رأت حكومتنا الجديدة - اصلح الله رايها - ان تجنبنا عادة كريهة تشين سلوكنا الاجتماعي ، راغبة منا ان نعرض عنها حتى نزيل عنا كل ما يذكرنا بالعهد القديم ويرجع بنا الى العصور الوسطى وتقاليدها المقيته ومن بينها تقبيل الرجل الرجل او الانكباب على صدره والانحناء على بطنه . وقد تنبه الى ما فى القبلة من عدم اللياقة والخروج عن السلوك الحسن جماعة من القدماء رأوا ان التقبيل فى الحفلات او عند الالتقاء في الطريق يثير السخرية والتهكم وان كانت القبلة فى اصل معناها علامة على الصداقة وطيب النية او الاحترام والاجلال لمن تقبل جبينه او يديه .
وقد كانت عادة التقبيل شائعة منتشرة في بلاد الشرق وكانت القبلة تدل على الخضوع والطاعة ثم سار الغرب على اثر الشرق منذ اقدم العصور ولا سيما ايام الرومان ومن بعدهم حتى اصبحت القبلة واجبة يطالب بها البابا رعاياه ، وكان اشد الباباوات تمسكا بهذه العادة حرير السابع اذكان يرى فى القبلة دليلا على الطاعة المتناهية وكان يلبس خفا قد رسم عليه صليب صغير يقبله كل من استطاع ان يقترب منه . ولا تعجب لهذا السلوك وانت تذكر تقبيل الرجلين عند العرب وتقبيل الارض بين يدي الملك عند الفرس بل اعجب لهؤلاء الذين لم يكفهم ان قبلوا خف البابا والبابا لا يزال حيا فقبلوا خفه وهو ميت مدوه على فراشه ليراه قبل رحيلة من كان يحسب ان البركة قد نزلت حتى فى الخف .
ولكن القبل لم تكن نصيب رجال الدين ومن يتمح بذيولهم فحسب بل كان على عبيد الارض والطغام ان يقبلوا جبين سيدهم ومن يوليهم بعض الاقطاعات او ان يقبلوا عينيه ويديه او رجليه وركبتيه حسب هوا والعادة الجارية فى بلادهم واغرب من ذلك ان الرجل منهم اذ اراد ان يعبر عن اخلاصة لسيده وكان سيده
غائبا فى صيد او غزوة لم يسقط عنه فرض القبلة فقبل مترس الباب ومغلاقه وشهد الحاضرون انه قام بما يجب عليه واخبروا بذلك سيدهم عند عودته .
زد على ذلك ان القبلة - وان كانت فى قديم الزمان صورة جميلة من صور السلام والتحية ، او علامة على الرضى والصداقة بعد العداوة - ما لبثت ان فقدت معناها فاصبحت صورة بشعة تمثل الخداع والغدر والنفاق . فهذا يواب (joab) احد قواد داود (david) يحسد عمسه (amasa) وكان قائدا مثله فسلم عليه يوما قائلا : "صباح الخير يا اخي" ومد يده اليسرى إلى دقن عمسه مرحبا به وتناول سيفه بيده اليمني فبعج به بطن قرينه فاخرج مصارينه من وراء ظهره ! ثم هذا عطيل الاسود (othello) في رواية شكسبير يقبل زوجته قبلتين قبل ان يختنقها فيزهق روحها . وتلك يودث (judith) تقبل القائد هلفرن (holopherne) ثم تقطع له رأسه وهو نائم فى فراشه ... ثم اذكر قبلة يهوذا ليسوع وقد ضرب بها المثل تعلم ان القبلة ليست أحيانا الا صورة فظيعة من الغدر والخديعة والنفاق ولعلك تشمئز نفسك من كل قبلة اذا ذكرت ان المتآمرين على قيصر قبلوا وجهة ويده وصدره قبل ان يقتلوه تلك القتلة الشنيعة التى حدثنا عنها بلوترك (plutarque)
فانت ترى ان القبلة - وهى من اعظم خاصيات الجنس البشرى اذ لا يشركنا في عادة التقبيل الا الحمام واليمام - قد تفقد معناه وفحواها فتصبح عقيمة جوفاء لا تدل على الحب والعشق ولا على الصداقة والاخلاص لا ولا حتى على السلام الدارج المعروف . وهيهات نحن من معاني القبلة عند بني الانسان فى اول عهدهم وقد كانت عند بعضهم رمزا ساميا وعملا مقدسا لا يشوبه كفر ولامراء . فان القدماء كانوا يقبلون الاصنام ولحاها اذا ما كانت لها لحى وكان عبدة سيريس (ceres) الهة الخصب والزرع يقبل بعضهم بعضا دلالة على الود المتبادل والتحالف المتين.
وقد كانت العرب فى الجاهلية تقبل آلهتها واذا لم يستطع العربى ان يقبل الهي لبعده عنه - كان يكون الاله شمسا او قمرا - قبل يده هو ثم لوح بها نحو الاه . وايوب يشير الى ذلك قائلا انه " لم يعبد الشمس والقمر كما عبدهما العرب ولا رفع يده الى فيه وهو ينظر الى الافلاك " . فالقبلة كانت صلاة وعبادة والقبلة
كانت رمز الصلاح والتقوى حتى ان القديسين بطرس ويوحنا كانا لا يختمان خطبهما الا بقولهما : " سلموا على بعضكم بعضا بقبلة مقدسة " ولقد انتشرت عادة التقبيل انتشارا عظيما في القرون الماضية ببلاد فرنسا وكذلك بانجلترا والمانيا حيث كانوا لا يحيون النساء الا بتقبيل شفاههن وكان من عدم اللياقة ومن سوء الادب ان تمتنع امرأة رآت رجلا يزورها لأول مرة من ان تقبل فاه ولو كان عظيم الشاربين ، حتى قال مونتاني (monaignc) ناقما على عادة التقبيل : " هي عادة قبيحة وفيها مس بكرمة النساء اللواتى عليهن ان يعرضن شفاههن على من يتبعه ثلاثة خدم مهما كانت بشاعته وثقل روحة " .
وهكذا يتبين لك ما جعلنا نستصوب نظر حكومتنا الفتية فى عادة التقبيل ، اسفين لفقدان القبلة معانيها ورموزها السامية بعد ان تغنى بها الشعراء وشرب على ذكرها الندماء ، ونحن املون ان ما اصاب القبلة عند البشر من اليبس والجفاف لن يصيبها عند شركائنا من الحمام واليمام.

