودا آخر على أسلوب آخر، فصنع أناسا يعيشون بالزفير ولا يعرفون الشهيق، ومخلوقات تأكل ولا تصرف، وأجراما تكتسب الحرارة
والضوء ولا تشع؟ أى اتصال يمكن أن يقوم بين كائنات خلقت على غير أسلوب واحد؟ لا اتصال، وحيث لا اتصال لا بناء. لا خلق ولا بناء اذن فى الكون أو فى الفن بغير وحدة الأسلوب. كذلك فى مادة الأجزاء. هل يقوم أخذ وعطاء بين أجسام لا تتحد فى مواد البناء؟ أى اتصال بينى وبين أخى وابنى لو أن الخالق صنعنى من عناصر غير عناصرهما فجعلنى من يابس ورطب وجعلهما من نور ونار وغاز وبخار؟ أى ارتباط لو انه جعل كل مخلوق منفردا بمادته وهيئته وعناصره عن كل مخلوق. وأى هرم يمكن أن يشيد بأحجار، أحدها من صخر، وآخر من عجين، والثالث من ورق، والرابع من طين؟ لا ارتباط من غير تشابه وتماثل. ولا تضامن بين أجزاء غير متجانسة فى التركيب. ان كل ما نحس بوجوده يتحد معنا فى بعض العناصر. بغير هذا ما كنا نعترف له بوجود. إنا نعرف الأجرام لأن أجسامنا تعرف الحرارة والضوء والحديد. التشابه شرط الأخذ والعطاء. الاختلاف كذلك شرط آخر. وهل يقوم أخذ وعطاء إلا بين كائنات مختلفة؟ ما الحال لو أن الخالق صنع كل شىء ككل شىء، فجعل كل رجل ككل رجل، وكل جرم ككل جرم؟ طبع واحد، ومنظر واحد، وحجم واحد. أليس هذا التشابه المطلق ينفى الشخصية؟ وحيث لا شخصية فلا أخذ ولا عطاء، ولا تماسك ولا اتصال؟ وهل من صلة بيني وبين غيرى إلا لاختلاف شخصه عن شخص وما عنده عما عندى؟ وهل رابطة الأجرام الا اختلافها فى الأحجام؟ الجاذبية، الحب، هل علتهما اختلاف النسب فى القوى والأشكال؟ ان مثل هذا الكون المتماثل لا يمكن كذلك أن يشيد أو يوجد. مثله مثل قصة تمثيلية أشخاصها لهم عين الاسم والجسم والطبع والحظ، يتكلمون عين الكلام، ويتحركون عين الحركات، ويتصرفون عين التصرفات! أى علاقة يمكن أن تنشأ بين هذه المخلوقات؟ وهل يشعر أحدهم بوجود الآخر؟ وهل يدرك أحد منهم معنى كلمة (أنا)؟ لا بد من بعض الاختلاف بين الكائنات حتى يتميز كل كائن من الآخر. ومتى تميزت الأشخاص والأشياء والأجزاء نشأ بينها الأخذ والعطاء، سر التماسك فى كل بناء . . . ها هنا اذن قوام التناسق: "التشابه لا كل التشابه، الاختلاف لا كل الاختلاف!" (بيتهوفن الذى كشف لى منذ ست سنوات عن سر التأليف بين صوتين فى عين الوقت. لاحظت أنه يجمع بين صوتين متشابهين لا كل التشابه مختلفين لا كل الاختلاف. وأدركت أن لا تناسق بغير هذا. فلو أنه جعل الصوتين متشابهين كل التشابه لفنى أحدهما فى الآخر. وما يميزنا شيئا غير صوت واحد. ولو أنه جعلهما مختلفين
كل الاختلاف لاستحال على الأذن أن تصل بينهما وهما متباعدان متنافران. فأساس "التناسق" فى الموسيقى والفن كأساس التناسق فى الحياة والكون: ائتلاف بين الأجزاء لا كل الائتلاف واختلاف بينهما لا كل الاختلاف. ملاحظة أخرى داخل القوسين: كلامى عن المصرية والعربية فى رسالتى الأولى ليس الا رغبة منى فى فرز خصائص أمم هذا العالم العربى الذى أخشى انحلال آدابه . انما الحب والتضامن فى اختلاف ما عندنا عما عند اخواننا الجيران بعض الاختلاف. إن التشابه مضمون باللغة الواحدة والتراث الواحد. فليبحث كل منا عن شخصيته المميزة فى ماضيه الطويل بأكمله. المصرى فى مصر القديمة وما بعدها من عصور. والسورى فى فينيقيا وما بعدها. والعراقى فى بابل وما بعدها وما قبلها من تواريخ الخ الخ. . . كل يستخرج من بطن الأرض التى يحيا عليها كل محاسن طبيعتها وكل كنوز ماضيها أن الفن ابن الأرض. الولد للفراش والفن للأرض. أنى أقول بالمصرية والعراقية والسورية الخ الخ لا للانفصال بل للاتصال، لا للتعصب بل للحب. أن اليوم الذى تزهو فيه لكل منا شخصية قوية هو اليوم الذى يكثر فيه التعامل بيننا والارتباط. أما فناؤنا جميعا فى شخصية العرب الغابرين فأمر لا يمكن أن يكون، لأنه مخالف لطبيعة الأشياء. أن لكل أرض صفحات من التاريخ سابقة على عهد العرب. ماذا نفعل بهذه الصفات؟ أنمزقها كما يصنع البرابرة المتوحشون أم نطالعها ونستخرج منها ما يفيد الانسانية؟ لا بد أن يكون لكل أرض لون. ولكل أرض اسم ورسم وجسم. ولقد كان الأمر كذلك حتى أيام دولة العرب. فكانت الشام غير العراق غير مصر غير الأندلس. والفن والشعر والأدب أظهر دليل على وجود الفروق الجلية، وعلى صدق ذلك القانون: تشابه بين تلك الأقطار لا كل التشابه. واختلاف بينهما لا كل الاختلاف. فكيف يكون الأمر غير ذلك؟ ونغضب اذ تكون هناك مصر وهناك شام وهناك عراق؟ مثل ما كانت دولة العرب أمس. ينبغى للعالم العربى اليوم أن يكون: "وحدة شاملة وكتلة بنيان فى شئون السياسة والذود والدفاع، وشخصيات منوعة الألوان فى شئون الفن والخلق والأبداع."
جملة القول عندى أن أسلوب الله فى صنع الكون هو وحده منبع الفن، هو وحده مصدر ذلك الأدراك الانسانى للجمال منذ مبدأ الأجيال. أما نقاد القرن التاسع عشر فلا أحسبهم رفعوا أبصارهم الى هذا الأسلوب مستلهمين. انما هم قد خروا أمام تمثال العلم ساجدين، أنظارهم خاشعة ترنو فى رجاء إلى شعاعين من الكهرباء صادرين من عدسات عينيه الجامدتين. القرن التاسع عشر
قرن تأليه العلم. فلقد بهر العلم العالم بانتصارات حاسمات متواليات، فأذا الأدب والفن والفلسفة كلها تهرع اليه تقر له بالغلبة والسلطان. واذا كل شئ يطلب الى العلم تفسيرا. واذا العلم فى نشوة الظافر وبسمة الواثق لا يأبى أن يقضى فيما يعنيه وفيما لا يعنيه. واذا العلم وهو علم المادة يريد أن يتحدث فى شئون الروح. واذا سئل عن الروح قال دونكم هذا الطريق وأشار إلى عين الطرائق التى أدت الى الفوز فى شئون المادة: التحليل والتركيب والتجربة والقياس والاستنتاج والاستقراء الخ. بهت العالم لنظرية النشوء والارتقاء. وآمن الناس أن أصلنا من ماء وخلايا حية وحيوان ظل يسمو فى المرتبة على مدى الأزمان حتى بلغ القرد جد الأنسان! نظرية جميلة، خلب جمالها اللب على الرغم من بشاعة ذلك الجد الغول. أما صدقها فجائز من حيث المادة والأجسام. وهنا تبدو قضية: أتصدق هذه النظرية على الروح أيضا وشئون الروح؟ الاحساس بالجمال: أيخضع أيضا للنشوء والارتقاء؟ نعم، نعم. نعم. كذلك قالت المدرسة الانجليزية (سبنسر، جرانت ألن، رسكن). وكان لا بد لهذه العقول التى فتنتها نظرية التطور فى المادة أن تبرز للانسان نظرية التطور فى الجمال(١).
وعجب الناس لنظريات علم طبقات الأرض وعلم الحيوان وعلم الحياة وأبحاث (لامارك) فى تأثير البيئة والمناخ وظروف الحياة على طبيعة الأجسام، فقامت المدرسة الفرنسية (هيوليت تين) (٢) تخرج للفكر والأدب نظرية للجمال والفن: الوحى فيها والألهام مقاييس الحرارة وموازين الأحجام!
بل أنى لأرى أصبع العلم قبل ذلك بقرن يقود المدرسة الألمانية إلى نظريتها فى الجمال(٣) .
ولم يكف العلم هذا التوجيه والتأثير بل تناول بيديه فى هذا العهد الحديث جسم الجمال: وأعمل فيه المشرط والمسبار (علم النفس الحديث) (٤) قضى الأمر، وخرج الجمال من حدائق الفلسفة إلى معامل العلم. .!
لست أرزى على طرائق العلم. فهى وسائل البشرية التى لا تملك غيرها. وأذكر يوم كنت أرصد وقتا للتفكير فى هذه المسائل انى بسطت أمام نفسى هذا السؤال الساذج: الحيوان ما علمه بالجمال؟ حصان بين مهرتين إحدهما جميلة مليئة شهباء
والأخرى قبيحة هزيلة عرجاء، إلى أيتهما يميل؟ ما ترددت يومئذ أن أقول فى ثقة واقتناع: "الى الجميلة يميل، ما وجه الترجيح؟ لست أدرى، وحبذا التجربة فهى الحكم الفصل!". لكنى يومئذ كنت أفكر تفكيرا صرفا فى قهوة صاخبة اعتقدت أن آوى اليها للتفكير الهادئ، فأين لى بالخيول والأفراس أجرى عليها التجاريب؟ فها أنذا أقر بأن التجربة وسيلة بشرىة طبيعية للوصول إلى المعرفة. وأقر بأني شعرت يوما بالحاجة إلى ممارستها فى شئون الجمال. غير أني على الرغم من هذا لا أحب أن أعتقد ببساطة أن نظريات العلم فى شئون المادة تصدق دائما فى شئون الروح. لا شىء يستطيع أن يقنعنى بأن إحساس الجمال وليد تطور ونشوء. بي رغبة أن أصيح بغير دليل فى يدي أن إدراك الجمال ولد كاملا فى قلب الإنسان منذ رفع بصره وبصيرته إلى أسلوب الله فوعاه. إني أخشى أن نقع فى الغلط إذ نطبق نظريات المادة فى مسائل الروح، وهل يستطيع الدكتور أن يجيز قول رسكن وجرانت ألن فى الألياذة: ". . . ما كان يعنى الأقدمون بالطبيعة ولا بجمالها إلا حين يتصلان بعيش الإنسان. ففى الألياذة ما كان يوصف منظر طبيعي لذاته، بل لنفعته للانسان، كان يكون مكانا خصيبا يفيض بالحنطة أو تكثر فيه الجياد. ما كانت الطبيعة سوى إطار للحوادث والاشخاص، لا إنها لذاتها محل للوصف. ان الطبيعة لم تحب لذاتها ألا فى العصر الحديث، حيث استيقظ الأحساس بها، احساس صافى خالص لا تشوبه شائبة النفع أو المصلحة. . ." ماذا أقول فى هذا الكلام؟ أهو جهل بمشاعر الأقدمين؟ أم تورط فى تطبيق نظرية التطور والنشوء؟ أنصدق حقا أن الشعور الرفيع بجمال الطبيعة لم يعرفه القدماء خالصا لدنوهم من الحيوانية؟ أنصدق أن (هومير) لم يحس جمال الطبيعة لذاتها؟ أهذا رسكن يقول هذا الكلام؟ أما أنا فقد مضى كلامى فى الطبيعة والقدماء. ورأيي الذي أبديته فى رسالتى الأولى أن الأقدمون كانوا أقرب منا إلى الطبيعة والى فهمها. لقد كان الأقدمون يحسون إنهم جزء من الطبيعة ونغم من أنغامها. أما رسكن وألن أو الانسان الحديث فلا يحس الا ذاته الآدمية منفصلة عن الطبيعة وعن كل شئ. دليلي فن القدماء من مصريين وإغريق. أهذا فن قوم لا يحسون الطبيعة لذاتها ولا يدركون قوانينها وأساليبها؟! الى هذا الحد يصل الانقياد الى النظريات؟ من اجل هذا لا أريد التمكين للعلم حتى يجلس على عرش النقد دون شريك. أحب طرائق العلم. لكنى أخشى نتائج العلم. فلنرتفع بالروح قليلا. لست أريد أن أضع الروح تحت مبضع العلم، رهبة منى أن يشقها فيجدها غلافا أجوف. وإني لا أنسى يوم شاهدت تشريح جثة آدمى
للمرة الأولى. أى قلق يومئذ مزق إيمانى بقيمة الانسان! كلا. أنى كرجل من رجال الروح لا أريد أن أفجع فى خير ما أعيش به وله. يريح نفسي دائما أن أقول أنى عقل العلم لا يكفى. ولا بد دون إدراك الجمال والروح من العودة إلى القلب. أريد ألا يخرجنى العلم من ذلك الإيمان الذي كان يضىء فى قلوب المصريين القدماء. إيمان قربهم من الخالق، فإذا هم ببصائرهم العميقة العجيبة أول آدميين استطاعوا فهم أسلوب الله والنفوذ إلى قوانين إبداعه. إن أقصى العلم الإيمان. أحب ذلك العلم المؤمن الشاعر الذى عرفه أيضا الفلكيون العظام فى القرنين السادس عشر والسابع عشر: كوبرنيك، وجاليليه وكبلر، آخر قطرة من ذلك العلم الممزوج بالايمان كانوا ينظرون إلى الكواكب كما نظر اليها من قبل المصريون الأقدمون. لا بعين العقل، بل بعين القلب أيضا. كانت السماء والنجوم فى نظرهم مخلوقات حية. كانوا أيضا يحسون فى كتلة النجوم وفى هذا الكون بأكمله الروح الخالقة ويد المبدع الأعظم. ما أروع هذه العبارة من كبلر، فيها تلخيص جميل لكل ما يملأ نفسى: ". . . كل الخليقة ليست إلا سمفونية عجيبة فى مجال الروح والأفكار كما هي فى مجال الأجسام والأحياء. كل شىء متماسك مرتبط بعرى متبادلة لا تنفصم. كل شىء يكون كلا متناسقا. أن الله قد خلقنا على صورته، وأعطانا الإحساس بالتناسق. كل ما يوجد حي متحرك، لأن كل شىء متتابع متصل. كل كوكب وكل نجم أن هو إلا حيوان ذو نفس. أن روح النجوم هى سر حركتها، وسبب ذلك الحب الذي يربط بعضها إلى بعض وتعليل ذلك النظام الذي تسير عليه الظواهر الطبيعية. ." (١) أولئك رجال ساروا فى بيداء العقل دون أن ينسوا دليل القلب. أولئك هم العلماء العظام! أرى الدكتور قد استشف رأيى بعد هذا التمهيد. نعم ولا أخشى أن أجيب الآن عن السؤال فأقول أن التيارات الثلاثة التي ذكرها الدكتور تصدق أيضا فى النقد. كما تصدق فى الخلق. أما التيار الأوربى فى النقد فهو المرتكز على العلم. ولقد وصل إلينا هذا التيار بالفعل وتأثرنا به. وإن بعض كتب النقد التى طهرت فى مصر الحديثة تنم على هذا الاتجاه العلمى. وهو أمر لا بأس به، بل هو واجب محتوم، على شريطة أن نقرن به ونضيف إليه عناصر جديدة ووسائل أخرى مستخرجة من أرضنا وتراثنا اذا أردنا أن ننشئ لآدابنا طريقة شخصية كاملة فى النقد. فأما التيار المصرى القديم فهو النقد المعتمد على الذوق، أى سليقة المنطق والتناسق. وهو عند المصريين القدماء
سليقة المنطق الداخل للأشياء والتناسق الباطن أى القانون الذى يربط الشىء بالشىء. أى جمال للأهرام غير ذلك التناسق الهندسى الخفى وتلك القوانين المستترة التى قامت عليها تلك الكتلة من الأحجار! جمال عقلى داخلى. كذلك أسلوب الخالق لا يعنى بالجمال الظاهر وحده فى خلق الطبيعة. فأى جمال للثعبان والجعران؟ أن الجمال الظاهر نسبى لا يقدره غير الانسان. إنما المنطق الداخلى للأشياء هو كل جمالها الحقيقى. هذا المقياس المصرى القديم للجمال ما أحسبه قد أثر بعد فى حياتنا الفكرية أو فى أحكامنا الفنية. أما التيار العربى القديم فهو النقد الذى قوامه ذوق الحس. أى سليقة المنطق الظاهر والتناسق الخارجى. الجمال عند العرب هو الجمال الظاهر الذى يسر العين ويلذ الأذن. أنستطيع أن نتخيل العرب تبنى الأهرام أو تقدر فيها جمالا؟ لقد جاء العرب مصر وتحدثوا بجمال نيلها وأرضها وسمائها ولم يروا فى الأهرام إلا شيئا قد يحوى نقودا مخبوءة، أما بناؤه فشىء لا يحسب فى الفن. إنما الحسن عند العرب حسن الهيئة قبل كل شىء. المساجد كالعرائس تكاد تخطر حسنا بزخارفها، زينة للناظرين. بغير هذا فلا عمارة ولا فن. الشعر رنين لذيذ، وخيال جميل، ومعان لطيفة، وألفاظ مختارة ظريفة، بغير هذا فلا شعر ولا فن. الجمال عند العرب جمال إنسانى. والفن عندهم شىء صنعه الانسان لنفسه وللذته. الفن العربى القديم فن انسانى دنيوى. والفن المصرى القديم فن إلهى دينى. لهذا اختلفت المقاييس فى الجمال بين الفنين. أحدهما يعنى بالتناسق الذى يروق الانسان، والثانى يعنى بالتناسق الخفى بغير التفات إلى الإنسان. ولعل المقياس العربى القديم هو فى مصر المنفرد حتى اليوم بالحكم فى قضايا الشعر والأدب. ولعل أقرب مثل إلى الذاكرة ذلك الحكم الذى أصدره الدكتور على بيت للاستاذ العقاد:
هى كأس من كؤوس الخالدين لم يشبها المزج من ماء وطين
ألم يكن مقياس الدكتور فى التقدير ذلك الذوق الحسى وذلك المنطق الخارجى الذى يربط الألفاظ، فوجد اتصالا غير متسق بين الكؤوس والطين سمع له شيئا كالطنين يشوب صفاء الرنين؟ هذا المقياس العربى ذو الإبرة الدقيقة عجيب فى تسجيل كل انحراف عن منطق الألفاظ. إنما هنالك فى اعتقادي منطق آخر مستتر أمره يعنى المقياس المصري تري لو أن الدكتور رجع إليه أما كان يحكم لبيت العقاد لا عليه؟ أما كان يرى فيه تناسقا داخليا محكما هو كل ما عنى بأدائه الشاعر؟
انى يوم قلت بمزج الروح بالمادة فى آدابنا كان يحب على أيضا أن أقول بوضع المقياس المصرى فى النقد بجانب المقياس العربى .
وبعد، فاني ولا ريب قد استأثرت منك ومن وقتك بمقدار لاحق لي فيه. غير أنى لولاك ما وضعت أفكارى فى رسائل. انما أنا اكتب لك. أى ضمان أنت فى الشرق لحياة الفكر والبيان! وهل أستطيع أن أنسى ما كنت لى وما تكون؟
إنى أضع بين يديك كل إخلاص .
كوم حمادة فى ١٤ سبتمبر سنة ١٩3٣

