الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 704الرجوع إلى "الثقافة"

من زعماء الفكر :, هل من جديد عن ميل ؟

Share

- ٢ -

أشرنا في المقال السابق تحت هذا العنوان إلى ناحية أهملها نقاد الكاتب الإنجليزي الكبير س. س ميل ، وهى الناحية الأدبية . ونود هنا أن نلقي ضوءا على بعض آرائه في مسائل مختلفة اعتاد الباحثون نسبتها إلى المصلحين الذين جاءوا بعد ) ميل ( ، ثم ختم المقال بذكر ارائه التي يمكننا الاستفادة منها في عصرنا هذا ، في مصر .

أما عن النقطة الأولى فإن النقاد يجمعون على أن ميل آخر فيلسوف في المدرسة النفعية ، ولا يفطنون إلى فضله في أنه كان أول من عمل على القضاء على هذا المذهب . ولكن عثرت على إحدى المحاضرات التى ألقاها ذلك المفكر في " جمعية المناظرات بلندن في سنة ١٨٢٨ يعلن فيها انشقاقه على زعماء المذهب النفعى ؛ وقد أوضح ميل أوجه الخلاف بينه وبينهم في كتابه عن المذهب النفعى . وهناك محاضرة أخرى ألقاها في نفس السنة توجه نظر الحكومة إلى وجوب العمل على إصلاح حال الشعب عقليا وخلقيا بالرغم من أن الرأي العام كان مخالفا كل المخالفة لفكرة تدخل الحكومة في تربية الشعب ، والرأي السائد بين النقاد يرعي إلي أن ت . ه . جرين ، الذي لم تنشر مؤلفا قبل عام ١٨٧٩ . هو الذي حمل الحكومة هذه المسئولية

فالحقيقة هي أن ميل كان أول من لفت النظر إلى أن الحرية ليست مجرد التنصل من المسئولية ، وترك الفرد يتصرف كيفما يشاء . فالحرية عنده لا تتنافى مطلقا مع المحافظة على النظام والتدريب على الطاعة ، بل الحرية عنده هي أن تهيء لكل فرد فرصة التقدم والرقي إلى الدرجة التي تمكنه من أن يسعد نفسه ويسعد المجتمع الذي انتمى إليه ، وهو يرى هذه الرغبة في الإسداد إنما تكون بدافع من الفرد نفسه أو بشعوره بالمسئولية نحو غيره من الأفراد ونحو نظام

الحكم الذي يخضع له . وقد جرى الناس كما قلنا من قبل على نسبة هذا الرأي إلى جرين وبرادلي وبوزانكيه ، ولكن هؤلاء جميعا مدينون به لميل .

وكان للعلامة ميل فضل آخر في ميدان الاقتصاد ، فإن الفكرة الحديثة عن الدين الوطني وأنه لا ضرر منه بوصفه دينا على الدولة ، إنما هى من ابتكاره وابتداعه . فهو يرى أن الضرر من الدين يرجع إلى اختلال التوازن بين مقدار الدين والدخل الوطني .

وقد فصل هذا الرأي في الباب الخاص بهذا الموضوع في كتابه عن الاقتصاد السياسي . كما أنه في سنة ١٨٤٨ لفت النظر إلى الدور الذي يلعبه الدين الوطني في تقليل الأثر السيئ الذي ينشأ عن الفروق المادية الكبيرة بين طبقات الشعب ، فقد نادى بالمبدأ الذي ساد في القرن العشرين ، وهو أن الدين طريقة ادخار للطبقات العاملة الأقل رخاء ، يجنون من ورائه نسبة معينة من الدخل .

وقد اهتم ميل اهتماما كبيرا بالطبقات العاملة وبحالة النساء والقوانين المجحفة الخاصة بهن والتقاليد التي جرمتهن من التمتع بحقوقهن الاجتماعية والسياسية ، وهذان الموضوعان من أهم ما يشغلنا نحن في الوقت الحاضر . فأما حقوق المرأة السياسية فأنصارها وخصومها كثيرون . فيهم رجال وسيدات ، وفيهم من رجال الدين والسياسة والقلم . ولكنها حقوق سوف تحصل عليها المرأة المصرية عاجلا أو آجلا .

وأما الطبقات العاملة فيمكن تقسيم آراء ميل في شأنها إلى ثلاثة أقسام : ١ - النساء في المصانع . ب - العمال في المزارع . ح - الطبقات العاملة على العموم .

اعتقد ميل اعتقادا راسخا بأن المرأة لا تقل كفاية عن

الرجل في ميدان الصناعة ، وهو يرى أن الأفضل لها العمل بنفسها وعدم الاعتماد على عائل من الجنس الآخر . على أن يكون أجرها مساويا لأجر الرجل كلما اتفق نوع العمل الذي يؤديانه .

وقد عضد ميل فكرة توزيع قطع صغيرة من الأراضي الزراعية على عمال المزارع أو على من يتمكن منهم من إصلاحها واستغلالها ، حتى يشعر كل منهم بالطمأنينة في عمله وفي حياته ، فيعمل على زيادة الإنتاج وجني ثمرة عمله في الوقت نفسه .

أما من جهة طبقة العمال على العموم فقد كان ميل يجاهد في سبيل رفع مستواهم عقليا وخلفيا ، وتشجيع بعضهم على الهجرة إلي أراض يمكن استثمارها ، وكان ميل أول من لغت النظر إلى النتائج السيئة الاجتماعية والصحية والعقلية الناشئة عن الحركة المستمرة على وتيرة واحدة في المصانع . نتيجة لتوزيع العمل وقيام كل عامل بجزء يسير من عملية الإنتاج العامة . وقد رأى أنه من الضروري أن تتدخل الحكومة في تنظيم ساعات العمل ، وألا تحرم العمال من وقت الفراغ الذي يمكنهم من التمتع بالراحة أو تغيير نوع العمل ، وكذلك كان من رأيه إلا يحال بينهم وبين الاجتماع أو الانضمام إلى نقابة أو اتحاد ينظر إلى شئونهم بعين الرعاية . أما من جهة الأجور فقد كان من رأي ميل أن يعطى كل عامل جزاءه العادل من ثمرة عمله . وقدم ميل نظريته الشهيرة عن " الاعتماد الخاص بالأجور " وهى تتضمن أن الأجور لا يصح أن تكون ثابتة مهما كانت حالة التجارة أو مستوى الأسعار ، بل ينبغي أن تكون عرضة للتقلب باستمرار نتيجة للتغيير الذي يطرأ على عدد العمال بالنسبة إلى المبلغ المعتمد للتوزيع عليهم . ولم ير ميل سوي وسيلتين يمكن اتخاذ إحداهما لتحسين مستوى الأجور : الأولى هى زيادة " الاعتماد الخاص بالأجور " والثانية هى الإقلال من عدد من يوزع عليهم الاعتماد . فأما الوسيلة الأولى فمن رأيه أن الأجور إذا ارتفعت فسوف يؤدي ذلك حقا إلى زيادة في

العمل ، ثم إلى زيادة عدد العمال ، فلا تلبث الأجور أن تهبط إلى ما كانت عليه . وأما الوسيلة الثانية فهى تدخل الحكومة في تحديد عدد أفراد الطبقة التي يستمد العمال منها ، وذلك مثلا يتعيين سن متأخرة للزواج ، أو عدم السماح بتكوين أسرة إلا لمن تتوافر لهم القدرة على الإنفاق عليها . ذلك أنه إذا قل عدد أفراد الأسرة ارتفع مستواهم الاقتصادي والاجتماعي ، وتمكنوا من الاستفادة بأجورهم في تحسين حالتهم المادية والحصول على ما هو بعيد عن متناول أيدي الأسرات الكثيرة العدد ، كما أن تحديد النسل يمكنهم من تربية أبنائهم تربية صحيحة ، فنوع الأبناء أكثر أهمية من عددهم .

ولما كان المستوى المادى والاجتماعي يتناسب تناسبا عكسيا مع عدد أفراد الأسرة ، كان أنجح علاج لرفع هذا المستوى بين الطبقات العاملة هو ألا تشجعهم القوانين على الزواج المبكر والإكثار من النسل ، ثم تربيتهم تربية يمكنهم من تفهم الغرض الذي سوف يتحقق من العمل بمثل تلك القوانين ؟

اشترك في نشرتنا البريدية