) لولا ذكراها الطيبة عندي ، ما كتبت هذه القصة (
في اليوم الواحد والأربعين بعد وفاة زوجته ، وقف غبور افندي أمام للمرأة التي كانت تجلس أمامها امرأته في مخدعهما ، ونظر إلى بذلته البنية الأنيقة وإلى المنديل الحريري الذي يطل من جيب جاكتته . وإلى شاربه المشذب القصير تحت أنفه المستقيم . وقال لنفسه معجبا : " ) في ما زلت شابا " وابتسم وكاد ابتسامته تتحول إلى ضحكه ، ولكنه لمح خصلة من شعره الطويل المصقول خارجة عن مكانها الذي وضعها فيه ، فاقتضب ابتسامته أو ضحكته وتناول المشط والفرشاة ليسوى ما اختل من نظام شعره ؛ حينئذ جمع والدته لقول له من خارج الغرفة : - هل أخذت الورقة بإغبور ؟ واقترب غبور بوجهه الأسمر من المرأة وباعد بين شفته بينها كان يمشط شعره ليلقي نظرة أخيرة على أسنانه التي تراكمت عليها طبقة سوداء سميكة نتيجة إدمانه التدخين .
- أي ورقة يا أمي ؟ واعتدل بقامته وأعاد المشط والفرشاة إلى مكانهما وتهيا ليتناول طربوشه من على الشجب جوار التسريحة الورقة التي كتبت فيها أثمان الأدوية التي صرفتها على المرحومة وزيارات الدكاترة
وكان قد وضع طربوشه على رأسه ونظر إلى نفسه في المراة .
- ولماذا اذهب إذا لم آخذ هذه القسيمة معي ؟ ! ووضع يده في جيب جاكتته الداخلى وأخرجها بورقة مطوية ، ودخلت في هذه اللحظة أمه : امرأة قصيرة بدينة بيضاء الشعر ، بسيطة تعابير الوجه . ترتدي السواد . نظرت إلى ابنها بعين غارتا في محجريهما وقالت مبتسمة : - كم المجموع يابني ؟ كلما حاولت تذكره انساء ، ومط غبور افندي شفته السفلى إلى أعلى ليتحسس بها
شار به القصير معجبا وقال وهو بعيد الورقة المطوية إلى جيب جاكتته الداخلى حيث كانت - واحد وثمانون جنيها وستون قرشا .
ونظر إلى نفسه في المرأة للمرة الأخيرة وضبط عقدة رقبته الحريرية وأمال طربوشه قليلا على رأسه ؛ ولما اطمأن إلى وجاهته وأناقته استدار إلي أمه التى كانت تنظر إليه بدورها نظرة إعجاب . .
- أتري سترضي بي العروس الجديدة ؟ - المهم الآن هو أن تعود بالفلوس .
وقهقه غبور افندي .
- اعتبري الفلوس في جيبي .
وانطلق إلى حميه : أبي زوجته المتوفاة ، زوج خالته ،
كان غبور افندي كاتبا صغيرا بشركة " . . " عندما طلب يد ابتسام من زوج خالته لأول مرة فرد ردا قاطعا دون ذكر الأسباب ، وإن كان هو نفسه يعرف هذه الأسباب ! فلم يكن غبور آنئذ ، وكان في السادسة والعشرين ، بالشاب المستقيم النظيف الذي يعتمد على أخلاقه ويركن إلي سمعته ، وقد كانت أخبار سهراته الحمرا ، وغير الحمراء حديث عائلته ومسلاة من يعرف ومن لا يعرف من الناس . ولا بد لكل شاب أن يمر بهذه الفترة التى يخضع فيها للنزوات ويجري وراء اللذات حيث يجدها ، كل هذا دون أن يذكر شيئا عن مغامراته وصبواته . ولكن الأمر كان مختلف مع غبور كل الاختلاف ، فهو لم يكد يغازل فتاة في الطريق حتى يعود بحديث هذا الغزل إلى أمه يقصه عليها . ومن ثم تقله الأم فخورا إلى أختها ؛ ولا يمضي يوم أو يومان إلا وخبر هذا الغزل الطائر قد تسرب ليس إلى
الصغير والكبير في عائلته وحسب ، ولكن إلى الصغير والكبير في بيت خالته أيضا ، وفي بيوت الجيران أحيانا ! ولا يختلف الأمر إذا سهر سهرة راقصة أو عشى حفلة يشك في براءتها أو أنفق ليلة حمراء صارخة الاحمرار ؛ ولهذا كان غبور افندي مضغة في الأفواه . لم يكن محبوبا من أقاربه ، ولم يكن يحبه زوج خالته على الخصوص ، أما خالته فقد كانت تعطف عليه لا لكونه شخصا أ جديرا بالحب ، ولكن لكونه ابن أختها فقط !
وكانت خالته تلمح في عينيه رغبته في ابنتها ابتسام كلما دخل دارها ، الأمر الذي لم يكن يفعله إلا في فترات متقطعة ، متحاشيا كثرة التقائه بزوج خالته ، وكانت تود من صميمم قلبها أن تزوج ابنتها من ابن أختها ، ولكنها كانت تخاف استهتارة ، وعدم أخذه الحياة مأخذ الجد . وعندما تقدم غبور من زوجها يسأله يد ابنته أمه حتى يفكر في الأمر . ودارت بين خالته وزوجها مشاورات دامت أكثر من شهر انتهيا بعدها إلى ضرورة رد الفتي ردا قاطعا لا رجوع فيه .
ومضي عام وغبور سادر في استهتاره ومجونه ، بينما كانت رغبته في ابتسام في ازدياد . وتقدم مرة أخرى إلى زوج خالته يطلب يد ابنته فأمهله حتى يفكر في الأمر . ودارت بين خالته وزوجها كما دارت منذ عام مشاورات دامت أكثر من شهر ، انتهيا بعدها كما انتها بها في للمرة الأولى إلى ضرورة رد الفتي ردا قاطعا لا رجوع فيه !
هنا ابتأس الفتى واغنم وطوي رغبته في نفسه وتمادى في حياته المستهترة الماجنة لينسى فيها فكرة الزواج من هذه التي ردها عنه زوج خالته والتي كان يحمل لها في قلبه كل حب واحترام .
وكانت ابتسام من هذا النوع الرقيق الحاشية ، العزيز النفس ، الذي تجرحه الكلمة وتثيره البادرة غير المقصودة ، وكانت جادة في حياتها لا تعرف غير الصوم والصلاة والذهاب كل أحد إلى الكنيسة ، وكانت تبتهل إلى ربها أن يسوق لها فتى أحلامها . . ولم يكن فتى أحلامها الذي تتمناه اكثر من شاب متزن لا يؤذي شعورها بفعل ولا يجرح عزتها يقول . وكانت نادرا ما تضحك ، كان يكفي في أشد المواقف
وأدعاها للضحك أن تبتسم ابتسامة قصيرة فائرة تعود بعدها إلى إطباقها وجدها .
لم يكن غبور ابن خالتها إذا موضوع تفكيرها وأمنيتها ، فقد كان مستهترا في احاديثه كما كان مستهترا في حياته ؛ لم يكن يهتم بمن حوله من الناس نساء كانوا أو رجالا ، فيتحدث بما يليق بالحضور ، وكثيرا ما كانت تخرج ابتسام من الحجرة التي يكون فيها وهي تكاد تنفجر غضبا وحنقا لأنه تفوه بكلمة خرجت قليلا عن حدود البراءة ، أو دخل بها قليلا المنطقة التى يتحدث فيها الرجال وقد خلا مجلسهم من النساء .
ولكن ابتسام كانت قد رأت ابن خالتها فترت زياراته أو كادت تنقطع كل الانقطاع . فسألت والدتها عن السر ذات يوم ، فأجابتها أمها : " ما رأيك في غبور يا ابتسام " سؤال قصير انزلق من بين شفتي الأم . ولكن ابتسام كانت جامدة تعابير الوجه ، فلم يظهر عليها غضب أو فرح وقالت بهدوء : " لا يعجبني حديثه " . ومضت أيام واجتمعت الأم والفتاة وانزلق لسان الأولى للمرة الثانية : " غبور طلب يدك يا ابتسام " . فقالت الفتاة : " متى ؟ " مرة منذ عام وردناه . . ثم مرة أخرى في الشهر الماضى ورفضناه أيضا . " قالت الفتاة في هدوء " أحسنتما صنعا " ومضى عام آخر وتقدم غبور أفندي يسأل زوج خالته يد ابنته ابتسام ، فأمهله بعض الوقت ليفكر في الأمر . ولم تدر المشاورات هذه للرة بين خالته وزوجها وحسب ، بل دارت بينهما وابتسام نفسها ايضا . قال الوالد : " للمرة الثالثة يا ابتسام يطلبك ابن خالتك ؛ لقد رددناه في المرتين الأوليين دون أن تأخذ رأيك في الأمر . أما الآن فسنترك لك الحرية في هذا الموضوع . أنت الآن في السابعة والعشرين فتاة مكتملة السن ناضجة . فكري في الأمر وخذي من الوقت ما يحلو لك، ثم أخبرينا بما ترين . "
وهكذا تركت ابتسام وحدها تقرر مصيرها بنفسها ، لقد كانت عادية في كل شئ . ولم يكن بياض بشرتها بكاف لاجتذاب العرسان إليها . حقا ، لقد أتاها خطاب كثيرون ولكن ممن جاوزت سنهم الأربعين أو الخامسة والأربعين ، زملاء أيها الباشكاتب بوزارة المواصلات ، ولكنها ككل
فتاة أخرى ، كانت تريد شابا في مثل سنها أو يزيد عليها قليلا ، لا رجلا في مثل سن أبيها أو حول هذه السن ، وجعلت المسكينة منذ يومها ذاك تفكر . إن هى ردت غبورا فسوف يطول بها الانتظار ، وقد يفوتها قطار الزواج إلى الأبد فتبقى عانسا إلي ما شاء الله ، أو تضطر آخر الأمر إلى قبول خاطب من هؤلاء الخطاب الذين يعانون عن طريق والدها ، كبيري السن مثله ! وإن هي لم ترد غبورا وقبلته لها زوجا فسوف يعيشان دائما في خصام وشجار : فطباعهما متنافرة ، هو مسرف مبذر وهى شحيحة أو كالشحيحة ممسكة اليد . هو مستهتر وهي جادة ، هو مندفع في كل شئ وهي متزنة متروية ، هو يحبها وهي لا تحبه . . آه عند هذه الكلمة لاحظت ابتسام شيئا غريبا ، فهي قد اعتادت أن " تكره " غبورا فيما مضي من الأيام ، ولكنها الآن لا " تكرهه " ولكن " لا تحبه " وفرق في نظرها ، بين الكراهية وعدم الحب ؟ قد يكون عدم الحب أهون من الكراهية ؛ أليست ابتسام كفيلة أن تجعل من زوجها رجلا كاملا ؟ ! إنه يحبها ، وهذا يكفها . الا يمكن أن تقوم اعوجاجه وتجعل منه شخصية محترمة بين الناس ؟ ! إنه الآن في الثامنة والعشرين ، وهي وإن كانت تصغره بعام فشخصيتها كانت أقوي من شخصيته بكثير ، وهي بذلك تستطيع أن تطغى عليه فلا تهدمه بهذا الطغيان ، ولكن تبنيه عن طريق القياده لها وإرضائه أمانيها في أن تصنع منه حلم كل امرأة في رجلها وحلم كل رجل في نفسه .
مضت ستة أيام فكرت فيها ابتسام طويلا ، وانتظر والدها كلمتها بفارغ صبر ممزوج بشيء من الطمأنينة ، وهل يعقل أن تقبل ابتسام رجلا تكرهه ؟ ! ولكن تأتي ابتسام ذات صباح وتبادر أباها وهو جالس إلي مائدة الإفطار قبل خروجه إلى عمله ، وقد وقفت أمها تهيئ المائدة : " لقد رضيت بابن خالتي زوجا . " عندئذ يندهش الوالد : " ولكن فقاطعته ابتسام : " لقد فكرت في كل شئ . واستعرضت كل العواقب . . ألم تفوضا لى الأمر ! لقد قبلت غبورا ، " أما أمها فباركت هذا الزواج ، وأما أبوها فقبله على مضض .
تزوج قبور من ابتسام وحدث ما كانت تتوقعه الزوجة
ذات الشخصية القوية . حدث أن اعتدلت حياة زوجها وانصلح حاله : من البيت إلى العمل ومنه إلى البيت ، وهو عليها بل يعبدها عبادة ، وهي تحس أن كراهيتها القديمة له لم تكن مبنية على أساس ، أين غبور الآن من غبور طالب يدها قبل عام أو عامين ؛ ولقد حدث ما لم يكن متوقعا قط من الزوج المحب العابد ، حدث أن ابتاع لأول مرة في حياته كتابا ، وكان هذا الكتاب قصة يول وفرجيني ، وجعل يطالع فيها بمحضر من زوجته كل يوم فصلا أو فصلين .
وأصبح غبور أفندي ، أخو الرذيلة في الماضي ، الفضيلة ذاتها ! أين حياة العبث في الماضي من حياة الاستقامة والترفع في الحاضر ؟ أين انحطاطه قبل زواجه من سموه بعد هذا الزواج ؛ لقد كان غبور يقدر زوجته الفاضلة كل التقدير ويحترمها كل الاحترام لأنه كان يشعر في دخيلة نفسه أنها قد صمت منه إنسانا ، وقد كان حيوانا أو كالحيوان ؛ كما أن ابتسام بدأت تقدر زوجها وحترمه وتحبه لأنها كانت تشعر بأنه صار علي يديها شخصا آخر لا يمت إلى الشخص الأول بصلة .
ومضي عام . . ولم تأت ابتسام بالولد ، ومضي عام ثان ولم تأت ابتسام بالولد ، برغم ترددها على الأطباء ومضى عام ثالث ولم تأت ابتسام بالولد ، ولاح على غبور أفندي الضيق اكم كان يحب أن يري " أولاده يلعبون ويمرحون في أرجاء بيته كم كان يحب أن ينادى " يا ، بابا " كما يحب سماع هذه الكلمة كل رجل في هذه الدنيا ! ولكن ابتسام كانت عاقرا ، لا أمل في أن تعطيه ولدا ولا بنتا ، وكانت تتظاهر بعدم اهتمامها للأمر بينما هي في غاية الحزن ، فكم كانت تريد أن تعطى زوجها ابنا وان تكون أما وأن تنادى هي أيضا : ماما ، ماما ، كما تحب سماع هذه الكلمة كل امرأة في هذه الدنيا ! .
وجأة مرضت ابتسام ولزمت الفراش ؟ ولم يشخص مرضها تماما أول الأمر ، وعولجت علاج التيفوتيد بينما مرضها الأصلي كان يثبت جذوره في رأسها . . فقد اكتشف بعد فوات الوقت أنها كانت مريضة بالحمى المخية الشوكية .
وأصبح غبور أفندي من بدء شعورها بالتوعك
وملازمتها الفراش لا شاغل له إلا السير على راحة زوجته المريضة : لم يبخل عليها بطبيب رغم ضآلة راتبه وقلة ما ادخره في صندوق التوفير . وكان عندما يجار الطبيب في تشخيص المرض وتنقد حياته في علاجها يأتي زوجته بطبيب آخر اكبر وأشهر حتى مضت منذ بدء العلاج الخاطئ خمسة وعشرون يوما ، فجاءها بالطبيب الذي لا يعاد عليه طبيب آخر في القاهرة . عندئذ عندئذ فقط عرف وعرف أهل البيت أنها مصابة بمرض خطير ، الأمل في شفائها منه يكاد يكون معدوما لسببين : أولا أن علاجه جاء متأخرا ، وثانيا لأن علاجه غير ناجح مائة في المائةحتى إذا عولج من بدء مهاجمته جسم الإنسان .
ويكتم غبور أفندي البكاء في صدره أمام زوجته . ليهون عليها الأمر ولا يفزعها ، ولكنه يبكي من قلبه آخر البكاء في مكتبه في الصباح وفي الترام وفي كل مكان يجد فيه نفسه وحيدا ! وهو يعطيها الدواء بنفسه ، وابتسام تنظر إليه صامتة مقدرة له كل ما يقوم به من أجلها . إنه لم يبخل عليها بأي شيء ؛ كان يصرف ماله على الأطباء وهي الأدوية دون النظر إلى شئ كأي زوج عب زوجته ويناضل الموت كي تعيش . . ولكن غبور أفندي رغم حزنه وبكاته على زوجته المريضة الميئوس من شفائها كان مختفظ في جيبه بورقة بيضاء مقسمة إلى ثلاثة أقسام : قسم للتاريخ ، وآخر لنوع الدواء ، وثالث لتمنه ؛ وكان كلما ابتاع دواء مهما ضؤل ثمنه دون قيمته وأثبت نوعه وسجل تاريخ شرائه . أجل لا شك في أن غبور أفندي كان محب ابتسام حبا جما . . ولم تكن هذه القسيمة القريبة التى كان يحتفظ بها في جيبه إلا نوعا من أنواع الإحصاء الذي يغرم به بعض الناس فجأة ولا غرض منه ولا نفع فيه : إنها هواية في ذاتها !
مضى الشهر الاول من وفاه ابتسام واحصى غبور أفندي ما صرف طيلة هذا الشهر فوجده يربو على الثلاثين جنيها صرفت بين الأطباء والأدوية . ومضى الشهر الثاني وكانت ابتسام قد تفاقم مرضها ؟ وأحصى غبور افندي ما دون في كشف حسابه - وما كان يريد فقط إلا الإحصاء فوجد مصاريف مرض ابتسام قد تعدت الخمسة والخمسين جنيها . وكانت ابتسام في اليوم الثاني والعشرين من شهر
مرضها الثالث وكانت في حالة خطرة جدا عند ما أحصى غبور افندي مجموع ما انفق حتى هذا اليوم فوجده واحدا وثمانين جنيها وستين قرشا .
وماتت زوجته . . وبكى علي قبرها كما لم يبك زوج على قر زوجته العزيزة من قبل قط . . ولكنه كان يحتفظ في جيبه في ذات الوقت بنسبة أثمان الأدوية وزيارات الأطباء ولم يكن غبور أفندي ، كما قدمناه إلى القارئ . من الرجال الدين يستطيعون العيش فرادى ، وربما كان ذلك ضيف أفقه وافتقاره إلي مقدرة الحياة والعيش في داخل نفسه على مدخرات النفس الخاصة . لذلك لم يمض أسبوع على موراة ابتسام التراب حتى فكر في الزواج من جديد ؟ وبهذا أبلغ أمه ، فاستنكرت هذه كلام ابنها ، لا لأنه أظهر اللهفه إلى زوجة جديدة محل المتوفاة ، ولكن لأنها كانت تخاف لوم الناس واستنكارهم ولأنها لم تكن تدري . إذا حدث وتزوج ابنها مرة ثانية بهذه السرعة كيف تقابل أختها وجها لوجه ! أليستا أختين ) ألم تكن الراحلة وغبور افندي أولاد خالات
استنكرت أم غبور رغبة ولدها أول الأمر ؛ وتراخى استنكارها في الأسبوع الثاني من وفاة زوجة ابنها ؛ وأطرقت في الأسبوع الثالث عند ما ذكرها ابنها برغبته الجدية في الزواج ، وقالت له أمه في الأسبوع الرابع : وماذا يملك بابني الآن تزوج به ؟ أنفقت كل ما كان عندك على المرحومة ؛ عندئذ ابتسم غبور أفندي ، هاوي الإحصاءات
سابيع عفشها ، وقد يساوي مائة جنيه .
- ولكنه كان عفش ابتسام ولا بد من رده إلي زوج خالتك
إنه رجل طيب القلب ، ولن يسأل عنه . وإذا فرض وسال عنه واسترده فسوف أطالبه . .
- بماذا
بواحد وثمانين جنيها وستين قرشا .
وما هذه
هذه هى مصاريف علاج المرحومة .
مصاريف علاجها ؛ اجننت حتى تطالب زوج
خالتك بهذا ؛
- وهل كنت ملتزما بمداواتها ؟ ! .
ولكن أم غبور اقتنعت في نهاية الجدال أن غبور أفندي لم يكن ملازما بعلاج زوجته . . وانه كان يمكن أن يكون ملازما بهذا إذا كانت ابتسام - المرحومة - قد شفيت وردت إليها الحياة ، أما وقد ماتت فبأي حق يكون ملازما بهذا العلاج ؟ !
مائة وثمانون جنيها وستون قرشا : المائة الأولى منها ثمن العفش الذي قد " يصهين " عليه غبور أفندي ، أو الذي قد يتنازل عنه لغبور أفندي زوج الخالة . والثمانون جنيها والستون قرشا ثمن علاج ابتسام . . بهذا المبلغ مجتمعا فكر غبور افندي في الزواج من جديد .
- ألا تعرفين فتاة مناسبة يا أماه ؟ قالها غبور أفندي وهو يفرك يديه مبتسما . - البنات كثير بابني . . أنا فكرت لك في واحدة . - عظيم ! - أتعرف وداد بنت محسن أفندي - قطعة لا بأس بها . قالها متهللا ، واستطرد مستدركا : - ولكن كيف نتصل بهذه العائلة ؟ ! - خالتي أم ابراهيم جارتنا تزورهم وتزورنا . سأسألها " تجس النبض " . وسأجيئك بالخبر اليقين . - تعالى أقبلك يا أماه . . - لا . انتظر حتم يتم الموضوع . - قول لها : " لها عندي الحلاوة . - إطمئن
ثم هذا الحوار في غضون الأسبوع الخامس بعد وفاة ابتسام ؛ ومضى بعض الأسبوع السادس وغبور افندي يحاول تصور كيف سيقابل زوج خالته ويطالبه بالواحد والثمانين جنيها والستين قرشا . . لا ، هكذا تمتم ، تكفى الواحد والثمانون جنيها . . دعنا من الكسور ؛ وفي اليوم الواحد والأربعين بعد موت زوجته . أى بعد " الأربعين " مباشرة ، وهي الفترة الرسمية للحزن التي يجوز بعدها عند بعض الناس أي شئ وأي فعل ، أعد حافظة نقوده لاستقبال المبلغ الموعود ، وانطلق ، كما بينا في مستهل هذا
الفصل ، إلى حميه : أبي زوجته المتوفاة : زوج خالته .
وزوج خالة غبور افندي رجل صارم تقاطيع الوجه . مضموم الشفتين دائما في إصرار ، مغضن الجبهة في جد . .
وكان يقرأ جريدة المساء عندما دخل عليه غبور افندي : - أهلا يا بني . " عاش من شافك " ! - والله يازوج خالتي المشاغل من جهة ومن جهة أخرى لم تعد لي رغبة في الخروج كثيرا هذه الأيام . لست أرى خالتي ! أين هى إذا ؟ ! - كما تعرف : ملازمة فراشها : لم يكن من السهل عليها أن تفقد ابنتها الوحيدة ، وحيدتنا : إنها لا تكف عن البكاء ليل نهار . . ولم يكن من أجل هذا الحديث التافه جاء غبور افندي ، ولكنه جاء لشئ آخر . . - والله يازوج خالتي جئتك في موضوع . . - خير إن شاء الله . - ولكني لا أعرف من أين أبدأ ! - خير الكلام ما قل ودل - إني محرج . - إذا كنت في حاجة ماسة إلي " سلفة " . . - المسألة طلب فلوس صحيح ، ولكن على الا تكون سلفة . . - لا أفهم ؟ !
عندئذ أخرج غبور افندي قسيمته المشهورة من جيبه وقدمها بيد مترددة إلى زوج خالته الذي ازدادت تقطيبة جبهته ، وضمة شفتيه وإصرار ملامحه ، وقال غبور افندي : - حضرتك تعرف أني صرفت كل فلوسي ومدخرى على ابتسام في المدة الأخيرة . .
وكان الرجل العجوز الجهم الوجه ينظر في قسيمة غبور افندي ولا يفهم ماذا كانت تعنى وماذا كان يقصد بها زوج ابنته الراحلة .
- ما هذا ؟ - لقد جئت أسترد " هذا البلغ . - تسترد !
- أجل . ألم تكن أبنتك ؟ - ولكنها كانت زوجتك ! - لست ملازما بنفقات علاجها . - أنت تقول هذا كما قد يقوله رجل جاهل ، ليست عنده ذرة من احساس أو شعور أو فهم . أكرر أبي لست ملازما بمصاريف علاجها ، إني أريد الواحد والثمانين جنيها والستين قرشا . . دعنا على أي حال من الستين قرشا . .
- أقول هذا جادا ؟ ! - كما لم أقل شيئا مجد في حياتي من قبل أنت أبوها . وأنت الذي كان يجب أن يتولى علاجها لا أنا .
- إني أعرفك أنت حقير ودنئ . لقد تزوجت ابنتي للمتعة . لم " تشبكها " بشيء له قيمة ، وجئنا نحن " بالجهاز " ولم تتكلف أنت شيئا ؛ وهكذا أخذت البنت على الجاهز . ثم إنك أنفقت معها أربعة أعوام كلها متعة ، متعة ، متعة .
وعندما ماتت المسكينة جئتني تطالب بمصاريف علاجها ! أنت حقير ودنئ . أنا أعرفك . لو أن فيك نقطة دم وشيئ من الإحساس والشعور لفكرت قليلا - ولو أن هذه الفكرة تؤلمني وتمزق نفسي تمزيقا - أقول : لفكرت قليلا في أن " تتنازل " عن مطالبتك بهذه الواحد والثمانين جنيها والستين قرشا كثمن لهذه السنوات الأربع التي عشتها مع ابنتي تحت سقف واحد ، ثم يدفعه أي رجل لأية امرأة في الطريق من أجل المتعة . . وياله من ثمن بخس ، تدفعه لعذراء كابنتي . أنت تطالبني بواحد وثمانين جنها وستين قرشا وهي مصاريف علاج ابتسام ، ولكي أطالبك منذ الآن بدفع ثمن تمتعك بابنتي طيلة هذه الأعوام الأربعة الماضية . .
- تطالبني بثمن . - أجل . إنها لم تكن في نظرك سوى " امرأة " لا " زوجة " . - امرأة لا زوجة ! - نعم إنك حيوان . . ومع كل فالحديث مع أمثالك لا يجدي . إنك تذل . سأعطيك ما تطلب على شرط ألا تجعلني أرى وجهك منذ اليوم .
وقذفه بقسيمة المصاريف العلاجية بغضب ، فتهاوت على الأرض .
عندئذ اختلط الأمر على الشاب ولم يدر ماذا يصنع ! لقد أحس ، ولم يدرك كيف هذا الإحساس ، ولعل ضميره استيقظ عند سماعه زوج خالته ، إنه فعلا ليس إنسانا . . تذكر زوجته للتو : هذه المرأة التي رفعته وكان ساقطا ؛ هذه المرأة التي ألح في طلبها ثلاث مرات في ثلاثة أعوام متعاقبة حتى تزوجها ؛ هذه المرأة التي أحيت فيه " الإنسان " وكان من قبل شبها بالإنسان ؛ هذه المرأة التي قبلته ولم يكن مقبولا عند أبيها ؛ هذه المرأة التي خاطرت بزواجها منه وكانت واثقة من اصلاحه على يديها ، هذه المرأة التي أوحت إليه شخصيتها ذات يوم أن يبتاع أول كتاب في حياته : بول وفرجيني ، ويقرأه معها كلة كلة وصفحة صفحة . . تذكر غبور أفندي هذه المرأة ، زوجته الراحلة ، فجأة ، ووجم ، وأحس غصة في قلبه ورعشة في نفسه ، وأجهش بالبكاء .
حدث كل هذا في لحظات تسربت بعدها الدموع من عينى الشاب بغزارة ، وجعل يبكي وينشج نشيجا كان محاول كتمانه دون جدوى ، وسكت فجأة ومديده إلى قسيمة الواحد والثمانين جنيها والستين قرشا الملقاة علي الأرض ومزقها إربا إربا بأصابعه المبتلة بالدموع وقال ، وهو يشرق في عبراته .
- لم أكن استحق ابتسام ! لم أكن استحق ابتسام ! إني شخص حقير . . دنيء . وأجهش بالبكاء مرة أخرى وفزع من مجلسه ، وقبل أن يبرح الدار تمم لزوج خالته الذي فوجئ بهذا التحول العجيب : - " جهاز " ابتسام تحت أمركم يا زوج خالتي لتتصرفوا فيه كيفما يحلو لكم .
وجذب منديله الحريرى الذي كان يتهدل من جيب صدر جاكتته ليجفف به دموعه ، كما أزاح طربوشه إلى الخلف في إهمال وفي طريقه إلى داره فكر في أن يلغي فكرة الزواج للمرة الثانية . . ولو إلى حين
