الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 93الرجوع إلى "الرسالة"

من الفلسفة الإسلامية، عينية أبن سينا ، أو، قصة الروح

Share

ادْنُ مني يا صديقي  واستمع إلى هذه القصة  الرائعة  التي يرويها  ابن سينا عن الروح.  وما أدراك ما الروح؟  هذا السر العجيب الذي  سري واستكن بين  أحنائك فلا تكاد تدري  من أمره شيئاً! وهل  يداخلك شيء من الريب  في أنك مزيج من مادة وروح؟ فأما المادة فهي هذا اللحم والعظم،  وأما الروح فهي تلك الفكر الرائع والخيال البارع وتلك الحركة  المتوثبة الدافعة، حتى إذا جاءك يوماً قضاؤك المحتوم، انطلق كل من

العنصرين إلى سبيله! فأنى لك هذا السر المكنون، وأيان يذهب  بعد الموت؟ ذلك ما يرويه ابن سينا في قصيدته وما أنا محدثك به الآن  - قال ابن سينا: هَبَطَت إليك من المحلِّ الأرفع ... ورقاءُ ذاتُ تَعَزَّزٍ وتمَنُّع

فقد كانت تعيش الروح أول أمرها مطلقة مجردة في الرقيق  الأعلى، ثم كتب عليها أن تهبط إلى هذا الدرك الوضيع؛  ولقد آثر فيلسوفنا الشاعر لفظ الهبوط على السقوط لأنها في  رأيه لم تسقط إلى هذا الحضيض من علٍ كما يسقط الحجر الجماد  سقوطاً لا شعور فيه، أو كمن ينتكس من أوج الجبل إلى سفحه  انتكاساً يقربه من الجماد المرغم على السير في طريق بعينها لا يملك  لنفسه شيئاً، إنما هبطت إليك الروح؛ وفي لفظ الهبوط معنى  الشعور والإدراك، من محلها الأرفع، حيث تسبح العقول  المجردة روحانية خالصةً لا تشوبها شائبة من مادة. . . ولكني  عهدتك يا صديقي عنيداً ملحاحاً لا ترضى بالقول يرسل إرسالاً،  بل تقتضي محدثك الأمثلة يضربها توضيحاً لما يريد. وكأني بك  تسائلني أو تسائل الشاعر: وكيف كان ذلك الهبوط؟ فهو  يجيب: إن شئت للروح في هبوطها مثلاً مما تعلم من ألوان  الحركة، فهي أشبه بالطير سابحةً في أجواز الفضاء، محومةً  صاعدة هابطة، وماذا ترى بين الأشياء التي تتحرك بالإرادة  أشد شبهاً بالروح من الطير في خفته ولطف جوهره، وفي  هبوطه وصعوده؟ لعمري لقد وفق فيلسوفنا، بل لقد وفق  أصحاب الفن منذ أقد العصور في تصويرهم للملائكة أو ما يتصل  بالملائكة من كائنات روحانية بالجسوم المجنحة إدراكاً منهم  بهذه الرابطة القوية الصادقة بين خفة الأرواح ولطفها، وبين  رشاقة الطير ورقته. ولكن فيلسوفنا الشاعر لا يرضيه تشبيه  الروح في هبوطها بالطير على عمومه، بل أجال بصره في عالم  الطير لعله يجد بينها نوعاً خاصاً يكون أقربها صلة بالروح، فما  أسرع أن ساقه صدق شعوره وكمال إحساسه إلى الحمائم، وهل  تستطيع أن تدلني على طير هو أشد من الورق استئناساً ووداعة،  وأطول من الورق حنيناً وأصدق بكاء؟! وإذن فما أشبه الروح  بالورقاء، فهي قد نشأت في عالم قدسيٍ رفيع، مجردة عن ملازمة  المادة ومواصلتها، فلما كان لها أن تهبط إلى الجسد المادي، طال ترددها  واشتد تعززها وتمنعها، وكانت فيما أحست من ألم كمن ينتحب

بالبكاء، حنيناً إلى عالمها ذاك، ونفوراً وازوراراً من الأخلاط  الجثمانية التي كتب لها أن تهبط إليها فتعيش بينها فترة من زمان  محجوبةٌ عن كل مقلة ناظرٍ وهي التي سفرت ولم تتبرقع.

ألا ما أعجب الروح! إنها تلازمك أينما حللت، لا تفارقك  إلا يوم تكون أنت لست اياك، فهي قريبة منك، بل هي أنت؛  تسري في دمائك، وتدب في كل عضو من أعضائك، ثم هي مع  ذلك تمتنع عن النظر وتستعصي على الادراك! فاذا ما حاولت  رؤيتها تحجب وأسدلت حول نفسها قناعاً صفيقاً لا ينفذ منه  شعاع من بصر، لماذا؟ لأنها تذكر ماضيها الجليل، يوم كانت  في العالم الأقدس الرفيع، فتأخذها العزة والكبرياء، وتتعالى  عن إدراك العيون! وكيف تردها على الظهور أمام مقلتيك وهما  لم تخلقا إلا لرؤية الأجساد المادية وحدها؟ فأما هذه الماهية  المجردة فهيهات أن تدركها بالنظر؛ وكل محاولة منك في هذه  السبيل صائرة حتماً إلى فشل وإفلاس، ولكن لا تيأس يا صاحبي،  فثم سبيل لإدراكها غير هذه المقل، وغير هذه الحواس جميعاً،  انظر إليها بعين العقل تجدها واضحة سافرة كاشفة عن وجهها  لا تسدل من دونه البراقع والستور، فهي إن كانت تأبى أن تبدو  للحواس فذلك لأنها تعلو بنفسها عن هذا الدرك الخسيس، وهي  إنما تتضح وتجلو لكل عاقل من الناس، يبحث عنها بعقله في  آثارها ودلائلها. إذن فالروح مع كمال خفائها وشدة غموضها  عن العين، يمكن إدراكها بالعقل لمن يريد معرفتها بالدليل والبرهان.

وَصَلَتْ على كرهٍ إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات توجع

لقد علمت أن الروح قد اتصلت بهذا الهيكل الجثماني متأبية  مقهورة مكرهة، ولكنها من عجيب أمرها عادت فكرهت أن  تفارق هذا الجسد الذي أرغمت على الحلول فيه أول الأمر إرغاماً، أما كونها جاءت مكرهة فلأنها حين هبطت إليك  كانت تعلم أنها إنما تتصل بكتلة من المادة. ليس بينها وبينها تآلف  وتجانس، إذ ليست هي في تجردها وروحانيتها شبيه بالجسد في  ماديته، وهل تستطيع أن تظفر بأنس من رفيقك إذا لم يكن  بينك وبينه تجانس في الصفات؟ فإن أرغمت على هذه المرافقة  إرغاماً على ما بينكما من تنافر وتناكر، فأنت لاشك غاضب كاره؛  وأما كونها تعود فتكره فراق الجسد فذلك لأنها قد تمكنت منه  وسرت في أنحائه سرياناً شديداً، فتشبثت به تشبثاً قوياً

متيناً ليس انحلاله أو زواله هنة هينة، وأنت تستطيع أن تلتمس  ذلك في نفسك إذا هممت بالانتحار، فلن تجد من نفسك إقبالاً  على الموت ورضى به واطمئنانا اليه، ومعنى ذلك أن روحك قد  استطابت مقامها الجديد بعد نفور، ولكن حذار أن يذهب  بك الظن إلى أنها قد ارتبطت بالجسد ارتباطا بلغ من القوة والمتانة  حد الاندماج، بحيث إذا زال الجسد زالت الروح تبعاً له،  كلا، إنما ترتبط الروح بالجسد ارتباطاً يقع بين القوة الشديدة  والضعف الشديد، فلا هو إلى القوة التي تدمجها فيه ادماجاً، ولا  هو الضعف الذي ييسر لها سبيل الفرار. ولكني لم أحدثك  بعد عن علة كرهها لفراق الجسد، وقد جاءته مكرهة أول الأمر.  أما ذلك فلأنها رأت أنها تستطيع أن تتخذ من هذا الجسد أداة  للخير والفضيلة، لقد كانت في حياتها المطلقة الأولى خالية من  الصفات الإيجابية جميعاً، وها هي ذي قد رأت في الحواس  سبيلاً قومية تحصل بها من الأخلاق والعلم حظا موفوراً، وإذن  فاتصالها بالجسد قد جعلها عارفةً بعد سذاجة وجهل، متحركةً بعد  خمول وسكون، فهل تدهش بعد هذا إذا رأيت الروح جازعة  فازعة حين يدنو منها الأجل المحتوم الذي يفصل بينها وبين زميلها  انفصالاً ليس بعده من لقاء؟ وهل تعجب إذا رأيتها حين اتصالها  بالجسد تدافع جهدها عنه لتدفع ما يتهدده من علة أو مرض،  وتحرص وسعها أن يكون موفور الحظ من السلامة والعافية؟

أنِفَتْ وما أَنِسَتْ فلما واصلت ... ألِفَتْ مجاورةَ الخراب البلقع

إذن لقد هبطت الروح إلى هذا الهيكل معرضةً عنه  مزدريةً له صلفاً منها وتيهاً، وحق لها ذلك، فهي خالدة لا تخضع  للفناء، وهو وضيع يتعاوره الكون والفساد، لهذا أنفت منه  ولم تأنس له بل استكبرت عليه وأبت أن تنزل بنفسها إلى  حضيضه الأسفل، وظل النفور بينهما حيناً من الدهر لم يطل،  حتى عرفت أنه أداة قويمة صالحة لتحصيل الفضيلة والخير،  عندئذ أنست به ورضيت بالإقامة معه في إخاء وائتلاف، وما  هي ألا أن وضح أمامها الطريق وقام الدليل قاطعاً على أنها ستحقق  بالجسد مرادها من الكمال، فقومت العلاقة واشتدت الملازمة  على الرغم من علمها أن هذا الذي ترافقه وتزامله لن يلبث حتى  ينقلب خراباً بلقعاً لا غناء فيه، إذ هو صائر إلى الفناء بعد حين  

يقصر أو يطول. ولعلك تلاحظ أن فيلسوفنا قد عبر هنا عن  العلاقة بينهما بلفظ المجاورة قاصداً متعمداً، لأنه أراد أن تعلم  أنها ليست من الجسد بمثابة الأبصار من العين مثلاً، يكادان  يكونان شيئاً واحداً، ولكنهما منه كالملاح من سفينته يديرها  ويدبر أمرها. ثم هو بعد يستطيع أن يستقل بوجوده بعيداً  عنها، فهي علاقة تجاور لا علاقة دمج وإدغام.

وأظنها نسيت عهوداً بالحِمى ... ومنازلاً بفراقها لم تقنع

نعم: لقد اطمأنت إلى الجسد بعد صدٍ ونفور، وأنست به  بعد وحشة، وبلغ بها الاطمئنان والأنس حداً نسيت معه تلك  العهود والمواثيق التي أخذت عليها أيام كانت في عالمها الرفيع  السامي، وركنت إلى غير جنسها ركوناً لا تحب معه الفراق،  وقد بلغ منها ذلك النسيان لمنازلها الأولى حد الغلو والإسراف،  فهي لم تقنع بمجرد فراقها لعالمها الأول، بل زادت عليه عشقها  للعالم الجديد، وهنا كأنما تحس من فيلسوفنا إشفاقاً على الروح  أن تكون قد رضيت بالأدنى عن الأعلى لتغيرٍ في صفاتها وتحولٍ  في إدراكها وفسادٍ في طبيعتها

حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذات الأجرع

علقت بها ثاءُ الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخُضَّع

يا ويح النفس! والله لكم أخشى أن تكون الروح قد  مازجت المادة حتى فسدت عنصراً، فهي لم تكد تهبط من أبعد  الذرى لتمس عالم المادة حتى علقت به وهو بعد لا يأتلف إلا من  الخسيس الكثيف الذي يندر أن يكون سبيلاً إلى الكمال    (ذات الأجرع هي المادة الأرضية الكثيفة أي البدن) ، نعم،  لم تكد تهبط الروح، وتدب في مادة الجسد حتى علقت بها هذه  المادة الجثمانية وأحلتها بين أجزائها وطي ثناياها، بين معالم الجسد  وأطلاله الخربة المتداعية. بين عظامه وغضاريفه ولحمه وشحمه،  التي تخضع للفناء وتؤول للبطلان وتنقلب إلى الدثور. ولكن  لعلها قد دبت بين أجزاء الجسد الفانية لا لتجري مجراها.  ولكن لتستخدمها في تحصيل المعارف والفضائل.

تبكي إذا ذكرت عهوداً بالحمى ... بمدامع تهمي ولم تتقطع

لقد حم القضاء ووقعت الواقعة، فقد حان للروح حين  فراقها وجاء أجلها، وها هي ذي قد فصلت عن رفيقتها وخلفته  وراءها رماداً وتراباً، فهي إذا ما ألقت بنظرها إلى هذه الأوصال

المفككة، والى هذا البيت المعمور، وقد دب فيه الخراب  والدمار، عظم عليها الوجد وجل في عينها الخطب، وقد  تتزاحم أمامها ذكريات الماضي أيام كانت تنعم بزمالة هذا البدن  المحطوم في شتى ألوان النعيم، فتتفجع وتتوجع وتحزن وتأسى،  فان كانت روحاً خيرة فاضلةً كانت فجيعتها أن افتقدت أداة  الخير والفضيلة إذا افتقدت الجسد، وإن كانت روحاً شريرة  خبيثة مستهترة كانت حسرتها أن سلبت وسيلة اللذة والمتاع -  ألا وهي الجسد كذلك.

وتظل ساجعة على الدِّمن التي ... درست بتكرار الرياح الأربع

ولا تحسبن الروح بعد فراقها للجسد قد غفلت عنه وأنسيته  بل أنها تتردد إليه الحين بعد الحين، فتقف بازائه باكية نادبة،  وقد أبت قريحة الشاعر الفيلسوف إلا أن تصور الروح، وقد  جاءت تنشد أطلال الجسد فتجد منه بقية باقية يهيج منظرها  ما كان كامناً فيها من شجون، وإنما تعظم الحسرة إذا بقيت من  منازل الأحباب آثارها لما تثيره في النفس من ألم وحنين، أما  تلك الرياح الأربع التي ما فتئت تهب على مادة الجسد حتى درستها  درساً، فيغلب أن تكون الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة  التي لا تنفك، تعتور الصخور الصلدة حتى تفتتها هشيماً تذروه  الرياح هنا وهناك، فتنطمس المعالم الأولى انطماسا تشوه بعده  وتتنكر ، ولست بحاجة الى ان الاحظ لك يا صديقي أن في  هذا البيت تصريحاً من الفيلسوف بخلود الروح بعد الموت، فهي  باقية خالدة تروح وتغدو، ويستحيل عليها التحلل والفناء.

إذ عاقها الشّرَكُ وصَدَّها ... قفصٌ عن الأوج الفسيح المِرْبَع

ولكن ليت شعري فيم بقاء الروح بين هذه الأطلال  الدارسة باكيةً نادبةً، وماذا يعوقها أن تعلو وتصعد إلى حيث  العقول المجردة في الملأ الرفيع؟ أليس في ذلك فكاك لها من  شوائب المادة ونقائصها، وتحرير من قيود الحس وأصفاده  الثقيلة الباهضة إلى حيث تسبح في تلك الأرجاء الفسيحة تتسرح  فيها تسريحاً مطلقاً لا يصدها ضيق ولا تزاحم؟ لعمري إنها الدنيا  التي تجتذبها كما يجتذب الشرك سوابح الطير الطليق بما يلقى فيه  من حب، فهذه اللذة والشهوة والمتاع كفيلة أن تغري النفس  إغراءً يكون لها غلاً ووثاقاً، وليس شرك الدنيا الذي تطوقُ

به النفوس تطويقاً من ذلك الضرب الهين الخفيف الذي تحطم  قضبانه وسلاسله في سهولة ويسر ولكنه شركٌ عاتٍ قوي  كثيفٌ يحوك حول السجين آلافاً من الحبائل والحوائل التي  يتعذر منها الخلاص إن لم يستحل وإذن فهذا الجسد للروح  بمثابة القفص للطير القنيص، لا تستطيع أن تغادره أو تجاوز  حدوده إلا إذا أراد لها ذلك واضعها، ولكنه قفص على ما ضربه  حولها من سياج منيعُ مشبكُ القضبان فيه من نوافذ ما يسمح  للسجينة أن ترسل خلالها الفكر والبصر إلى أرجاء الكون،  وما تلك المنافذ التي تتسلل منها الروح إلى أنحاء الوجود إلا  الحواس من بصر وسمع وما إليهما، وإلا العقل تتقصى به أطراف  الأرض والسماء.

حتى إذا قَرُبَ المسيرُ إلى الحِميَ ... ودنا الرحيلُ إلى الفضاء الأوسع

وغَدت مُفارقةً لكلِّ مُخلَّفٍ ... عنها حليفَ التُّرْبِ غيرُ مشيَّع

هكذا ارتبطت الروح بالجسد ارتباطاً مكيناً. حتى إذا دنت  ساعة الرحيل وحان أجل الفراق لهذا البدن إلى حيث تنطلق في  الفضاء الرحب الفسيح، وأخذت تقطع ما بينه وبينها من صلات  وعلائق وأسباب، وهو تلك الكتلة المادية المخلفة المعطلة  المطروحة بعد المفارقة تحت أطباق الثرى دون أن يلتفت إليه  أو يعني بشأنه احتقاراً له وازدراء، بعد أن خلفته الروح وخلعته،  نقول إذا دنت ساعة الرحيل وفارقت الروح جسدها. . .

هَجعتْ وقد كُشف الغطاءُ فأبصرتْ ... ما ليس يُدركُ بالعيون الهُجَّع

عندئذ يزول عنها حجاب البدن فينكشف الغطاء فتدرك  ما كان يستحيل عليها إدراكه أيام اتصالها به، ذلك لأن الأرواح  المتلبسة بالأجساد إنما تكون رقوداً هجعاً أو كالرقود الهجع  لأنها إذ تكون عالقة بالأبدان تكون محجوبة عن الإدراك الذي  تحصله النفوس المجردة كما يحتجب النائم عن إدراك ما يدركه  اليقظان، إذن فالروح عندما تلقي الجسد وتطرحه تكون كأنما  تكشف عن بصيرتها غطاء طالما حال بينها وبين مطالعة الرفيق  الأعلى بما يغمسها فيه من عرضٍ مادي زائل باطل مصيره إلى الفناء،  أما إذا فارقت البدن فقد خلصت من أغلالها وانحسر عن بصرها  الغشاء فأبصرت أسرار الحق صافية خالصة وانكشف لها الغيب  وأيقنت أنها كانت أثناء حياتها مع الجسد غافلةً راقدةً وقد  

تنبهت الآن واستيقظت.

وغدت تغرِّد فوق ذِروة شاهق ... والعلمُ يرفع كل من لم يُرفع

فإذا كانت قد نفضت عن نفسها ما كان لحقها من غفلة ورقاد،  إذن فقد تجردت من قيود المادة وأصفادها وغدت عنصراً عقلياً  صرفاً لا تشوبه شائبة من كدورة أو نقص، مبرأةً عن حاجات  البدن التي تجذبها إلى أسفل، واتصلت بالعالم الروحاني المجرد،  فأحست بالنشوة والسعادة وغردت سروراً لما ظفرت به بذلك  الاتصال؛ ولعلك هنا تحتج على الفيلسوف وتعترض حديثه، فما  لهذه الأرواح قد صعدت إلى العالم الأقدس ولم تلبث حول  أجسادها محومة باكية راثية إلفها الحبيب، فهو يجيبك إنما  ترتفع إلى هذه الذروة الشاهقة السامية، تلكم الأرواح التي كسبت  من العلم صدراً محموداً وحظاً موفوراً، وإن العلم لجد كفيل أن  يرفع إلى حالق ما من شأنه أن يكون في الحضيض الأخس فضلاً  عما يكون له بطبيعته اتصالٌ وقربى بالعالم الأشرف الرفيع.

فلأي شيء أُهبطت من شامخ ... عالٍ إلى قصر الحضيض الأوضع

ولكن قف!! أأنت محدثي يا صاح فيم هذا العناء كله إن كان  مصير الروح في نهاية أمرها أن تعود إلى حيث بدأت السير؟  فلقد زعمت لي أنها هبطت من علٍ فحلت بالبدن حيناً من الدهر  ثم أخذت سبيلها آخر الشوط إلى مستقرها الذي صدرت عنه  وفاضت منه! ما هي الحكمة الباعثة للنفس أن تهبط من ذراها  هاوية إلى الدرك الأسفل؟

إن كان أهبطها الآله لحكمة ... طويت عن الفذ اللبيب الأروع

فهبوطها لاشك ضربة لازب ... لتكون سامعة لما لم تسمع

هكذا تساءل صاحبي في دهشة وعجب، قال: إن كان الله  جل وعلا قد أهبطها لحكمة خفيت عن بصائرنا، واستعصت  على إدراكنا، بل طويت عمن بلغ منا من الحكمة أروعها وأبعدها  غوراً، فلا ريب في أن الله تعالى انما ضرب الهبوط على النفس  ضربا وألزمها به الزاما لعملها في هذا العالم الأرضي توفق إلى  اكتساب المعرفة، واستيفاء أسباب الكمال، إذ كانت في أول  أمرها جاهلة ساذجة غافلة، فأهبطها لتسمع ما لم تكن قد سمعت  به من العلوم والأخلاق؛ وسبيلها إلى ذلك هي الحواس والعقل.

وتعود عالمة بكل خفيَّة ... في العالَميْن فخُرقُها لم يُرقَع

فاللهم إن كانت هذه رسالتها التي هبطت من أجلها، أعني أن

تعود بعد زيارتها إلى الدنيا عالمة بالأسرار الخفية في العالمين - عالم  الغيب والشهادة - فلا سبيل إلى تحقيق ما جاءت من أجله؛  لأنها مهما حصلت من فروع العلم وجوانب الأخلاق؛ ومهما  أسرفت في التحصيل فهي قاصرة مقصرة، وكيف سبيلها إلى  ذلك والعلوم لا تنتهي عند حد، وحتى إن أمكن تحصيلها فلا تكفي  لها مدة الحياة على قصرها؛ ولكن ليكن هذا فليس الفشل فيما  نظن مما ينتقص من نبل الغاية المقصودة ويحط من شرف الوسائل  المؤدية إلى تلك الغاية.

قال صاحب: لقد زعمت أو زعم فيلسوفك ابن سينا أن  الروح إنما هبطت فسرت في البدن ففارقته وعادت أدراجها،  والله لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، إذا كان ذلك لم يكن لهواً ولا  عبثاً؛ فلأي شيء هبطت من الاعلى الى الادنى،واعتاضت  الباقى بالفانى؟قلت انها هبطت فتعلقت بالجثمان لتتخذه وسيلة  إلى الكمال على شرط أن تكون من أصحاب الفضيلة والخير. قال: وإن كانت الروح من الملأ الأعلى فكيف تكون ناقصة وقد  حدثتني في صدر الحديث أن ذلك الملأ مجردٌ مطلقٌ كاملٌ كمالاً  محضاً، وأنه خير خالص، كما حدثتني إلى جانب ذلك أن عالمنا  هذا شر - أو على أكثر تقدير مزيج بين الخير والشر فما قولك  الآن إن الروح قد هبطت من ملأها الأعلى إلى هذه الأرض  تنشد عن طريق الكمال؟! وهل يكون الشر وسيلة إلى الخير  والكمال؟ لعمري لو كانت العناصر المجردة لا يتم كمالها إلا إذا  اتصلت بالمادة فما أوجب أن يهبط عالم الأرواح كله ليمتزج بالأرض  ومادتها؟ قلت: جوابك يا صاحبي في هذا البيت الآتي:

وهي التي قطَعَ الزمانُ طريقَها ... حتى لقد غَرُبَتْ بغير المطلع

فقد كان مراد النفس وأملها أن تبلغ حد الكمال بما  يرتسم في صفحتها من الصور العقلية، لكن الزمان لم يمهلها  وا أسفاه! فقطع عليها السبيل وصدها عما كانت تسير نحوه،  وذلك بإهلاكه للبدن وهو أداتها في تحقيق رغبتها، ولكنها  إلا تكن قد ظفرت بكل شيء، فهي لم تفقد كل شيء، لأنها لم  تغرب - حين غربت - ساذجةً جاهلة كما أشرقت أول الأمر  بل عرفت الكمال وعرفت النعيم الذي يكون لها لو بلغت هذا  الكمال، وكفاها بهذه المعرفة حافزاً قد يدفعها إلى متابعة السير  يوماً آخر.

فكأنه برق تألق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع

أنعم برد جواب ما أنا فاحص ... عنه فنار العلم ذات تشعشع

ولكن فيلسوفنا الشاعر يعود فيوافقك يا صديقي إلى حد  كبير، إن النفس عند فراقها للبدن تكون في الحقيقة كأنها لم  تفد شيئاً وكأنها لم تصحب البدن قط، وما أسرع ما انقضى  زمن إقامتها فيه، فقد اختفت سريعاً كالبرق الخاطف، وعادت  كأن لم تكن بالأمس شيئاً مذكوراً. وإنه ليختم حديثه معك  بحفزك وإثارة الطلعة في نفسك لعلك تمعن في التفكير  والنظر لترى جواباً لهذا السؤال المربك: فيم هبوط الروح  للوصول إلى كمالها، ثم فصلها قبل أن تصل؟ قال محدثي: اني  لأرى شبها قويا بين هذه القصة التي قصصها علي عن ابن سينا  وبين ما رويته لي بالأمس عن فلسفة أفلاطون من أن النفس  كانت تسبح في عالم المثل صافية سعيدة مفكرة، ثم حلت  بالجسم وتعلقت به، فإذا وافت الإنسان منيته عادت من حيث  أتت، قلت نعم ولعل لي معك في هذا حديثا آخر.

اشترك في نشرتنا البريدية